وما لدى بسمارك من مشاعر الشريف في ذلك الحين فيعين وضعه بين بروسية وألمانية، وتناوئ هذه المشاعر ألمانية مناوأة تامة، ويقول لصديقه كودل: «وما هو شأن الدويلات لدي؟ فالذي يهمني هو سلامة دولة بروسية وتوسيع رقعتها!» ويدعى في اللندتاغ بابن ألمانية الضال، فيجيب عن هذا بقوله: «إن بروسية هي وطني، ولم أودع
8
هذا الوطن بعد، ولن أودعه!» والحق أن روحه البروسية أشد من شعوره الملكي؛ وذلك لأن المليك هو الذي أعلن حديثا إدماج بروسية في ألمانية، وإن كان مترددا في ذلك، وبروسية بسمارك أعظم فعلا من محافظته في معارضته الوحدة الألمانية، والواقع أن الثورة هي التي أيقظت مبدأ الوحدة في الشعب، وفيما كنت ترى الطبقات الدنيا في فرانكفورت راغبة في شيد إمبراطورية الألمان كنت تبصر قطع هذا العمل بحسد الأمراء وتقويضه بحقدهم على الدهماء،
9
ويناهض صغار الأمراء سيطرة بروسية، ويناهض ملك بروسية سيطرة الألمان في فرانكفورت.
ويمضي أربعون عاما، ويدكر بسمارك ذلك السياق فيسجل في مذكراته قوله: «لو حدث أن استغل انتصار 19 من مارس 1848 - وهو الانتصار الوحيد الذي تم في أوروبة على الفتن - استغلالا حازما ماهرا لحققت الوحدة الألمانية بأحكم مما وقع أيام اشتراكي في الحكم، ولا أبت في القول: هل كان يحدث ما هو أفيد مما حدث وأدوم، فأترك الأمر مفتوحا. إن الوحدة التي يكمل أمرها بقتال يقع في الشوارع تختلف نوعا وتقصر معنى عن وحدة تكتسب في ميدان الوغى. وإن مما يشك فيه أن تكون الوحدة التي تتم بأقصر الطرق وأسرعها نتيجة لانتصار مارس سنة 1848، ذات تأثير تاريخي في نفوس الألمان كتأثير الوحدة الراهنة التي توحي إلى النفس بأن الأسر المالكة حتى التي اشتهرت بالأثرة فيما مضى، أشد تعلقا بألمانية الموحدة من الفرق والأحزاب.»
ونعيش جيلا بعد تسجيل ذلك الشيخ نشيده الختامي فيكون لتأملاته تلك كبير أثر فينا، وهو يخبرنا بأن ما أتمه بقوة السلاح في حروب طويلة كان يمكن إتمامه من غير حرب محكما سريعا، وهو قد أخافته المتاريس وذعر من قتال الشوارع، وهو لذلك يفضل ميدان الوغى على ذلك، وهو كما يلوح لا يقابل بين مائة القتيل أو مائتي القتيل الذين صرعوا في أيام مارس ومئات ألوف القتلى الذين خروا في الحروب الثلاث، ولم يعش بسمارك ليرى أن الوحدة الألمانية دامت بعد تواري الأسر المالكة، ولم يعش بسمارك ليرى أن الأسر المالكة التي وصفها بتألف ألمانية الموحدة (وإن سخر منها في أمور أخرى) لاذت بالفرار تاركة للفرق والأحزاب إنقاذ الإمبراطورية الألمانية.
وفي الساعة العتيدة يشاطر بسمارك مليكه وجهات نظر بقدر ما يعرف منها، وفي اليوم الثاني من أبريل يعتقد وفد فرانكفورت، حتى رئيس وزراء الدولة الكونت براندبرغ أن الملك في اليوم التالي يقبل التاج الإمبراطوري المعروض عليه، ويحل الغد فيرفض الملك - الذي لا يحزر له أمر - ذلك التاج في خطبة أعدها بنفسه، وذلك بعبارات بلغت من الغموض ما تساءل معه الأمير ولهلم وسيمسون (زعيم الفرانكفورتيين) مساء عن رفض الملك للتاج الإمبراطوري حقا، ويدهش الشرفاء أنفسهم بعد أن أمضوا قبل يوم في اللندتاغ، العريضة التالية، فقدمت إلى الملك، وهي: «إن ما لممثلي الشعب الألماني من الثقة يدعوكم - يا صاحب الجلالة - إلى الأمر المجيد القائل بأن تكونوا الإمبراطور الأول لألمانية المبعوثة. وإننا - يا صاحب الجلالة - نخاطب مع الاحترام قلبكم، فنلتمس ألا تتجاهلوا نداء المجلس الألماني القومي.»
وعلى قلة من يعرفون الأمر، وعلى جهل جميع مترجمي بسمارك للأمر؛ نرى بين الإمضاءات على تلك المذكرة إمضاء فون بسمارك شونهاوزن وأقربائه من آل كليست وأرنيم ووزيرين من الشرفاء (انظر إلى ص355-357 من التقرير الاختزالي)، وهكذا يعترف بسمارك بتعبير كنيسة بولس البغيضة (مجلس فرانكفورت الوطني) عن صوت الشعب الألماني، فينصح مليكه بقبول ذلك التاج من تلك المشكاة الشعبية معتقدا أنه راغب فيه! ويرجع إمضاؤه ذلك إلى اليوم الثاني من أبريل سنة 1849، وفي اليوم الثاني من أبريل سنة 1848 كان قد نطق بتلك الخطبة الثائرة ضد الملك لتودده إلى الشعب فلم يسطع أن يتمها بسبب بكائه الشديد، فهذا ما اكتسبه ذلك السياسي الناشئ في سنة واحدة من الوفاء والولاء!
ولم يكد الملك يرفض ذلك التاج؛ خلافا لما كان ينتظر حتى تنفس الشرفاء الصعداء، وفي اليوم الحادي والعشرين من أبريل يقول بسمارك من فوق المنبر: «إنني أعد مقررات مجلس فرانكفورت الوطني غير الشرعية التي حاول أن يحقق بها مطامعه الطاغية (مقاطعة، الرئيس يدق الجرس) غير ذات فعل لدينا.» ثم يصف جميع المفاوضة بأنها «فوضى قائمة عرضتها فرانكفورت.» فيرفض «منح طمع فرانكفورت في السيادة أصواتنا.»
نامعلوم صفحہ