ومن قول بسمارك: «إنني بمثل ذلك السلوك والسب وما إليه؛ كنت أريد الانتساب إلى أحسن فرقة، ولكن جميع ذلك ليس سوى لعب صبي، وقد كان لدي وقت واسع، وقد أردت جلب رفقائي إلى هنا كما أقود الناس فيما بعد.» ومن قوله مع اليمين إنه لن يموت قبل انقضاء عشرين سنة إلا ثلاثة أشهر؛ فهو إذا ما بلغ هذا كانت أمامه اثنتا عشرة سنة أخرى، ومن قول ذلك الروائي الفتى بعد ذلك الفصل: «تبصر جوهر بطل يبذر هنا»، وذلك قبل أن يكشف هذا الجوهر للمرة الأولى بعشر سنين.
وما في طالب السنة الأولى ذلك من إقدام وكبرياء وفجور وهيف وعنف مع سلامة نفس، فيناقض مع عند التلاميذ الآخرين، وهو يدعى في الحانة بكندسكوبف وكسوب وأشيل، وهو يعرف بالشذوذ وبالبروسي الشرقي وبالذي لا يجرح. وهو يدل على «غنى صوانه» بمعطفه الأخضر التفاحي ذي الرفرفين الطويلين وبسترته المخملية المزينة بأزرار صدفية. لا بلبس النسيج الصوفي المخطط والقبعة - على حسب عادة تلاميذ ذلك الحين - وهو بعد أن يشرب كثيرا من خمر الرين ومادر يغادر الحانة؛ ليستحم في النهر ليلا. وهو يعزر على الدوام من أجل تدخينه بلا إذن ومن أجل ما يأتيه من شجار وشغب. وهو يحتقر دروس الأساتذة بأكثر مما يصنع رفقاؤه، وهو ينام دوما عاريا؛ لما يؤدي إليه الكتان من تهييج بشرته، وهو يجتنب الهزوء به لما يوجبه ذلك من إثارته فورا، فيخرج في كل مرة من الصراع منصورا، وهو قد قام بخمس وعشرين مبارزة في فصوله المدرسية الثلاثة الأولى، فلم يجرح في غير واحدة منها، فله بذلك عظيم تأثير في الأسن منه، وله بذلك سريع بلوغ لغايته، فيخشى جانبه.
وعلى المائدة، حيث يفضل أن يتغدى، يتكلم بخمس لغات، والسيد البوميراني ذلك لا يعاشر غير غرباء لذلك، ويتخذ من فوره صديقين فيظلان ثابتين مدى حياته؛ وذلك لما لا يكون بينه وبينهما من نفور سياسي كما بينه وبين الآخرين الذين خالطهم في شبابه، وذانك الصديقان هما: موتلي الأمريكي المرح الكيس
6
الطليق من كل وهم، والكونت كيزرلنغ الكورلندي الزاهد الرشيد، ويبقى هذان الرجلان صاحبين وحيدين لبسمارك حتى شيبته، ويصبح مولي الذي لم يكتب إلا في عهد فتائه
7
مؤرخا وسياسيا، ويصبح كيزرلنغ عالما طبيعيا فلا يشترك في الحياة العامة. وكلا الرجلين أسن من بسمارك وأهدأ وأنسق، ويجد بسمارك فيهما ما يعوزه من التواضع وما ليس لدى الألمان الذين يعرفهم من الحرية، وكلا الرجلين لم يكن عضوا عاملا في «الفرقة».
وما افترض دراسته له من الحقوق فمن شأنه أن يجعل منه سياسيا، وكان من آمال أمه ذات الحرص أن ترى ابنها يسير على غرار أبيها. وفكر كهذا من سمات الطبقة الوسطى، وهو جدير بآل منكن، وهو غريب في الحقيقة عن آل بسمارك الذين لم يخدم أحد منهم مليكه بغير السيف حتى الآن، والأم لذلك لم تجد ما يحفزها إلى مناهضة ولدها، وللولد هذا لم يكن غير قليل ميل إلى وظيفة ضابط، وكان من الممكن أن يكيف كما يراد في سنوات الفجور المترجحة بين السابعة عشرة والعشرين من عمره؛ لما لم يكن لإرادته أي وجهة في ذلك الدور.
وبسمارك من الناحية السياسية أيضا كان من عدم الاكتراث ما لا يسير معه وراء ميوله الأولى، فهو منذ البداءة قد اجتنب جمعيات الطلبة الذين كانوا يشربون وينشدون على شرف الإمبراطور والإمبراطورية؛ «لأنهم كان يذمون ما يرى ذلك الطالب من المبارزات وشرب الجعة»، والذين كانت تعوزهم أوضاع الجمعيات الصالحة، وهو قد اعتزل الأوساط التي كانت تشاطر وحدها في ذلك الحين فكرة الريخ سائرا مع مزاجه ومناحيه، ولكنه إذا ما حدث أن استهزئ حول المائدة بالتلاميذ البروسيين - وهذا ما يندر وقوعه في هانوفر - لم يلبث أن يدعو إلى المبارزة ستة من رفقائه مدافعا عن قرار بلوخر في واترلو بحرارة فيقول بعضهم: «إن تلميذ الصف الأول يتكلم كما في زمن فريتز القديم!»
وما كان ليبالي بالمسائل القومية كما يلوح، وما كان ليحضر درس أشهر الأساتذة في هذا الموضوع، وكان يحب أن يشارك رفقاءه الأمريكيين في احتفالهم بيوم الاستقلال وأن يشرب معهم نخب الحرية، ولكن أحد هؤلاء يتكلم عن انقسام ألمانية فيراهن بسمارك على خمس وعشرين زجاجة من خمر الشنبانية بأن الوحدة الألمانية ستتحقق في خمس وعشرين سنة، فمن يخسر الرهان يجاوز البحر ليشربها مع الآخرين، وهو لم يخطئ في غير ثلاث عشرة سنة من العد.
نامعلوم صفحہ