ويساورها قليل وجل من إزعاجه في أول الأمر، وتكتب فتقول: «لا تنظر إلي بهذا المقدار من السخرية، ولم يبق علي إلا أن أمس قليلا حتى تذرف عيناي نهرا من الدموع، فلا ينبغي لك أن تفعل ذلك، فليس ذلك ما تبتغيه مني، آه! اعف عني، أنت الوحيد، اصبر علي، انتظر فصل الربيع ونتائج ما زرعت.» ثم تذكر من فورها ما قيل عن إرعاده للناس فتقول: «أنتظر منك أن تظهر لي ما في قلبك من وفاء، وماذا يكون لو خدعت نفسي؟ إن الريبة هي أخوف ما يكون في هذا العالم ... يدلني خط رسائلك على أنك غدوت أكثر اتباعا لهواك مما تدل عليه كتبك السابقة، فهل هذا هو أمر فؤادك يا أوتو؟» ثم تجيب عن سؤالها هذا بأسلوب نسوي فتقول: «لا تبال بكون الأمر على هذا المنوال، فلن أكون أقل مرونة مما كنت عليه يا حبيبي، وسأحاول أن أثني ما لا أقدر على كسره، وإذا لم يتم لي هذا فلم تسلك سبيلي التزمت جانب الصمت وصنعت ما تريد.» وهكذا استطاع في أربعة أشهر أن يحملها على التسليم التام بحزم ممزوج بلطف، وهي إذا ما فرضت عليه مطالعة كتب جان بول ولبس معطف من مخمل - ويكره الأمرين - قرنت ذلك بكلمة «لا» المعهودة.
وهو يبدو كثير الحمد لها؛ لما كان من تسليمها، وهو يظهر عظيم الشكر لها لما كان من بقائه معتزلا زمنا طويلا، وهو على ما كان من اكتشافه في نفسه قبل خطبته ما يحتاج إليه العيش النشيط المنظم من شروط لازمة، وعلى ما كان من تجلي خطته قبل خطبته بسنة، تبصره قد بسط هذه التحولات على حسابها وزاد عزتها بفوزه.
ويقصد منزله بعد خطبته فيكتب قوله: «دخلت القرية فشعرت أكثر من قبل بمقدار ما في وجود مسكن للإنسان من بهجة، ولا تكادين تقدرين يا فؤادي درجة ما يساورني من اليأس عندما كنت أعود إلى منزلي بعد سياحة، وما كان الفراغ في حياتي ليظهر في زمن مثل ظهوره في تلك الأحايين، وذلك إلى أن أنهمك في كتاب لا يكون كئيبا في نظري، أو إلى أن أزاول عملي اليومي آليا. والآن ما أشد اختلاف نظري إلى أي شيء كان، لا من حيث الأمور الخاصة بك فقط، ولا من حيث إن هذا الأمر أو ذلك الأمر يلائمك فقط (وإن كنت قد شغلت بالي منذ يومين لأجد أصلح مكان لمكتبك)، بل لجدة الوجه الذي أدرك به الحياة، وأجدني مباليا أيضا بشئون الأسداد والأمن.» وهو قبل أن يحقق ما يصنع، ينسخ لها قصيدتين قائمتين لبيرون، (وإن لم تكونا كذلك في نظره) طويلتين محزنتين إلى الغاية، ويكتب في أسفلهما كلمة «هراء!» ويرسلهما إليها من غير أن يمحوهما مع ذلك.
وفي كتابه الثاني يبدأ تربيتها بلطف، فيوجب عليها أن تكب على تعلم اللغة الفرنسية، وإن لم تفعل ذلك عطلت من المقام في المجتمع الراقي، وهو يضع أجمل الصيغ وأكثرها سحرا مع الجهر بذلك، ويمضي وقت قصير فيخبرها بضرورة تعلمها ركوب الخيل، وتمر أسابيع قليلة فيقول: «عدت غير مبال بتلك القصائد الإنكليزية الهزيلة، والآن أبصر سنورا
1
أسود يلعب بها على ضوء الشمس، فيدحرجها ككرة، فيسرني أن أرى ذلك.» بيد أنه يداوم على نسخ ما تيسر من شعر بايرون فيرسله إليها، وفي الكتاب التالي يرسل إليها قصائد فرنسية عن الألم العام، ويضيف - مع وهم عجيب - الكلمة: «لا تشغلي بالك بأنني أقرأها الآن، فقد غدت غير مؤذية لي.»
ويستشهد بإحدى تلك القصائد ذات مرة فيطلق العنان لخيال أيامه الأولى فيقول: «أجدني شديد الرغبة - في مثل تلك الليلة - أن أكون شريكا في السرور وجزءا من زوبعة في عتمة، فأثب من فوق الصخور مع حصاني القافز في دوي انحدار نهر الرين»، وما كادت الفتاة تدرك مذعورة معنى كلمات خطيبها تلك، وما كادت تفهم ذكريات فتائه الفالت تلك، فوجدته كفارس يقف حصانه الوثاب عند صخرة، حتى أبصرته يقلب حالته الروحية بإضافته من خلال دخان سيغاره ساخرا، قوله: «إن لهوا كهذا مما لا يسمح به غير مرة واحدة في عمر المرء، مع الأسف.»
وهكذا كان قلب أوتوفون بسمارك مملوءا بالمتناقضات.
وكان فؤاد بسمارك يروق عندما يصف أفعاله الراهنة، ولا تدور هذه الأفعال حول إدارة ما يملك، بل حول الأسداد والسلطان، وما مثله إلا كمثل القابلة
2
نامعلوم صفحہ