Blocking the Means in Matters of Creed
سد الذرائع في مسائل العقيدة
ناشر
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ایڈیشن نمبر
السنة الرابعة والثلاثون العدد (١١٤)
اشاعت کا سال
١٤٢٢هـ/٢٠٠٢هـ
اصناف
سد الذرائع في مسائل العقيدة
على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة
تأليف الدكتور/ عبد الله شاكر محمد الجنيدى
رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين
بالقنفذة - السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى٠
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله٠
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ١٠
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ ٢٠
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ٣٠
أما بعد:
فلعل من نافلة القول ومكرور الكلام أن يقال: إن التوحيد وإفراد الله بجميع أنواع العبادة أساس دعوة الأنبياء والمرسلين فما من نبي بُعث في قومه إلا أمرهم به ودعاهم إليه كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ٤، وهو مفتتح دعوة الأنبياء والمرسلين، فكل منهم قال لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، والمتتبع لكتاب الله الكريم يجد هذا واضحًا فيه غاية الوضوح، كما أنه كان من أعظم ما اعتنى به نبينا الأمين ﷺ حيث مكث في مكة ثلاثة عشر عامًا يركز ويكرر ويؤكد الدعوة إلى هذا
_________
١ آل عمران / آية: ١٠٢.
٢ النساء / آية: ١.
٣ الأحزاب / آية: ٧٠، ٧١.
٤ الأنبياء / آية: ٢٥.
1 / 173
التوحيد، ثم بعد هجرته كان ينافح ويدافع ويزيل العقبات التي تعترض طريقه حتى يُبَلَّغ ما أوحى الله به ويدخل الناس بهذا التوحيد إلى الدين الذي ارتضاه الله لهم، ووضع القواعد اللازمة لصيانته، وقضى على كل وسيلة مفضية إلى الإخلال به، وسدَّ كل ذريعة يمكن أن تؤدى إلى شائبة فيه – كما سيتضح من خلال هذا البحث – إن شاء الله تعالى – وهذا من كمال الشريعة ومقاصدها الحميدة٠
يقول العلامة ابن القيم – ﵀: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهى مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرَّم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه وتثبيتًا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء" ١٠
ولأهمية هذا الموضوع وتجليته، وعدم وجود كتاب يجمع شتات ما تفرق من أقوال لعلماء السلف فيه٠ استعنت الله ﷿ في الكتابة حوله سائلا العلى الأعلى أن ينفع به٠
وقد تضمن البحث بعد هذه المقدمة والتمهيد خمسة فصول وخاتمة، وبيان ذلك فيما يلي:
_________
١ إعلام الموقعين جـ٣ / ١٤٧.
1 / 174
- المقدمة: وقد بينت فيها أهمية دراسة هذا الموضوع والكتابة حوله٠
- التمهيد: وقد بينت فيه مفهوم الذريعة، والأدلة على وجوب سدها من القرآن والسنة وأقوال بعض الأئمة٠
- الفصل الأول: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأكبر٠
وتحته ثلاثة مباحث:
١- المبحث الأول: تعريف الشرك الأكبر وبيان خطورته٠
٢- المبحث الثاني: بعض الآيات والأمثلة المتعلقة بسد الذرائع إلى الشرك الأكبر٠
٣- المبحث الثالث: بعض أحاديث سد الذرائع المتعلقة بالشرك الأكبر٠
- الفصل الثاني: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأصغر٠
وتحته مبحثان:
١- المبحث الأول: سد الذرائع في الألفاظ٠
٢- المبحث الثاني: سد الذرائع في الأعمال٠
- الفصل الثالث: سد الذرائع في توحيد المعرفة والإثبات٠
وتحته مبحثان:
١- المبحث الأول: سد الذرائع في مضاهاة أفعال الله تعالى٠
٢- المبحث الثاني: سد الذرائع في توحيد الأسماء والصفات٠
- الفصل الرابع: سد الذرائع المتعلق بالنبوة والرسالة٠
وتحته أربعة مباحث:
١- المبحث الأول: تأييد الأنبياء بمعجزات لا تحصل لغيرهم٠
٢- المبحث الثاني: النهى عن المفاضلة بين الأنبياء٠
٣- المبحث الثالث: إرسال المرسلين بلسان أقوامهم ليعقلوا خطابهم٠
٤- المبحث الرابع: نهى المؤمنين عن مخاطبة النبي ﷺ بلفظ "راعنا"٠
1 / 175
- الفصل الخامس: سد الذرائع المتعلق بالإمامة والخروج على الحاكم٠
وتحته مبحثان:
١- المبحث الأول: وجوب تنصيب إمام واحد والاجتماع عليه٠
٢- المبحث الثاني: ترك الخروج على الحاكم وطاعته في غير معصية الله٠
الخاتمة:
هذا وقد جعلته بين التطويل الممل والتقصير المخل، مع رغبة في العودة إليه عند فسحة من الوقت٠
وأسأل الله ﷿ أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يثيبني عليه خيرا يوم الدين، وأن يغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين٠
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين٠
1 / 176
التمهيد: ويشتمل على ما يلي:
١- تعريف الذريعة ومفهوم سد الذرائع٠
٢- الأدلة على وجوب سد الذرائع٠
أولًا: تعريف الذريعة:
الذريعة: هي الوسيلة والسبب إلى الشيء، وأصلها عند العرب: الناقة التي يستتر بها رامي الصيد حتى يصل إلى صيده ١٠
قال ابن تيمية: "والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم" ٢٠
وقال الشاطبي: "حقيقة الذريعة: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة" ٣٠
والذرائع بذلك تختلف عن الحيل، فسد الذرائع مطلوب، والحيل محرمة لا تجوز، لأن حقيقتها: تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة ٤٠
قال ابن تيمية:"واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق، والمحتال يريد أن يتوسل إليه" ٥٠
_________
١ لسان العرب جـ٨/٩٦، والقاموس المحيط جـ٣ /٢٤.
٢ مجموعة الفتاوى الكبرى جـ٣ /١٣٩.
٣ الموافقات جـ٣ /١٩٩.
٤ المرجع السابق جـ٣ /٢٠١.
٥ مجموعة الفتاوى الكبرى جـ٣ /١٤٥.
1 / 177
وقال ابن القيم: "وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه" ١٠
ثانيًا: الأدلة على وجوب سد الذرائع:
دل القرآن والسنة والإجماع على وجوب سد الذرائع وإليكم بعض ما جاء من ذلك٠
أولًا: أدلة القرآن الكريم:
١- قال تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ٢٠
ووجه الدلالة من الآية: أن الله ﷾ نهى المؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهى سب المشركين لله ﷿، فكان النهى سدَّا لهذه الذريعة، وهذا دليل على المنع من الجائز إذا كان يؤدى إلى محرم٠
قال القرطبي:"في هذه الآية ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع"٣٠
ونقل القاسمي عن بعض العلماء قوله في الآية:"إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله، أو رسوله، أو القرآن لم يجز أن يُسَبُّوا ولا دينهم، قال: وهى أصل في قاعدة سد الذرائع"٤٠
_________
١ إعلام الموقعين جـ٣ /١٧١.
٢ الأنعام / آية: ١٠٨.
٣ الجامع لأحكام القرآن جـ٤/٢٤٩٧.
٤ محاسن التأويل جـ٦ /٢٤٦٣.
1 / 178
وقال الشيخ/ عبد الرحمن السعدي:"وفى هذه الآية الكريمة دليل للقاعدة الشرعية، وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة إذا كانت تفضي إلى الشر"١٠
١- وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ٢٠
ووجه الدلالة من الآية: أن الله ﷾ نهى المؤمنين عن كلمة "راعنا"، ومعناها عندهم راعنا سمعك، أي: اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه ونراجعك فيه، وهذا معنى صحيح، ولكن الله نهاهم عنها سدا للذريعة، لأن اليهود كانوا يقولونها لاوين بها ألسنتهم، لتوافق كلمة شتم عندهم، أو نسبة النبي ﷺ إلى الرعونة٠
وسيأتي كلام على هذه الآية – إن شاء الله تعالى – في الفصل الخامس من هذا البحث٠
ثانيًا: الأدلة من السنة النبوية:
١- عن عبد الله بن عمرو – ﵄ – قال: قال رسول الله ﷺ "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل" يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" ٣٠
_________
١ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان جـ٢ /٤٥٤،٤٥٥.
٢ البقرة / آية: ١٠٤.
٣ أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب ٤ جـ١٠ /٤٠٣،ومسلم كتاب الإيمان باب ٣٨ ط/٩٢ وأبو داود في كتاب الأدب باب ١٢٩ جـ٥ /٣٥٢.
1 / 179
ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي ﷺ جعل الرجل لاعنا لأبويه إذا كان سببا في ذلك، وإن لم يقصده ٠
قال النووى – ﵀ – في شرحه للحديث:"فيه دليل على أن من تسبب في شيئ جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء، وإنما جعل هذا عقوقًا لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيا ليس بالهين، وفيه قطع الذرائع، فيؤخذ منه النهى عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر، والسلاح ممن يقطع الطريق ونحو ذلك٠ والله أعلم"١٠
وقال ابن حجر:"قال ابن بطال: هذا الحديث أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم، والأصل في هذا الحديث: قوله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ٢٠
١- قال عبد الله بن أبى بن سلول في غزوة بنى المصطلق:"أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي ﷺ فقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي ﷺ "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" ٣٠
ووجه الدلالة من قول النبي ﷺ هذا، أنه كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة لتنفير الناس عنه وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه٠
يقول ابن تيمية في ذلك:"إن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمدا ﷺ يقتل أصحابه
_________
١ شرح النووي على مسلم جـ٢ /٨٨.
٢ فتح البارى شرح صحيح البخاري جـ١٠ /٤٠٤.
٣ أخرجه البخاري في كتاب التفسير جـ٨ /٦٤٨، ومسلم في كتاب البر باب ١٦ جـ٤ /١٩٩٨.
1 / 180
لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام"١٠
ثالثًا: الإجماع:
أجمع الصحابة على بعض المسائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوب سد الذرائع، وقد اعتبرها أهل العلم أدلة على سد الذرائع واحتجوا بها، كما عمل بها كثير من الأئمة، وإليكم بعض الأدلة٠
١- إن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت، حيث يتهم بقصد حرمانها من الميراث بلا تردد، وإن لم يقصد الحرمان، لأن الطلاق ذريعة وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف ٢٠
وقد رجح ابن قدامة توريثها فقال:"وإن كان الطلاق في المرض المخوف، ثم مات من مرضه ذلك في عدتها ورثته، ولم يرثها إن ماتت، وروى عن عتبة بن عبد الله بن الزبير لا ترث مبتوته، ولنا: أن عثمان – ﵁ – ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرضه فبتها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا" ٣٠
إجماع الصحابة – ﵃ – وعامة الفقهاء على قتل الجماعة بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، قال ابن قدامة:"
_________
١ مجموعة الفتاوى الكبرى جـ٣ /١٤٠.
٢ انظر مجموعة الفتاوى الكبرى لابن تيمية جـ٤ /١٤٣.
٣ المغنى جـ٦ /٣٢٩،٣٣٠.
1 / 181
١- ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدى إلى إسقاط حكمة الردع والزجر"١٠
وقد تتابع كثير من العلماء على اعتبار سد الذرائع، وحكَّمها الإمام مالك في أكثر أبواب الفقه، كما ذكر الشاطبي ٢، وقال بعد أن ذكر خلافا بين الإمامين مالك والشافعي:"فقد ظهر أن قاعدة سد الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة"٣٠
وقال ابن بدران:"سد الذرائع هو مذهب مالك وأصحابنا"٤٠ يعنى الحنابلة٠
وقد قال بها ابن تيمية، وذكر لها ثلاثين شاهدا من الشريعة يدل عليها ٥، وتوسع ابن القيم فذكر تسعة وتسعين دليلا عليها، وختم كلامه بقوله:"ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة، وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهى، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهى نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه٠ والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين" ٦٠
_________
١ المرجع السابق جـ٧ /٦٧٢، ومجموعة الفتاوى الكبرى جـ٤ /١٤٣.
٢ الموافقات جـ٤ /١٩٨.
٣ المرجع السابق جـ٤ /٢٠٠،٢٠١.
٤ المدخل إلى مذهب أحمد /١٣٨.
٥ مجموعة الفتاوى الكبرى جـ٣ /١٣٨ – ١٤٥.
٦ إعلام الموقعين جـ٣/١٧١.
1 / 182
الفصل الأول: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأكبر
المبحث الأول: تعريف الشرك الأكبر وبيان خطورته
الشرك الأكبر: هو أن يجعل العبد لله شريكًا وندا في ربوبيته وإلهيته، وأغلب شرك المشركين وقع في توحيد الإلهية كدعاء غير الله، أو صرف أي لون من ألوان العبادة لغير الله كالذبح والنذر والخوف والرجاء والمحبة وما إلى ذلك٠
والشرك بالله أعظم ذنب عصى الله به، فهو أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وما هلكت الأمم الغابرة وأعدت لهم النيران في الآخرة إلا بالشرك، وما أرسل الله الأنبياء والمرسلين وأنزل عليهم الكتب بالحق المبين إلا للتحذير منه وبيان قبحه وشؤمه، ودعوة الناس إلى ضده ألا وهو تحقيق التوحيد لله رب العالمين٠
والشرك خطره عظيم وضرره على العبد كبير، وذلك للأسباب التالية:
١- لأنه تشبيه للمخلوق العاجز الضعيف بالواحد الأحد المتفرد بالجلال والكمال، ومن أشرك مع الله أحدا فقد شبهه به، وهذا أعظم الظلم كما في الصحيحين ١٠ من حديث عبد الله بن مسعود ﵁ – قال: سألت رسول الله ﷺ: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال النووى: "الند: الضد والشبه، وفلان ند فلان ونديده ونديدته أي: مثله.. أما أحكام هذا الحديث: ففيه أن أكبر المعاصي الشرك، وهذا ظاهر لا خفاء فيه"٢٠
٢- أن الله لا يغفر لمشرك مات على الشرك دون توبة٠ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ٣٠
_________
١ أخرجه البخاري في مواضع منها كتاب التفسير باب ٣ جـ٨ /١٦٣، وكتاب التوحيد باب ٤٦ جـ١٣/٥٠٣، ومسلم كتاب الإيمان٠ باب كون الشرك أقبح الذنوب جـ١ /٩٠.
٢ شرح النووي على مسلم جـ٢ /٨٠،٨١.
٣ النساء / آية: ٤٨،١١٧.
1 / 183
١- أن الله حرم الجنة على كل مشرك ٠ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ ١٠
٢- أن الشرك يحبط جميع الأعمال التي يعملها العبد، وتصير هباءً منثورًا في يوم الدين ٠قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ٢٠
_________
١ المائدة / آية: ٧٢.
٢ الزمر / آية: ٦٥، ٦٦.
1 / 184
المبحث الثاني: بعض الآيات والأمثلة المتعلقة بسد الذرائع إلى الشرك الأكبر٠
بعد الوقوف على خطورة الشرك الأكبر ومفاسده وأضراره أتعرض لذكر نماذج يسيرة من القرآن والسنة جاء بها الشرع الحكيم لقطع علائق الشرك كله وما يؤدى إليه، حتى يتبين لنا كيف أن الإسلام سدَّ الذرائع المؤدية إلى الشرك، وأحكم الحديث في هذا الباب أيما إحكام ليحذر العباد من الشرك ومن الوسائل المفضية إلى حصوله ووقوعه، فمن ذلك:
١- الآيات الدالة على عبودية عيسى – ﵇ – وأنه بشر رسول مخلوق، ليس بإله، أو فيه جزء من الإله، أو أنه ابن الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا-، وذلك سدَّا لذريعة الشرك، واتخاذه إلها من دون الله أو مع الله، ودفعا لأي شبهة ترد على الطريقة التي خلق بها ٠ قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ١٠
قال ابن تيمية:" فأعنى بقوله ﴿مَثَلَ عِيسَى﴾ إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة، لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشرى على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، وهذا كله يبين به أن المسيح عبدُ ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم"٢٠
_________
١ آل عمران / آية: ٥٩.
٢ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح جـ٢ / ٢٩٣ – ٢٩٥.
1 / 185
وقال ابن كثير:"يقول تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ﴾ في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ فإنه الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقًا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريقة الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا، ولكن الرب ﷿ أراد أن يظهر قدرته حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق البرية من ذكر وأنثى" ١٠
ويقرر ربنا في آيات أخرى بشرية عيسى وأمه – ﵉ وأنهما من جنس البشر، ويسلكان في الطبيعة البشرية ما يسلكه غيرهم٠ قال تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ٢٠
يعنى أن عيسى رسول من رسل الله تعالى الذين أرسلوا لهداية البشرية ودعوتها إلى توحيد الله وعبادته، وأمه صديقة من فضليات النساء، وحقيقتهما مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما بدليل أنهما كان يأكلان الطعام، وكل من يأكل الطعام فهو مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويمد حياته، إلى جانب أن أكل الطعام يستلزم الحاجة إلى دفع الفضلات، وعليه فلا يمكن أن يكون ربا خالقا، ولا ينبغي أن يكون ربا معبودا٠
قال الشوكاني في تفسيره للآية: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾، أي: هو مقصور على الرسالة لا يجاوزها كما زعمتم، وجملة ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ صفة لرسول، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين
_________
١تفسير القرآن العظيم لابن كثير جـ١/٤٠.
٢ المائدة / آية: ٧٩.
1 / 186
خلوا من قبله، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلها، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها، فإن الله أحيا العصا في يد موسى، وخلق آدم من غير أب، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلها، فإن كان كما تزعمون إلها لذلك، فمن قبله من الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة، وأنتم لا تقولون بذلك ٠ قوله: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ عطف على المسيح، أي: وما أمه إلا صديقة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء٠ قوله: ﴿كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر: أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب، بل هو عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون ربا" ١٠
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره:"أي: هذا غاتيه ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر، ولا من التشريع إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية، ﴿وَأُمُّهُ﴾ مريم ﴿صِدِّيقَةٌ﴾ أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء، فإذا كان عيسى –﵇ – من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيئا تخذهما النصارى إلهين مع الله؟، وقوله: ﴿كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغنى الحميد" ٢٠
_________
١ فتح القدير جـ٢ /٦٤.
٢ تيسير الكريم الرحمن جـ٢/ ٣٢٦،٣٢٧.
1 / 187
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ١ وأن مريم ولدت إلها، ولذلك رد الله عليهم هذا البهتان وعليه فكيف يدَّعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم كما أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه ٢٠
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ٣٠
قال القاسمي في تفسيره:" لا ذكر تعالى أنه يعدد نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة إشعارًا بعبوديته، فإن كل واحد من تلك النعم المعدودة عليه، تدل على أنه عبد وليس بإله ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره – ﵇ – على رؤوس الأشهاد بالعبودية، وأمره لهم بعبادة الله ﷿ إكذابا لهم في افترائهم عليه، وتثبيتا للحجة على قومه، فهذا سر سؤاله تعالى له، مع علمه بأنه لم يقل ذلك، وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومن تأثر بهم على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم"٤٠
ومثل ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ ٥٠
_________
١ المائدة /آية:٧٢.
٢ انظر الدين الخالص لصديق حسن خان جـ١ /٢٥.
٣ المائدة /آية:١١٦، ١١٧
٤ محاسن التأويل جـ٦ /٢٢١٩.
٥ مريم الآيات من ٣٠ – ٣٦.
1 / 188
قال ابن كثير في تفسيره:"ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده: أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربهم وربه وأمرهم بعبادته فقال: ﴿فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أي: هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي: قويم٠ من اتبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضل وغوى"١٠
وعن عبادة بن الصامت – ﵁ – عن النبي ﷺ قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد لله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" ٢٠
_________
١ تفسير ابن كثير جـ٤ /٢٢٥.
٢ أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٤٧ جـ٦ /٤٧٤، ومسلم كتاب الإيمان جـ١ /٥٨،٥٩، وأحمد في مسنده جـ٥ /٣١٣،٣١٤.
1 / 189
١- الآيات الدالة على عبودية النبي ﷺ
جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل وترشد إلى حقيقة هامة ألا وهى أن النبي ﷺ بشر كسائر البشر، ولكنه فضل عليهم بالنبوة والرسالة التي توجب محبته وطاعته والانقياد لأمره ﷺ، كما نهى ﷺ عن الغلو والإطراء في شخصه، وذلك سدَّا لذريعة اتخاذه شريكا مع الله، أو صرف أي لون من ألوان العبادة له ﷺ قال تعالى: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ١٠ ولهذا كانت العبودية هي أشرف مقام للنبي ﷺ وقد خاطبه ربه بها في أشرف المناسبات وأعظم المقامات قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ ٢، وقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ ٣٠ وقال سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ ٤، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا﴾ ٥٠
وإذا كان رسول رب العالمين الذي هو أكمل الخلق وأقربهم إلى الله ﷿ لا يملك ضرا ولا رشدا بنص كتاب الله الكريم فغيره من سائر الخلق ممن هم دونه ﷺ من باب أولى وأحرى، بل إنه ﷺ ما سبق غيره إلا بكمال عبوديته لربه٠
قال ابن القيم: "أكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من
_________
١ الأعراف / آية: ١٨٨.
٢ الإسراء / آية: ١.
٣ الكهف / آية: ١.
٤ الفرقان / آية: ١.
٥ الجن / الآيات من ١٩ – ٢١.
1 / 190
دعائه ﷺ "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" ١، وكان يدعو: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ٢، يعلم ﷺ أن قلبه بيد الرحمن ﷿ لا يملك منه شيئًا، وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء، وهو يتلو قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ ٣، فضرورته ﷺ إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده..، ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم جاها وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه ....، وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته، مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ ٤٠وقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ ٥٠ وفى حديث الشفاعة:"أن المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"٦، فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له"٧٠ وللعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – ﵀ – كلام جميل على هذا الموضوع يحسن إيراد شيئا منه هنا لتتم الفائدة٠ قال وهو يفسر أوائل سورة الحجرات: "مسألتان: الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي ﷺ المشعر بالغض منه، أو تنقيصه ﷺ والاستخفاف به، أو الاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله، وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي ﷺ وسخروا منه في غزوة
_________
١ أخرجه أبوداود في كتاب الأدب باب ١١ جـ٥ /٣٢٦، وأحمد في مسنده جـ٥ /٤٢.
٢ أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات جـ٩ /٥٠٤، ومسند أحمد جـ٣ /٢٥٧،والسنة لابن ابى عاصم جـ١ /١٠١، والآجرى في الشريعة /٣١٧.
٣ الإسراء / آية: ٧٤.
٤ الإسراء / آية:١.
٥ الجن / آية: ١٩.
٦ أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٩ جـ١٣/ ٣٩٢، ومسلم كتاب الإيمان باب ٨٤ جـ١ /١٨٠، ١٨١.
٧ طريق الهجرتين وباب السعادتين ص ١٠،١١.
1 / 191
تبوك لما ضلت راحلته: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ١٠
المسألة الثانية: وهى من أهم المسائل، اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي ﷺ ليضع كل شيئ في موضعه على ضوء ما جاء به النبي ﷺ في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة٠
وإذا عرفت ذلك فاعلم: أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله، فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده، لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله ﷺ ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي ﷺ لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا، وقد بين جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى ... قال تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ٢، ثم بين من خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده فقال: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله من خصائص ربوبيه الله، ولذا قال تعالى بعدها ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ يقدر على خلق
_________
١ التوبة / آية:٦٥، ٦٦.
٢ النمل / آية: ٥٩، ٦٠.
1 / 192