اسلامی دوروں میں مصائب
البؤساء في عصور الإسلام
اصناف
كلمة للمؤلف
مقدمة
المصادر التي استوردنا منها كتاب البؤساء في عصور الإسلام
1 - علل البؤس
2 - تعساء الشقاء حلفاء الفقر
3 - بؤساء الحظ
كلمة للمؤلف
مقدمة
المصادر التي استوردنا منها كتاب البؤساء في عصور الإسلام
1 - علل البؤس
نامعلوم صفحہ
2 - تعساء الشقاء حلفاء الفقر
3 - بؤساء الحظ
البؤساء في عصور الإسلام
البؤساء في عصور الإسلام
تأليف
محمود كامل فريد
كتاب أدبي علمي عمراني اجتماعي، محلى بالصور ورسوم علماء الدنيا وفلاسفة الإسلام.
المؤلف: محمود كامل فريد.
كلمة للمؤلف
على البؤساء في كل المواطن
نامعلوم صفحہ
سلام الله ما خفقت سواكن
وألف تحية في كل وقت
لهم تهدى وإن بعدت مساكن
فكم لاقوا من الدهر الرزايا
وبلوى نبهت منهم بواطن
إليكم معشر القراء أهدي
عظات بينت كنه المعادن
كرام حالهم في الدهر بؤس
وهم أصل السعادة إن تقارن
إليكم معشر القراء أقدم كتابي هذا «البؤساء في عصور الإسلام»، وهو غاية ما عثرت عليه من تراجمهم؛ وما ذاك إلا لأني أعتبر نفسي كفرد منهم، ولم أكن مبالغا إذا قلت إنه من الكتب القيمة التي يميل إليها الأديب، ويعجب بها كل قارئ.
نامعلوم صفحہ
ولقد أخذت في تحريره وسرد مدهشات أبطاله، ونفسي نازعة إلى فطاحل العلم والأدب البؤساء، وكأني بهم، وقد شتتهم الدهر ومزقهم كل ممزق فأصبحوا لصروفه هدفا، وباتوا لا يعرفون للحياة طعما ولا للوجود قيمة، وصرت من جراء ذلك أحن إليهم حنينا متواصلا لصلة النسب بيني وبينهم. ومهما أجدت في سرد أخبارهم، وأتيت بالمنقول من رسومهم التي صوروها في بعض مؤرخاتهم؛ فالقريحة جامدة ليس في استطاعتها وصف بلوائهم بالمعنى الحقيقي؛ وكيف أصف مصائب حاقت بهم، لو نزلت برضوى لزلزلته! وليتها مصيبة تزول، ولكنها اقترنت بسوء الطالع، وناهيك بمحن الوجد الذي باتوا فيه، والفقر المدقع الذي عانوه، وشواغل البال التي شغلتهم عن واجباتهم.
أسأل الله أن يجعله خير معين لكل مبتئس، ويهدي تلك الطائفة التعسة سواء السبيل، يرقق عليهم قلوب عباده القاسية.
محمود كامل فريد
مصر، تحريرا في يونيو سنة 1925م
مقدمة
«اللهم عفوا وصفحا» قد قضت حكمتك أيها الخالق منذ الأزل، وجرى القلم بما هو كائن إلى الأبد، ونفذت إرادتك على جميع من أطاع وصخد، خلقت الخلائق بقدر مقدور، ورزق محدود، إلى أجل ممدود، ونفس معدود، وجعلت منهم سعداء وفقراء، وضعفاء وأقوياء، وقد تاهت الأفكار في نظام كونك الباهر، وتدبيرك في أمر خليقتك، وعجزت العقول عن إدراك هذا السر الغامض. اللهم لا اعتراض لحكمك الساري، وعدلك الذي شمل الخلائق، وبلبل ألباب الفلاسفة، وأبكم كل ناطق.
بينما تخلق الطفل فلا يمكث غير يوم، وآخر يقضى عليه وهو جنين، وغيره يعيش أعواما، وذاك يفقد أبويه فيعيش يتيما أو لطيما فيسعد أو يشقى، وهذا قد عاكسه القدر فبلغ من العمر أرذله، وهو سقيم فقير الحال يهرب منه من يراه. ثم نجد شيخا قد بلغ منتهى الأجل وهو في بسطة من العيش، يرتع في بحبوحة الغنى لا يعرف للفقر اسما، ولا للذل رسما، ثم يموت وهو سعيد مرزوق والسعد طوع أمره، وحينا ننظر إنسانا تنغصت عليه حياته ونبذته الأيام؛ فعاش شقيا ومات محروما، وكما نبصر هذا نجد آخر يسعد تارة ويفتقر أخرى، ثم إذا أمعنا النظر يتضح لنا أن كل ذي فكرة وقادة وفكر سليم، لا يخلو من ضنك وبؤس، بينما نجد الأبكم الجاهل يمرح في بحبوحة النعم. سبحانك جل شأنك، كأنك حاسبت القوم على قدر عقولهم، هذا بجهله وذاك بعلمه! وهكذا كان، يسعى البائس وهو العالم الكاتب الفيلسوف الحكيم العاقل المهذب فيشقى بسعيه ويحرم من كده، وكلما وجه أنظاره شطر جهة أغلقت أمامه أبواب رزقك، وكلما أكدى وتعب نأى حظه وغاب سعده وكان نصيبه الإملاق والحرمان.
سبحانك أيها الفتاح! لقد تاهت العقول في نواميس عدلك، وضلت الأفكار في قضائك وقدرك، سبحانك لا علم لمخلوق بمشيئتك، لا إله إلا أنت وحدك لا شبيه لك، ولا يعاندك في حكمك أحد.
المؤلف
المصادر التي استوردنا منها كتاب البؤساء في عصور
نامعلوم صفحہ
الإسلام
لقد اشتهر العرب في العصر العباسي بالتصوير على الجدران، وعلى صفحات الكتب، كحروف تخطيطية كانت ذات إتقان زائد، وبلغت دقة الرسم بالتخطيط مبلغا كان تقريبا للصورة الحقيقية.
وقد اطلعنا على كتاب قديم يرجع تاريخه إلى القرن الثالث الهجري رسم فيه مؤلفه جماعة من النوابغ الأعلام، نقلنا منه بواسطة الكربون طائفة كبيرة ممن نالهم البؤس وعاكسهم الدهر. واطلعنا أخيرا على عدة كتب مصورة يرجع عهدها إلى القرن الرابع والخامس والسادس، أتممنا بها بؤساء العصر العباسي.
ومن قرأ تاريخ الأندلس وجد أن الخليفة عبد الرحمن الناصر بنى قصر الزهراء الذي يضرب بفخامته المثل، وجعله مسكنا للزهراء جاريته وسماه باسمها «الزهراء»، ونقش صورتها على بابه رمزا للرسم التخطيطي.
وقال الشريف أبو عبد الله الجواتي في كتاب «النقط على الخطط» إن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى منظرة من الخشب مدهونة بالألوان، فيها طاقات تشرف على خضرة بركة الحبش، وصور فيها الشعراء؛ كل شاعر وبلده، واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر، وبجانب صورة كل منهم رف لطيف مذهب. فلما دخل الآمر هذه المنظرة وقرأ الأشعار؛ ابتهجت نفسه، وأمر أن يوضع على كل رف صرة مختومة تحتوي على خمسين دينارا، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده، وكانوا عدة شعراء.
وقد بنى الملك الأشرف خليل بن قلاوون الرفرف بالقلعة وجعله عاليا يشرف على الجيزة كلها، وبعد أن طلاه بالدهان الأبيض صور فيه أمراء الدولة وخواصها، وعقد عليه قبة على عمد وزخرفها، وكان يجلس فيه السلطان. وعثر في أطلال الحمراء بغرناطة في الأندلس على صورة تمثل مجلس قضاة على طراز عربي، يظن أنها من آثار القرن الثامن الهجري.
وإن من يزور خرائب الزهراء بإسبانيا، وآثار الفراعنة بمصر، والمعابد الأثرية في العالم يشاهد فوق أحجارها وعلى قوائم جدرانها نقوشا كثيرة من صور الإنسان والحيوان بالخطوط التقريبية.
وليس عهد الرسم التخطيطي عنا ببعيد، فلو نظرنا إلى دار العاديات المصرية، أو دار الآثار والكتب لوجدناها مشحونة بهذه الرسوم والأشكال، ومنها ما هو على ورق الكتان، ومنها ما هو على رق الغزال، أو على قطع تخطيطية بقضبان الذهب على حوانيت المومياء بما يفسر شكل ما فيها. ويعجب الناظر من جمال هذه الأشكال سيما محاسن النساء، وطلاوة الرسم الذي يأخذ بالألباب.
ولا عجب إذا نقلنا من هذه الصور ما طرزنا به هذا الكتاب، إننا رسمناها نقلا بواسطة الورق الشفاف والكربون.
هذا ولا يخفى أن هذا آخر ما وصلت إليه براعة العرب في التصوير التخطيطي؛ لأن الفوتوغرافية (آلة التصوير) كانت لم تكن معروفة في ذلك العهد.
نامعلوم صفحہ
وتناول الرسم الفوتوغرافي رسما أو اثنين هما آخر ما عثرنا عليه من المؤلفات المصدوقة مرسومة بالفوتوغرافية، وإلى هنا أقف عند هذا الحد مقتصرا على ذلك، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
القسم الأول
علل البؤس
البؤس «البؤس» من حيث تعريفه: دمار عاجل، وموت أدبي، ترتاع منه النفوس، وترتعد عند ذكره الأبدان. وهو الغاية التي تزعزع أركان العالم، وتحول القلوب عن أغراضها وميولها، وتجندل الشجعان من غير حرب، وتجعل القادر عاجزا. وربما انقلبت إلى العكس؛ فتهب للعاجز قوة ونشاطا لينتقم من نفسه أو من غيره ليستريح من عوارض الأقدار. والبؤس والأمل ضدان؛ إذا استقوى أحدهما على الآخر ظهرت النتيجة واضحة. ويتضح من ذلك أن اليأس إذا استقوى على الأمل كان البائس من أتعس خلق الله تعالى وأشقاهم، وأصبح الموت إليه أمنية تتوق إليها نفسه؛ فتجده مستبسلا في مواقف الإعدام بغير مبالاة ولا حذر، ولا خوف ولا فزع.
وأما إذا تغلب الأمل على اليأس نفخ الله تعالى في روح هذا البائس أملا يبدد شكوك أوهامه؛ فينشط من عقال اليأس، ويخرج من وهدة الخمول؛ طارحا رداء الكسل والقنوط. وسامرته الأحلام اللذيذة والأوهام المفرحة؛ فيشيد من الأوهام قصورا، ومن الآمال حصونا، ويشعر وكأن الأماني قد انقادت له؛ فيظل متعللا بها، وينتظر ما ستجيء به الأيام يوما بعد يوم، وكأنما تلك الأوهام خففت عليه ويلاته؛ فيناجي السعادة، ويتسلى بتلك التصورات الشائقة التي صار يأتنس بها، وصارت تشجيه وتلهيه، ولو أنها لا تشفيه ولا تنفعه، ويقول - معللا نفسه: «إن المستقبل كفيل براحة الإنسان.»
مع أن الحقيقة فيما قالت الحكماء: «لا يأس مع الأمل، ولا أمل مع اليأس.» وهيهات أن ترى بائسا إلا والقنوط أول دعاويه، وهو العلة التي يبني عليها أسباب يأسه وبؤسه، ولم يقتصر على ذلك حتى يتهم الأقدار في دعوى اعتلاله. «ومن البؤساء» قوم ينسبون أسباب بؤسهم للذات العلية، معترضين على سوء حالهم وسعادة غيرهم.
وهيهات أن ترى بائسا في مكان إلا والشقاء مخيم عليه، وعواصف الأقدار تلعب به كريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال، ولا تدري إلى أي جهة أو هاوية تلقيها العواصف.
وكثير من البؤساء عندما يشتد بهم البؤس؛ يرغبون في الموت بكل وسيلة، ويناجون الهلاك بوجدان شديد، وشعور غريب؛ فتنطمس أمامهم الحقائق، وتصغر العوالم، وتضيق عليهم الدنيا على اتساعها؛ فيزدرون بالكون وعظمته، والدنيا وبهجتها، والمجد وأبهته، والسلطان وصولته، وتغيب عنهم الذاكرة فيجحدون الخالق والمخلوق، ويشذون عن طبيعتهم، وينكرون المطامع والآمال، ويرسخ في اعتقادهم أن الله اختصهم بالبؤس دون الناس؛ لأنه تركهم وتخلى عنهم. ثم يعودون إلى هداهم؛ فيعلمون أن الدنيا متاع غرور، وهناء موهوم، وأمل كاذب، وسرور باطل، وظل زائل، يمقتها اللبيب ويحتقرها العاقل.
والبؤس على كل حال مميت الشعور، مذهب الإحساس، مدل على الموت، مجلب للفناء والهلاك. ولهذه الأسباب أصبح البائس يتشجع للردى، ويستهدف للحتف، ويحن إلى الموت، ويعبث بالأهوال، وما هي غير فترة ثم تراه حاقدا على نفسه، ناقما على غيره، ويشعر أن حياته أصبحت حملا ثقيلا عليه، كأنه عالة على المجتمع الإنساني، وتصبح تلك الحياة لا قيمة لها عنده، وتتسرب إلى مخيلته فكرة الموت؛ فيستنبط الحيل التي تسهل له طريق الانتحار، ومتى تهيأت له هذه الحيلة سعى في تنفيذها ليستريح من عذابه، غير هياب من الموت وشناعة الانتحار، وسيان عنده إن لامه الناس أو عذروه، أو أصبح في أفواه الجميع سبة إلى الأبد؛ فيقابل الموت بوجه طلق، ويعاني حشرجته بثغر ضاحك ما تعود الابتسام في ساعة القنوط. وقد جاء في أمثال الحكماء: «خف من البائس فإنه لا يخاف.»
وقال بعضهم:
نامعلوم صفحہ
إني تركت لذي الورى دنياهم
وظللت أنتظر الممات وأرقب
وقطعت عن نفسي المطامع ليس لي
ولد يموت ولا عقار يخرب
أنواع البؤس
والبؤس مهما تنوعت مصائب الناس في أسبابه وحصوله ينقسم إلى ثلاثة أقسام أصلية، وهي:
القسم الأول:
علل البؤس.
القسم الثاني:
تعساء الشقاء حلفاء الفقر.
نامعلوم صفحہ
القسم الثالث:
تعساء الحظ.
هذه هي الثلاثة أقسام الأصلية، وجميع أنواع البؤس ينحصر في هذه الأقسام، وأما ما زاد على ذلك فيعتبر فروعا لها. «والبؤساء» على تباين مقاماتهم وعقولهم يختلفون باختلاف الأطوار والأعمال؛ فمنهم من تلاحظه العناية فيخلق سعيدا مرزوقا من المهد إلى اللحد، ولكنه مصاب بعلة من العلل التي تعترض البؤساء أصبح من أجلها بائسا، مهما كانت درجته وسمو مركزه وعلمه وحظه. «ومنهم» من يرزق الحظ والغنى، ولكنه في حاجة إلى غرض يجد نفسه في شدة الشوق إلى الحصول عليه، وكل ميوله متحولة إليه، وإن لم ينله أصبح منغصا. فإذا اعتبرناه بائسا فما ذلك إلا لأنه يطمح لأمنية، والفرصة غير سانحة له، ونقدر ميول نفسه لهذه الأمنية بقدر درجة بؤسه وتعاسته، مهما كان غنيا ومهما كان سعيدا. «ومنهم» من يكون سعيدا بغناه، يعطي ويتصدق وهو في أمن ودعة ورخاء عيش، يهب ويمنح إلا أنه بعد زمن تزول عنه هذه النعمة فيصبح فقيرا بائسا. «ومنهم» من يخلق سعيدا؛ كأن يكون ابن ملك أو أمير يتمتع بجميع أسباب الغنى والسعادة واليسار، ويتولى الملك بعد أبيه، إلا أنه مصاب بمرض يلازمه من وقت إلى آخر؛ فيقضي على أسباب سعده وينغص عليه هناء عيشه في بحبوحة مجده. وهذا يعتبر من البؤساء لأنه مصاب بعلة تجعله كئيبا فهو بائس، «وفي عرف الفلاسفة» أن من أصيب بعلة أو مرض مهما كان غنيا أو ملكا فهو بائس؛ لأن المعافى من البؤس من كان سليم الجسم سليم البنية سليم العقل، يتمتع بثروة طائلة، وزوجة صالحة، وذرية طيبة، فهذا هو الخالي من البؤس، وأما من كان منغصا في حياته ببعض الطوارئ فهو بائس. «ومنهم» من يسعد تارة ويفتقر أخرى، وهذا أيضا من البؤساء. «ومنهم» من يصادفه البؤس عرضا؛ كأن يكون غنيا فيسرق ماله، أو تاجرا فتلتهم النار تجارته؛ فيجفوه زمانه، وتعاديه إخوانه. «ومنهم» من يجور عليه زمانه، فيغضب عليه سلطانه؛ فينفيه إلى أبعد البلدان ويشرده عن الأوطان، ويشتته عن الإخوان، فيعيش في أسوأ حال. «ومنهم» من يصاب بالجنون فيختل نظامه، ويعتل كيانه. «ومنهم» من يكون ممتعا بالخيرات، محفوظا بالبركات، فيقع في معصية، أو يصادفه البؤس من طريق عدو مباغت، أو عذول مزاحم. «ومنهم» من يباغته الوجدان، فيهيم بمحاسن الجمال الفتان - وهذا النوع من البؤساء بالمعنى الحقيقي؛ لأنهم يتحملون علاوة عن علل الأوصاب عواطف الحب، والميول الغريبة، والأشواق، والغيرة، والهم، والحزن، والقلق، واشتغال القلب بمحاسن المحبوب إلى غير ذلك - وإذا رجعنا إلى سبب البؤس وجدناه لا يكون إلا من علة الفقر.
ومن الغريب المدهش أن البؤس عادة لا يحل إلا بالفطاحل الأعلام - علماء الدنيا - وفلاسفة العالم، ولا يعترض إلا حكماء الكلام، وحملة الأقلام، والحكماء والشعراء، وكل نابغة لا يستهان بعلمه وذكائه.
ولما كان البؤس أصل كل بلية في العالم؛ أصبح لكل فرد منه أكبر نصيب، وهيهات أن يخلو منه مخلوق.
فضائل البؤس
وفضائل البؤس كثيرة، ومنها: الورع، والتقوى، والثبات، والصبر، والتجلد على المصائب، ومكافحة الأهوال، ومعرفة الله جل شأنه والتفرغ إليه سبحانه وتعالى، واليأس من الدنيا، والاهتمام بالآخرة. والبؤس عادة يوجد الطمأنينة في النفوس، ويحض على اعتزال العالم والانفراد عن الناس، والانقطاع إلى عمل واحد، والتبحر في العلوم والمعارف.
ولو نظرنا إلى البؤس من حيث حقيقته وجدناه أقوى سبب في تذليل النفس؛ بل هو الباعث لها على الانقياد والإذعان، والرضوخ والطاعة، والميل إلى حب الخير والعبادة والإحسان ... إلخ.
مساوئ البؤس
ومساوئ البؤس كثيرة، منها: التأفف، والضجر، واحتمال الهم، والكمد، والنزق، وضيق الصدر، وسوء الخلق، وقطع العشرة، والانحراف، والانكماش عن الخلق، والقهر، والإكراه والغلبة، والتطبع بالأخلاق المرذولة، وفساد الطوية، والخديعة، والمكر، والدهاء، والذل، وشدة الغيظ، وعدم المبالاة، واحتقار النفس، والبله، والطيش، والغباوة، والبغض، والعداوة من غير سبب، والعجز، والجموح، ووساوس الصدر، ومعصية الخالق، وشدة الحسد، والحقد، والميل إلى الشر، والمعاكسة، والتطبع بالرذائل، وارتكاب الدنايا، والنقائص، والهذيان، والمرض الذي يؤدي إلى الجنون وينتهي بالتفاني في حب الموت .
نامعلوم صفحہ
الوهم والبؤس
خلق الله الإنسان من ضعف؛ فكان الوهم أول قرين له، والوهم من حيث تكوينه في الإنسان دواء الإهمال المخيف، بل هو العلقة الوحيدة التي تعلق بكل نفس جامحة إذا استولى عليها الضعف وخور العزيمة. بل هو الغاية التي يبني عليها البائس يقينه، ويشيد دعائم أركانه. بل هو الدعوى التي يؤيد بها برهانه، وتجري عليها نواميسه؛ ليوطد بواسطتها أحكام تخيلاته وتصوراته وما يعنو له من علوم مخيلته، ويستنتج منها عاداته وأطواره، وكأنه بتلك الأوهام يحيا، وبها يسمع ويرى، وعليها يموت وتنقضي أيامه.
والأوهام عبارة عن آمال كبيرة تتغلب على العجز والضعف والقوة، وهيهات أن تخلو منها أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب. وربما تقف هذه الأوهام في سبيل بعض البائسين في حين من الأحيان؛ فتكون لهم حجابا من الأمل الغرار. وبهذا الوهم الكاذب ترتفع عنهم البلوى، وتنتهي، بل يهون نكد الدنيا، وتندثر جريمة الانتحار من مخيلتهم.
وقد يحدث من الوهم موت عاجل يقتل المتوهم مهما كان رقيق الإحساس، شريف العواطف، أو شجاع القلب، عظيم الجسم. وربما يكون حياة من نكد وبيل، يخلص من الموت كل منغص حزين، وكأن هذا الوهم يمثل للبائس وهو متأهب للانتحار، متقدم للإجهاز على نفسه زينة الحياة الدنيا، ويحبب إليه السعادة والغنى؛ فيتوقف عن إتمام الجريمة، ويبتسم للسعادة، ويستريح بهذه الآمال التي قادها إليه الوهم وهو على هاوية الهلاك؛ فيرجع عن عزمه، ويتوب عن غيه.
وهكذا بني الوهم من قديم الأزل على شرائع الأمم وأعناق البشر في نواميس الوجود، وبرهانا على ذلك غير الدهر وحوادث التاريخ.
والوهم ينقسم إلى قسمين؛ «الأول»: يفني الأمم ويؤدي إلى العدم، حيث تنتهي الحياة على أي حال من الأحوال، «والثاني»: يعود أملا يبعث بنفوس البائسين إلى الجهاد في معترك الحياة؛ ليحصل كل آمل على مناه، ويحظى بالغاية التي يرجوها. وكل أمة فشا فيها داء الوهم أصبحت مزعزعة الأركان، وصار التعلل لها غرضا من الأغراض الدنيوية تغدو وتروح؛ حيث تقودها الأوهام فتسير على غير هدى، وتنقاد في جميع أحوالها بأزمة الوهم الكاذب الغرار.
ولو تمعن العاقل في أطوار هذا الوهم لوجد أن ليس مع السلوان عيش، ولا مع القنوط عمل، ولا مع اليأس حياة، وليس أجلب للشر من وهم يخرج بالنفوس عن أطوارها، أو يأس يقفل باب الرجاء في وجه صاحبه؛ فيمثل له خيال الموت في أجمل صورة، ويصور له الدنيا بأشنع شكل وأقبح هيئة؛ فينتحر تخلصا من شقائه الذي هو فيه ليستريح من بؤس هذا العالم ومتاعبه. «البؤس» كلمة تدل على الشقاء، وهو شكل غير محسوس ولا ملموس، ومعناه الإملاق والعدم والفاقة والضنك والفقر. «والبؤس» أصل تعاسة الإنسان وسبب شقائه ومحنته وبلائه. والبؤس في عرفهم باب كل ويل، وسياج الكرب والقهر والغم؛ إن حل في مخلوق جلب إليه سوء الطالع، وجعله في تعب مستمر غير مرتاح الضمير، ونغص عليه حياته، وفتح له طريق الموت، وصيره على هلاك نفسه قادرا جريئا لا يخاف ولا يفزع.
ولقد خلق الله الموت للحياة ضدا لفني العالم، كما شاءت قدرته العلية في عصر محدود ودهر معدود، وكما خلق جل شأنه الموت للحياة ضدا، خلق الذكاء للشقاء حليفا؛ ولذلك لا تجد ذكيا إلا والشقاء يحدوه، وفي الحديث الشريف: «ذكاء المرء محسوب عليه.» وكما خلق الله الذكاء للشقاء حليفا، خلق الحسد للفضل قرينا؛ ولذلك لم تجد في الناس فاضلا إلا والحساد يحومون حوله، وقال الشاعر:
إني حسدت فزاد الله في حسدي
لا عاش في الدهر يوما غير محسود
نامعلوم صفحہ
لا يحسد المرء إلا من فضائله
بالعلم والحلم أو بالفضل والجود
العالم دولاب دائر لا ينتهي إلا بانقراض الكون، ولو نظرنا إلى أمور هذه الخلائق وجدنا حكما لا تندثر أبدا، ودروسا من الوعظ لا ينتهي منها اللبيب ويرعوي منها العاقل. أيها البؤساء، يا من ألبسكم الدهر ثياب الحزن، وألقاكم في وهاد الهموم؛ عليكم بالصبر وطول الأمل؛ فإنكم إذا ثابرتم عليهما بلغتم كل أمنية. ولا تحجموا عن الإقدام والسعي في معترك الحياة؛ لأنهما أساس عمران هذا العالم. وبالإقدام على عظائم الأمور تنالون الشرف، وتحظون بحظوة المجد، وتخرجون من وهدة اليأس إلى ذروة العلياء، وتصعدون من حضيض الخمول إلى غاية العز والسؤدد. فثبتوا أقدامكم، ووطنوا نفوسكم، تنالوا رغباتكم، والله معكم.
البؤساء
لو نظرنا إلى فلسفة هذا العالم وحكمة المبدع الحكيم في خلقه؛ لوجدنا أن جميع علماء الأرض وفلاسفة الكون على الإطلاق ما هم إلا من وسط ضاق به الحال، وأصبح من شدة الضنك لا يملك درهما، والجميع بحمد الله صفر اليدين من الغنى، وكفى بأنبياء الله حجة على ذلك وبرهانا ناصعا لا مراء فيه. «البؤساء» قوم وضعتهم الدنيا في أخشن مواضعها، وداهمتهم الأيام بالمصائب فاستهانوا بنكباتها، وجفاهم الحظ فرضخوا لأحكام القدر، وصادقهم النكد فحفظوا له واجب الصداقة ولم ينقضوا له عهدا، وسئمت منهم الأيام فكانوا عليها عالة، وأمرتهم الطبيعة بالذل فنبذوا أمرها، وهجروا صفوها؛ فسخرتهم للحياة فساروا في سبيل الموت سراعا. «البؤساء» قوم خلع عليهم الدهر حزنه وجر عليهم فضل بلائه؛ فأوقفوا بعض حنين قلوبهم إلى غير ما تحن إليه من صبابة المحاسن والجمال، وهاموا في وهاد الدنيا وأتوا بأعمال من الأشجان لا تدخل تحت حصر، فتراهم مع ما هم عليه من بواعث الحزن والنكد لا ترتاح نفوسهم الأبية إلا لعمل الخير، وتراهم وهم في أشد حالات المحنة يعطفون على البؤساء أمثالهم، ويميلون من تلقاء أنفسهم إلى من جفاهم الحظ وسحقتهم الهموم. «البؤساء» قوم خطت الطبيعة على جبينهم سطور الشقاء، ومشى الدهر خلفهم يومي للمصائب نحوهم ببنانه؛ فتبعتهم ملبية أمره، وتنقض عليهم منفذة أحكامه. «البؤساء» طائفة رمتهم سهام القدر؛ فباتوا للبلاء عرضا، وأصبحوا في هذا الكون حيارى لا يهتدون إلى منار السعادة، ولم يبلغ بهم سفين الحياة شاطئ السلامة.
ومهما كان من فظاظتهم، ومنتهى ضلالهم في إزهاق أرواحهم؛ تجدهم يستهينون بالموت، ولا لوم عليهم إذا ارتكبوا جريمته؛ لأنهم ما رغبوا في عذابه إلا فرارا من نكد الحياة وشظف العيش المهمين، ولذا تجدهم دائما في كساد حال وتعبيس وجه، إلى شكوى هموم واحتمال أشجان. وهم قوم قد لازمهم سوء الطالع؛ فأصبحوا بين ويلات عديدة تعددت أطوارها، وتراكمت حوادثها؛ من فقر مدقع إلى مرض وبيل، وعذاب مهلك، وحتف مميت، ومن يأس عاجل إلى تكدير صفو، ومحنة دنيا، وبلاء أيام. ولو ساعدهم الحظ لكانوا سعداء، وما في ذلك لوم، وإنما الذنب على الطبيعة الجائرة والقدر المتاح، وما عليهم من وزر إذا أطاعوا القضاء في واجب حكمه، ولاذوا بالفرار من دنياهم؛ ليستريحوا من عذاب البؤس، ويجدوا في الموت راحة بعد ذلك العناء الوبيل. وما هي غير حشرجة الموت، واختلاج الروح في جسم ضعيف؛ ثم تنتهي الحياة بخروج آخر نفس كان يتردد فيه، وفي مدة لا تتجاوز طرفة عين تصعد الروح لباريها العظيم. وأكثر البؤساء يجدون الموت سهلا مع ما فيه من عذاب أليم وهول شديد، وسواء لديهم أن كان قتلا أو خنقا أو غرقا أو حرقا، وفي يقينهم أن الروح دخلت الجسم بسهولة وتخرج منه بسهولة. «قيل» إن عروة بن الزبير لما قطعت رجله وفصلوها عن جسمه لم يعبس وجهه، ونظر إليها وهي بين يديه وقال: أي قدمي، إني سخي بنفسي عنك؛ لأني لم أنقلك إلى خطيئة قط. ثم تمثل بقول معن بن أوس المزني:
لعمرك ما أهويت كفا لريبة
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
نامعلوم صفحہ
وأعلم أني لم تصبني مصيبة
من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
ثم قال: ليهنك إن أخذت لقد أبقيت، وإن ابتليت لقد عافيت. وكذلك ما حكي عن الحسين بن منصور الحلاج العابد الناسك الصوفي؛ غضب عليه الخليفة المقتدر العباسي فحبسه سنتين، ثم سلمه إلى حامد بن العباس في دار الشرطة فضربه ألف سوط، ثم أمر بقطع يديه ورجليه، ففعل به ذلك وهو يقول:
أحرقه الود الذي لم يكن
يطمع في إفساده الدهر
ما قد لي عضو ولا مفصل
إلا وفيه لكم ذكر
ولم يتأوه أو يستغيث بأحد، ثم أمر به فصلب على خشبة. «ودخل عليه عمر الصفار الصوفي» وهو مصلوب فوجده ضاحكا مستبشرا لم يتلفظ بألفاظ قبيحة تكره سامعها، فقال له: ما التصوف يا حسين؟ فقال: هذا أوله ، واصبر كما أنت الساعة ليبدو لك آخره. وبينما هما كذلك وإذا بوالي الحبس قد جاء ومعه شرذمة من الجند فأمرهم بإنزاله عن الخشبة المصلوب عليها لتضرب عنقه، فصاح بأعلى صوته: يا ابن الصفار هذا آخر التصوف! ثم ضربت عنقه وعلقت رأسه على سور السجن، وبعدها أحرقوه بالنار. وأمثال هذا النوع من البؤساء كثيرون، وعموم البؤساء يجدون أن النزوح عن الدنيا أمر لا ريب فيه، ومتى حل بهم كرب لا يتطلعون إلى نعيم الحياة، ولا تتوق أنفسهم إلى بهجة الأيام، ولا يدرون لفراق العالم طعما، ولا يضجرون لبعد الأحبة ذلك البعد الطويل، الذي يبتدئ بسفر لا عودة منه. ولا ترهبهم وحشة القبور الدارسة، بين خرائب عاطلة، لا أنيس فيها غير بوم ينعب وغراب ينعق، في سكون هادئ رهيب، ولا يروعهم البلى، ولا يدهشهم توسد الثرى، ولا نهش الحشرات تلك الأجسام الناعمة؛ حيث يذوي ذلك الجمال، وتندثر محاسن ذلك القد الرشيق، والقوام العادل الفتان. ولو تأملنا حالة البؤساء بإمعان شديد وجدنا كل سراء وضراء لا تؤثر عليهم؛ فسيان عندهم الموت والحياة، لا فرق لديهم بين الترف والنعيم، والعذاب والجحيم، وسيان عندهم تمتعوا بالخيرات الوافرة والسعادة الدائمة، أو عانوا أهوال البؤس ودواهيه، والفقر المدقع الوبيل، في شظف العيش ونكد الأيام.
ولا عجب إذا ابتسموا للموت، وهشوا للمصائب، وحنوا للحتف العاجل، واستبسلوا للعناء، ولم يجزعوا وهم في حالة النزع الأخير ... وفي شرعهم الذي شرعوه، وقانونهم الذي نهجوا عليه، أن الموت راحة من كل عناء، وهو الدواء الناجع لكل محزون كئيب، بل هو للبؤساء جل أمانيهم ومنتهى رغباتهم، ومع ما في الموت من عذاب يقابلونه بوجه طلق، ومحيا وضاح، وثغر ضاحك بسام، كأنهم لا يخشون قدرة حاكم سرمدي، لا يرد له حكم، ولا يفلت من قضائه أحد.
نفوس البؤساء
نامعلوم صفحہ
ولما كان البؤس علة الإنسان في هذه الدنيا خلق الله للبؤساء نفوسا تجردت عن الملاهي، فأصبحوا بواسطة هذا التجرد لا يطربون إلا لقصص المنكوبين، ويتلذذون بسماع نوادرهم وأخبارهم، ويجدون في تلك الأنباء ما يعينهم ويسليهم على مصائبهم، ويشعرون عند تلاوة تلك القصص المحزنة بالراحة التامة والعزاء الجميل. وهكذا كل نفس منكودة تحن من طبيعتها إلى ذكر البؤس، والقلوب الموجعة تشتاق إلى الأفعال الطيبة إن لم تنعكس عليها المشاكسات الطبيعية التي تنشأ أحيانا من سوء الخلق وضيق الصدر، وخصوصا مع من نكبهم الدهر بالفقر المدقع.
ومن المقرر الواضح أن النفوس إذا خشعت في عنفوان شبابها، وكبرت على أطوار المحن والرضوح؛ أصبحت ولا شك تميل إلى الخير أكثر منها إلى الشر، وتتحاشى ما يوجب الضرر؛ وحينئذ يكون خشوعها عظيما لأنه صادر من أعماق الضمير. وإذا نالت تلك النفوس التي أدبها الفقر حظها من الغنى؛ انقسمت إلى قسمين: «قسم» يميل إلى عمل الخير جهد استطاعته؛ فيؤاسي البؤساء، «والثاني» يكون شرها شريرا لأنه ما تعود بسطة الكف، ولا وقف وقفة الكريم المتفضل؛ وما ذاك إلا لأنه وجد في عصر مظلم، وجو قاتم لا يعرف فيه نور الهدى. ولما كان كذلك تنوعت أعمال هذه النفوس وتغيرت أطوارها على اختلاف مشاربها وتباين طباعها، وأصبحت الطبيعة كأنها تشارك الإنسان في أحواله وأطواره، وكأن تلك العناصر والجمادات عوامل حية في ذلك المعترك الحيوي، الذي جمع بين طوائفه تهديد الضنك والأسى، ومغانم الحظوة والسرور، وصار بعناصره كالجيش المحارب في ميدان الجهاد؛ بين انتصار وخذلان، وأخذ ورد، وإقبال وإدبار؛ لتقضي كل نفس لبانتها، وتبلغ النفوس السعيدة شأوها من الغنى، ويتأهب البائس لاحتمال ضرورة الفقر والشقاء. ومن أدرك فربما قادته الضرورة إلى اقتحام أهوال الموت، وهو لا يعلم ولا يدري. ولله در الفيلسوف العربي حيث قال:
إذا كانت الأفعال يوما كأهلها
كمالا فحسن الخلق أبهى وأكمل
وإن كانت الأرزاق قسما مقدرا
فقلة جهد المرء في الكسب أجمل
وإن كانت الدنيا تعد نفيسة
فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت
فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
نامعلوم صفحہ
وإن كانت الأموال للترك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل
اليأس
اليأس عنوان الشقاء، وأصل كل تعاسة، بل هو فاتحة الشر ودليل الخسران ومنبع الكبائر، كم بدد لذات ، وقوض من آمال، وأوهن من عزائم، وأذل من نفوس! بل هو علة مخلوقات الله تعالى. «اليأس والبؤس» كلمتان متشابهتان؛ فاليأس حليف الموت، والبؤس حليف الفقر. ومن بواعث اليأس: الهم، والغم، والشر، والشقاء.
وموضوع اليأس مريع حير فلاسفة العالم، وأدهش حكماء الكلام، وتاهوا في معنى أسبابه وحصوله. كم من ملوك دوخوا أقطار العالم، ورهبت بأسهم الدنيا! إذا استولى عليهم اليأس تراهم وقد تزلزلوا عن عروشهم، وتقوضت دعائم مجدهم، وفي لحظة واحدة تجدهم تحت رحمة القضاء العاجل والحتف المميت. وكم ملك فتح مدائن الأرض بمرهف سيفه، وهدم القلاع بقوة بطشه، واستعبد الأحرار بجبروته، وأسر الملوك بعزمه وحزمه، وسار القواد تحت أمره ورأيه، ومشت سنابك خيله على جثث العباد، ورفات الخلائق من بني الإنسان! ولو شاء لجرى القضاء طبق ميوله، واستلم النصر بيمينه، ولعب بالخلائق لعب الباشق بالعصفور الحقير، يقلبهم كيف شاء وشاءت أطواره وأفكاره، وبينما جيشه يسد فراغ الأرض، ويحجب غباره ضياء الشمس، وقد سطع شعاع سيفه كبرق لامع أضاء تلك الآفاق ليهتدي ببريقه جيشه وقواده، ومتى لعبت به صروف الدهر أو عاكسته الأيام؛ تجده وقد أشاح عنه القدر تلك العظمة، وزلزلته النكبات فهبط من سماء مجده إلى الحضيض الأسفل من الأرض، بائسا يائسا كأنه قنط من رحمة الله تعالى، وكأنه لم يكن شيئا مذكورا بعد تلك الانتصارات التي سطرتها له الأيام على جبين الدهر، ولم يوطد دعائم مجده وفخاره، وكأنه وهو في تلك الحالة من تقويض الآمال العظيمة ترك عليه الشقاء أثرا من بلائه؛ فأصبح يناجي الموت ليريحه من متاعب الدنيا ونحوسها، بعد أن كان يناجيه الحظ، وتخدمه السعادة، وتنحني أمامه الرءوس رهبة، والهامات هيبة وإجلالا. خانه الدهر وتنكرت عليه الأيام؛ فأصبح وكأنه لم يكن ذلك المخلوق المجدود الذي أسعدته ظروف الولادة. ومن أدراك به فربما مات شريدا عن وطنه، أو حكمت عليه يد غاشمة بالنفي الدائم أو السجن المؤبد؟! وهذا قليل من كثير ممن صادفهم سوء الطالع، وهم من الملوك العظام يضيق بنا المقام عن حصرهم.
القسم الثاني
تعساء الشقاء حلفاء الفقر
«الفقر» هو الفاقة، والفاقة هي البؤس الحقيقي، ومن أصابته علة الفقر صار شقيا. والفقر متى حل بقوم جعلهم في نكد مستمر، وجلب عليهم الهم من كل صوب. ومن نكب بالفقر فهو من بؤساء الدنيا، والبائس من عاش محروما من مشتهيات نفسه. ولقد داهم الفقر طائفة من المشاهير الأعلام، نوابغ الدنيا وحكماء الكلام، وفلاسفة الدهور وعلماء الإسلام.
تراهم وقد حلينا برسومهم هذا الكتاب؛ إتماما للفائدة التي بسببها اعتمدت على الله عز وجل وقمت بواجب طبعه ونشره بين الناس، وأنا على يقين من أنه لم يسبقني في وضعه أحد، بل هو الكتاب الوحيد في هذا الفن.
الفارابي «الفارابي» وهو محمد أبو نصر بن محمد بن أوزلع بن طرخان، من مدينة فاراب ببلاد الترك، كان إماما فاضلا، وفيلسوفا كاملا، برع في الفلسفة وأتقنها وأظهر محاسنها، وتفنن في فن الموسيقى واخترع فيه ما لم يسبقه إليه أحد، وشرح كتب الأوائل. وكان في أول الأمر قاضيا ببلاده، فأودع عنده رجل من التجار جملة من كتب أرسطاطاليس، فتلاها فصادفت عنده قبولا؛ فانكب عليها بجملته. وتجرد عن مركزه وترك القضاء لأجلها وسافر إلى بغداد، وأقام بها. وقرأ المنطق على ابن حبلان، وقرأ النحو على أبي بكر بن السراج، ثم سافر إلى مصر، ومنها رحل إلى الشام وأقام بها إلى أن توفي سنة 1334 هجرية. وكان على ما هو عليه من العلم والحكمة والفلسفة قانعا باليسير من عيشه، ولم يتحصل من الرزق إلا على القليل التافه.
نامعلوم صفحہ
وفي آخر أيامه رتب له الأمير سيف الدولة أربعة دراهم يصرفها في الضروري من حاجاته. وترك من المآثر ما خلد اسمه على ممر الأيام، وهو أحد فلاسفة الإسلام الأعلام. «أخلاقه»: ولقد كان هادئا وديعا عاقلا دمث الأخلاق، حاضر الذاكرة، قوي الذهن، لا يهاب أحدا، وإن كان دائما كثير الصمت إلا أنه شديد الحفظ، وله من عزة نفسه العالية مكانة سامية تقصر عنها همة الملوك، وتسجد لعظمتها العظماء.
الخليل بن أحمد
وهو الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي الأزدي، كان إماما في علم النحو، وهو الذي استنبط العروض، وعنه أخذ سيبويه وغيره من العلماء. وكان رحمه الله متقللا من الدنيا، صبورا على العيش الخشن والضيق الشديد، وكان يقول: «لا يجاوز همي ما وراء بابي.» وكان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي والي فارس والأهواز، فكتب إليه سليمان يستدعيه بكتاب شديد اللهجة، فكتب الخليل رد جوابه بقوله:
أبلغ سليمان أني عنه في دعة
وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخا بنفسي أني لا أرى أحدا
يموت هزلا ولا يبقى على حال
الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه
ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه
نامعلوم صفحہ
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فلما وقف سليمان على كتابه قطع عنه الراتب فاحتاج إلى ما ينفق، ولما اشتد عليه الحال ارتحل إلى البصرة وأقام في كوخ صغير من أكواخها لا يقدر على نفقة القوت الضروري، وأصحابه يكتسبون بعلمه الأموال، وكان دائما يتمثل بقوله:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وليس لهم حتى النشور نشور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
وأجسادهم قبل القبور قبور
وكان إذا قدم على سيبويه يقول له: «أهلا بزائر لا يمل.»
وتوفي إلى رحمة الله فقيرا معدما سنة «170 هجرية» بعد أن ترك في عالم الأدب والعلم ما لا يندثر ويجعله في درجة عالية كأنه لم يمت، وسيبقى اسمه بين الناس ما بقيت مؤلفاته إلى يوم القيامة. ا.ه.
الترمذي «الترمذي» هو الإمام العالم العامل محمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الشافعي، كان رحمه الله مطبوعا على الأدب ومكارم الأخلاق، متحليا بالفضائل، سار ذكره مسير الشمس والقمر حتى ملأ الآفاق بعلمه، ولم يكن للشافعية أرأس منه في وقته، ولا أروع ولا أحشم.
وكان مع هذا العلم الفائق على جانب عظيم من الفقر المدقع، وكثيرا ما كان يقول: «إن سعادة الحياة وهم باطل، ونعيمها خيال مائل، ومتاعها عرض زائل، سرورها أحزان، ولذتها آلام، ولو كنت أعجب بشيء فما أعجب إلا بمن تعلقوا بحب الدنيا، وهاموا بسعادتها الموهومة، وأطربهم سماع لفظة «السعادة»، تلك الكلمة الحلوة، حتى تخيلوها نعمة ما فتحت عين ابن آدم على أتم منها حسنا، ولا أجمل منها صورة، وباتوا يتهالكون في السعي خلفها ليدركوها، ولكنهم عجزوا عن لحاقها ولم يجدوها، وأخيرا بحثوا عنها فلم يقفوا لها على أثر، وأين يجدون هذه السعادة؟ أفي قصور الملوك ومقاصف الأمراء، حيث يضرب الهناء قبابه، ويوطد أطنابه، وتتسرب الحظوظ في جميع أماكنها، أم في بيوت الفقراء الحقيرة، حيث يحل الفقر وينيخ ركابه؟» «وله في وصف الحياة»: ما أكثر خداع هذه الحياة! إنها كالسراب يحسبه الظمآن ماء، كلما جد في طلبه ازداد بعدا، وكلما يئس وتوانى عن طلبها؛ أبرقت له وازداد لمعانها، عساه أن يوفق للحاق بها. «وكان دائما يقول وهو في أشد حالات محنته»: ما أضيقك أيتها الحياة لولا فسحة الأمل الكامن في صدورنا!
نامعلوم صفحہ
وكان رحمه الله صبورا على الشدائد والعيش الخشن، حتى إنه ليصح عنه أن يلقب ب «أمير البؤساء». قيل إنه من شدة فاقته مكث سبعة عشر يوما لا يقتات إلا لفتا، كل يوم وليلة يأكل واحدة. وتوفي إلى رحمة الله فقيرا معدما، وعلى منتهى البؤس والفاقة، لا يجد قوت ليلة، وكانت وفاته سنة «295 هجرية».
جحظة البرمكي
وهو أبو الحسين أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، كان فاضلا أديبا صاحب فنون وأخبار، ونوادر وأشعار، ومنادمة ومجون، وخلاعة وشجون، نشأ في حجر الخلافة العباسية، وترعرع في مهد العز والرفاهية، وناهيك بآبائه الكرام، بني برمك أشهر كرماء الإسلام. ولد جحظة والدنيا زاهرة زاهية، وعائلته تفوق الملوك بالكرم والسخاء، حتى بات الخليفة يحسدهم ويغار منهم، وسرعان ما أضمر لهم السوء فنكل بهم تنكيلا شديدا.
وأصاب البؤس جحظة كما أصاب أجداده من قبله، وبات لا يملك ما ينفقه، وكان لشدة تعلقه بالعلم يمكث طول ليله يراجع النكات الأدبية، ومباحث العلماء والفقهاء، ولما لم يجد ما يضيء يغتم غما شديدا، وينكب على وجهه من شدة الكدر. ومن لطائف شعره:
وقائلة لي كيف حالك بعدنا
أفي ثوب يسر أنت أم ثوب معسر؟
فقلت لها لا تسأليني فإنني
أروح وأغدو في حرام مقتر «ومن محاسن نثره»: لقد طلبنا السعادة في المال فما وجدنا، وفي الحياة فما استفدنا، وفي الفقر فما استرحنا. وإذا طلبنا السعادة وأردنا أن نعيش سعداء؛ نفرت منا، واحتجبت عنا، وأصبح من المستحيل أن نتمتع بالحياة الحقيقة، والسعادة المرغوبة في هذه الدنيا. ورغما عن العوارض التي تعترضنا فلا بد من الوصول إلى أوهام السعادة، وإذا لم نعثر عليها فلنطلبها في الخيال الوهمي، لنطلبها في الأمل الفسيح الذي نبتهج به، ويسطع لمعانه على نفوسنا فيبدد ديجور ظلامها الحالك. «وله من الحكم المأثورة»: إننا نتوق كثيرا إلى السعادة، ولكننا لا نعرف كيف السبيل إليها.
وتوفي حزينا مكتئبا فقيرا بائسا سنة «326 هجرية».
النضر بن شميل
نامعلوم صفحہ
النضر بن شميل هو العالم المتبحر، الشاعر التميمي المازني النحوي البصري، بل هو أعلم أهل زمانه بفنون العلم والأدب، وهو صاحب «غريب الحديث»، ومن أصحاب الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي.
ضاقت به الحال بالبصرة فخرج يريد خراسان عساها أن تكون سببا في اتصال عيشه واتساع رزقه؛ فشيعه من أهل البصرة نحو ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدث أو لغوي أو عروضي أو إخباري. فقال لهم: يا أهل البصرة، يعز علي فراقكم، ولو وجدت ما يسد رمقي بين ظهرانيكم ما فارقتكم.
فلم يتكفل أحد بطعامه، وسار حتى دخل بغداد، فدخل على أمير المؤمنين المأمون في ثوب مرقوع، وهو في شدة الفاقة والفقر، فقال له المأمون: ما هذا التقشف؟! فقال: يا أمير المؤمنين، شيخ ضعيف، وحر شديد؛ فأتبرد بهذه الخلقان. فقال المأمون: لا، ولكنك قشف. ثم تجاذبا أطراف الحديث إلى أن أدى بهما إلى السداد بمعنى البلغة، وسد الثلمة، فأورده المأمون بفتح الثاء، فرده النضر وبين له أن المفتوح إنما هو القصد لا البلغة، فأمر له عند انصرافه بخمسين ألف درهم يقبضها من الفضل بن سهل، فصرفها له الفضل ثمانين ألفا عند وقوفه على سبب الصرف. وتوفي النضر بمرو سنة «402 هجرية» وهو معدم في شدة الإملاق.
النيسابوري
هو الإمام الحافظ الفقيه الورع، العالم العلامة، وحيد دهره، وفريد عصره، أبو بكر عبد الله بن زياد النيسابوري، ولد رحمه الله من أبوين كريمين، وترعرع في نعمتهما، ونشأ في يسار وبسطة وغنى، ولما بلغ العاشرة من عمره توفي والده فاحتضنته والدته، ولكنها بعد سنة لحقت بوالده فأصبح لطيما، ولحقه الإملاق ولم يتركا له من المتاع ما يستعين به؛ فأقام يعاني أهوال الفقر أربعين سنة وهو مكب على دروس العلم في محافل العلماء، ولم يرزق الغنى في حياته، ولم ينم الليل إلا غفوات، ويتقوت كل يوم بخمس حبات، إلى أن انتقل من دار الدنيا. ومن محاسن نثره: «الإنسان بين الأمل واليأس.» «الأمل» قوة عظيمة تسوق الإنسان إلى العمل؛ فينشط من عقال الخمول، ويرتقي ذروة المجد العالية، ومهما صادفه من عقبات توقفه في طريقه، وتعيقه عن إدراك ما يروم؛ فإن عوامل الأمل تدفعه إلى العمل بخطوات واسعة؛ فيتخطى العقبات، ويتسلق الجبال، ويغوص البحار، ويركب كل صعب ما دام الأمل رائده، ولا ينتهي من جهاده إلا إذا بلغ أمنيته وأدرك غايته، أما إذا عصفت عليه زوابع اليأس، ولفحته رمضاء القنوط؛ استولى عليه البؤس، وامتلأ فؤاده حزنا وأسى، وضاق في عينه فضاء الأرض الذي ترامت أطرافه. ومتى بلغ به اليأس حد التعاسة؛ خانه الصبر، وفقد تلك القوة التي تسخر الإنسان إلى الحياة؛ فتراه واقفا يندد على الدنيا، ويتمنى الرحيل إلى الدار الآخرة، ويستعمل كل غاية للقضاء على أجله. ومن البؤساء من يقتل نفسه بخنجره، أو يلقي نفسه من مرتفعات شاهقات. «ومنهم» من يتردد بين الموت والحياة، فيقف على شاطئ نهر يخطب ود أسماكه إشفاقا على جسمه من أنيابها، فإن استقوى عليه اليأس زج بنفسه في اليم وهو يحمل في صدره حقدا على الدنيا المحفوفة بالمكاره والأخطار، ويود لو زالت العوالم معه واندكت دعائم الوجود. أما إذا تغلب الأمل على اليأس؛ فتراه وثب وثبة النمر، وأخذ يخاطب المستقبل الرهيب بألفاظ لا يفهمها سواه، ثم يضم قبضتيه ويهدد الزمن وهو هازئ به، ساخر عليه. وتستحيل أوهامه إلى حقائق فينظر إلى الزمن غاضبا، ويرنو إلى السعادة التي ولدها بقلبه الأمل، وكأنها تدنو منه وتحول بينه وبين الموت. ولولا هذا الأمل العالق بقلوب بني آدم ما غرس غارس، ولا أرضعت أم ولد، ولا طال عهد الإنسان بالدنيا، ولا نفض عن جسمه غبارا أثارته عواصف الأكدار. واليأس من غير شك مهلك الأفراد؛ ما حل بإنسان إلا وتنغصت عليه حياته، وأصبح حبل الموت أقرب إليه من الوريد. وكذلك إذا تسرب بأمة من الأمم فإنه يكتسحها أمامه، ويبيدها عن آخرها.
ومتى عرفنا ذلك وجب علينا ألا ندع لهذا اليأس سلطانا على قلوبنا، ونتخذ الأمل رائدا، ومن الحقائق الطبيعية أن لا يأس مع الأمل، ولا أمل مع اليأس. وتوفي رحمه الله على منتهى البؤس والفقر سنة «322 هجرية».
أبو الحسن بن بوعت
كان رحمه الله شاعرا مجيدا إلا أنه قليل الحظ من الدنيا، عاش طول عمره فقيرا من المال غنيا بالعلم، وكان يرتدي ثوبا من نسيج الوبر الخشن ليس له غيره، ولا يجد ما يقتات به، وربما يطوي طول يومه جوعا، وتأبى عليه عزة نفسه أن يطلب من الناس شيئا، ولم يمتدح أحدا أو يتظاهر بالرياء قط، على أنه لو فعل لكان من أحسن الناس حظا. «قيل» إن الأمير ابن عبد الله الوائلي استدعاه لخدمته فمكث عنده أسبوعا، وتصادف أن ناداه ذات يوم بلهجة استعجال وتهكم كما هي عادة أمراء ذلك العصر؛ فلم يرد عليه ابن بوعت، ولكنه نظر إليه نظرة حوت كل ما في نفسه الكبيرة من العظمة والطمأنينة، وخرج من القصر مرفوع الرأس موفور الكرامة، ولم يتجاسر الأمير ولا أحد أتباعه على سؤاله.
وبعد أيام غادر البلدة قاصدا مصر، فوصلها بعد جهد جهيد وتعب شديد، وعناء ما بعده عناء، ومكث في أحد جوامعها زاهدا متعبدا.
وكان له وهو على هذه الحالة مجلس علم لا يحضره إلا العلماء، وقد انتفع بعلمه وأدبه خلق كثير.
نامعلوم صفحہ
وهو على حالة من الضرورة وشدة الفاقة.
ومن محاسن شعره :
من ظن أن الغنى بالمال يجمعه
فاعلم بأن غناه فقره أبدا
فاستغن بالعلم والتقوى وكن رجلا
لا ترتج غير رزاق الورى أحدا
وقال ابن سلام: كان لأبي الحسن بن بوعت شهرة كبيرة في جميع الممالك الإسلامية، وكان الناس ينظرون إليه نظرة احترام وإعجاب عظيمين، وعلى شدة تقشفه وورعه وانهماكه في طلب العلم والاستزادة منه، كان على جانب عظيم من الذكاء النادر وسرعة الخاطر والنشاط الغريب، وأبدى في الإفتاء في بعض المسائل المعقدة ما يشهد له بالفخر والإعجاب، وكان على هذا النبوغ العظيم، والمواهب السامية، أفقر خلق الله، دام يعاني أهوال البؤس وشقاءه طول حياته.
وقال الإمام الوهابي: ما رأيت مشهدا حافلا أروع وأحشم وأعظم وأكثر جموعا من مشهد ابن بوعت؛ فقد كان في جنازته جموع لا يعلم أحد كيف جاءوا، ولا كيف كانوا، ولا ما هو عددهم بالضبط، ولقد خيل لي أن هذه الجموع كان أولها في القرافة وآخرها عند المسجد. «وكانت وفاته رحمة الله عليه بمصر سنة 416 هجرية.»
أبو الصلت
وهو أمية بن عبد العزيز الأندلسي، كان أديبا ماهرا في علوم الأوائل، عاش فقير الحال معدما محروما من الغنى طول حياته، وذلك بدليل قوله:
نامعلوم صفحہ
وقائلة ما بال مثلك خاملا
أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز؟
فقلت لها ذنبي إلى القوم أنني
لما لم يحوزوه من الفضل حائز «ومن محاسن نثره يصف الحياة»: الحياة كما يقولون سعادة دائمة، وكل جمال مشتق من جمالها الرائع، وجمال الطبيعة أيضا من بعض جمالها العبقري، وكثيرا ما خدعت الناس بسرابها الكاذب، ونجد فيها السعادة شقاء، أضعنا الوقت في تحصيل العلوم، وفي وقت أخلصنا فيه قلوبنا من مشاغل الحياة، وضحينا على مذبحها المقدس عواطفنا الشريفة؛ ولم نفز بطائل، ولم نتمتع بهناء النفس الذي تعللنا به، وكأننا ونحن في دائرة الحرمان أصبحنا - والدنيا بملاهيها - لا قيمة لها عندنا، وما بأساء الحياة وشظف العيش الذي نحن فيه إلا كسجن، ولا خلاص لنا منه إلا بالموت، فنستريح من مشاغل الحياة، ونطمئن بالراحة في دار الخلود. توفي رحمه الله سنة «538 هجرية». «صفاته»: كان متوسط الجسم، متوسط القامة، حسن الهيئة، محترما من جميع معارفه، وكان على جانب عظيم من الذكاء والفهم وسلامة الذوق. ولقد خدم العلم والأدب خدمات جليلة تشهد له بالفضل والنبوغ، وكثيرا ما سمع بأذنه عبارات المديح والإطراء من أفواه طوائف عديدة من العلماء والشعراء.
القاضي عبد الوهاب
هو القاضي العادل عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي، كان رحمه الله من الأفاضل المشهورين، والعلماء المعدودين، بل هو خيرة الأدباء من الناس، ولسان أصحاب القياس، نبت به بغداد، على حالة البلاد، فخرج منها طالبا مصر فشيعه من أكابرها خلق كثير، فقال لهم لما ودعوه: والله لو وجدت بين ظهرانيكم كل غداة وعشية رغيفين من خبز ما فارقتكم. فلم يكن فيهم من يتكفل له بذلك فأنشد:
بغداد دار لأهل المال طيبة
وللمفاليس دار الضنك والضيق
أقمت فيها مضاعا بين ساكنها
كأنني مصحف في بيت زنديق
نامعلوم صفحہ
ولما شد رحاله أنشد:
سلام على بغداد في كل موطن
وحق لها مني سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها
وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها
ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أرجو دنوه
وأخلاقه تنأى به وتخالف
فلما وصل مصر تلقاه أكابرها بالبشر والكرامة، وأنزلوه أحسن بيوتها، وأهدوه كثيرا من الهدايا الفاخرة والعطايا الوافرة والأرزاق الجزيلة؛ فحمل لواء العز فيها، وملأ أرضها وسماءها بمعارفه ولطائفه؛ فتناهت إليه الغرائب، وانهالت عليه الرغائب، ولم يطل عليه هذا الحال غير بضع شهور. وحينئذ ظهرت مواهبه الفائقة ونبوغه العلمي، وقال وهو في مصر في بعض مذكراته يصف عظمة أبناء وادي النيل:
نامعلوم صفحہ