8
عريض، وما يوحي به من أثر في أنه يود طيب العيش فيضفو عليه ما يشعر به من ثقة أدبية وعزم صارم.» حتى إن هذا الوصف إذا ما أصلح بتاريخ بسمارك اللاحق عن عمله السياسي ظل مؤثرا، وهو لم يغفل عن غير أمر خاص عامل في نفوس من سمعوه منذ الأيام الأولى وفي غضون السنين القادمة، وهو أن صوت هذا العملاق كان نحيفا ضعيفا مع لعثمة، فهذا التناقض مما كان يدل على مكان اللغز في كيانه، وما الذي دفعه اليوم إلى المنبر؟
ويجرؤ شريف من حزب من الأحرار، وكان هذا الحزب يحتوي بعض الأشراف، على الجهر بأن الحقد على الفاتحين لم يكن حافزا للبروسيين في حركتهم سنة 1813؛ وذلك لما لم يكن لدى قوم كثيري النبل كالبروسيين من حقد قومي، والأمر كان أحسن مما عليه الآن مع ذلك، لاستناد الحكومة إلى الشعب آنئذ، وينطوي هذا وإن خلا من الصراحة على المبدأ الشائع في ذلك الحين والقائل إن الشعب ذهب إلى الحرق وقتئذ إنقاذا لنفسه، وإنه لهذا السبب نال في سنة 1813 حق إقامة حكومة شعبية، ويناهض بسمارك مثل هذا المبدأ، وما يبدو الآن نتيجة ثوران غيظ فجائي فقد أعد بدقة في الحقيقة، وتوجد مسودته، ويصرخ قائلا: «إن من السخف أن تعزى حركة الأمة في سنة 1813 إلى سبب غير الخزي الذي أصابنا به وجود عدو في بلادنا، وعندي أن من الإضرار بالمبدأ القومي أن يقال بعامل سوى العار الذي يفور به الدم، وسوى الحقد الذي يخنق جميع المشاعر الأخرى، وإن من الإنكار لكل شعور بالشرف أن يريد أناس آخرون بعد دفاع شخص أمام ضربات تسدد إلى كيانه، استخراج منافع أخرى كما لو كان ذلك الدفاع قد تم في سبيل هذه المنافع.»
ويصغي أصدقاؤه إليه، ويسقط في أيديهم، ويكون كفاحه الأول ضربة سيف في الهواء ما دام الخطيب الذي تقدمه لم يقل شيئا من ذلك.
ويعد جميع المتطوعين في حرب الإنقاذ وجميع أبناء هؤلاء حتى أناس من المحافظين ذلك إهانة لهم، «فيعلو الاحتجاج والتذمر والضجيج»، كما ورد في المحضر، وينبري خطيب آخر له فيجيبه عن قوله بأن حب الوطن - لا الحقد - هو الذي دفع الشعب حين كان أوتوفون بسمارك صغيرا فلا يقدر على تقدير ذلك، فيا للخطيب من خصم شخصي! ويخفق قلب بسمارك سرورا! ويرتقي المنبر مرة ثانية، «ويكون صخب، ويدعو الرئيس إلى السكون، ويرتفع احتجاج»، فهنالك ولى بسمارك المجلس ظهره ساخطا، وقد كان أحدث أعضائه سنا، وأخرج جريدة من جيبه وقرأ بنفسه إلى أن عاد الهدوء، ثم قال: أجل، إنه لم يكن قد ولد حين حرب الإنقاذ، غير أن أسفه على ذلك قد قل بعدما أتي به اليوم من إيضاح قائل إن استعباد بروسية في ذلك الزمن كان نتاجا محليا لا أمرا فرضه الأجنبي.
ويأتي بسمارك ضربة أخرى في الهواء؛ فقد قال صديق من حزبه: «إن مما لا يدرك أمره أن يجعل امرؤ بارع مثله من نفسه موضع سخرية بهذا المقدار.» ويقول للخطيب قريب حامل لوسام الصليب: «إن الحق بجانبك لا ريب، بيد أن ذلك مما لا يباح به.» ويقول بلانكنبرغ: «لا يعتم الضرغام الذي يلعق الدم هنا أن يزأر على نغم آخر!» وينتقد المؤرخ الشاب سبيل تلك الخطبة في جريدته بقوله: إنه لا يمكن فصل الإصلاحات عن الحريات بمثل تلك المماحكات.
والحق بجانب سيبل، والحق مع جميع النقاد، ومنهم بلانكنبرغ، ولكنك لا تجد واحدا منهم استطاع أن يدرك السبب الحقيقي في تعريض بسمارك نفسه لمثل ذلك الهزوء، وهو أن العبقري يصادم الجميع دوما عند ملاقاته أول مرة، ومما لا ريب فيه أنه أعد خطبه، وفي هذا علة فلت الزمام من يده، ومما لا ريب فيه جهله لسنن الزمان فأغضب أصدقاءه، غير أن ما كان وراء ذلك من شدة الحقد الموجه إلى أولئك الذين يأبون مقت الفرنسيين أكثر مما إلى الفرنسيين أنفسهم، ومن الشجاعة التي جرؤ بها، وهو المجهول الأمر أن يصعد في المنبر بين الشغب للمرة الثانية ومن الازدراء الذي ولى المجلس به ظهره، أمور أظهرته في ذلك النضال مكافحا، ويكتب إلى خطيبته قوله: «لقد أثرت في الأمس زوبعة عظيمة من الاستياء بخطبة غير تامة الوضوح حول حركة سنة 1813 الشعبية، فجرحت بهذه الخطبة غرور كثير من رجال حزبي، فأسفر ذلك بحكم الطبيعة عن تألب جميع المعارضة ضدي ونباحها علي، وكانت البغضاء شديدة، وقد يكون قولي الحق سببا لها، وقد عيرت بفتائي وبأمور أخرى.»
وعلى ما في رسائله إلى خطيبته حنة من رقة، تكتسب هذه الرسائل لهجة التقارير مقدارا فمقدارا، وتصاب حنة بمرض شديد ويصلي من أجلها، غير أنه يظل «في مركزه» ويعد بعيادها في عيد العنصرة، ويخلف الوعد، ويكتب إليها قوله: «لا أبين لك السبب في أنني لم أسطع أن أجيء؛ لما في ذلك من عدم فائدة، وإنما أذكر لك أن أهم شئون البلاد هي موضوع البحث، وقد يتوقف الأمر على صوت واحد. ومما يؤلمني أن تكون المسافة بينك وبين اللندتاغ خمسين فرسخا، وأنتن أيها النساء غريبات الطبع؛ فالأصلح أن يتصل بكن مشافهة لا كتابة.» ولا ينبغي تأجيل الزواج، وعلى حنة أن تمرض هادئة في البداءة وإلا اعتقد «وجودي مكسالا في رينفيلد، ولا أستطيع أن أشاركك بحرية كما يجب قبل أن نتزوج.»
وهكذا يتكلم العاشق بلهجة الزوج الرزينة مع عدم نقص في العطف، ولكن الحزم والتوجيه لم يلبثا أن رسخا بعد أن غدت السيطرة لإرادته، ويبدأ بسمارك بتقدير الوقت والقول عن الكسل للمرة الأولى من حياته، ويبدو أحد الأمور لبسمارك مهما للمرة الأولى من حياته، وهو يصرح بأن السياسة تحرمه شهوة الطعام ولذة النوم، «وأراني غضابيا
9
نامعلوم صفحہ