كلمة
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
كلمة
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
بنت الإخشيد
بنت الإخشيد
تأليف
إبراهيم رمزي
كلمة
صغت هذه الرواية في سنة 1916، وهي ثاني رواية ألفتها، وكانت لفرقة الأستاذين «حجازي وأبيض». وكان مقصودا أن يقوم بالدور الأول فيها المرحوم الشيخ سلامة، ولكن ما كان به - رحمه الله - من المرض أعجزه عن أن يتناول جديدا بتلحين أو تمثيل. ولذلك رأينا أن تقوم عنه السيدة ميليا ديان بدور «الأمير مزاحم» بلا غناء، وتقوم السيدة ماري إبراهيم بدور «نجلاء» فأحسنتا كل الإحسان، إذ كانت هاتان السيدتان أنصع نطقا وأشد تذوقا للمعاني وأقدر على تصويرها من كل من اتصلت بهن في التمثيل.
ولذلك أهدي إليهما في عزلتهما المباركة وإلى روح الممثل العبقري الخالد الذكر المرحوم أحمد أفندي فهيم ممثل دور الإخشيد بما ليس بعده مجال لإجادة، مطبوع هذه الرواية مع التحية والتسليم وأطيب الذكرى.
إبراهيم رمزي
مصر الجديدة في فبراير سنة 1938
أشخاص الرواية
الإخشيد:
ملك مصر (931-946) سنه 50 سنة.
محمد بن رائق:
أمير دمشق ... سنه 50 سنة.
الأمير مزاحم:
ولد الأمير ابن رائق ... سنه 25 سنة.
الأمير ظافر:
ابن أخي الإخشيد ... سنه 30 سنة.
الأمير خالد:
أحد قواد الجند في مصر ... سنه 30 سنة.
كافور:
المعروف بالإخشيدي، عبد أسود خصي، معلم ولدي الإخشيد.
يانس:
أحد أمراء جند الإخشيد ... سنه 40 سنة.
سعيد:
جندي من جنود ظافر.
مبارك:
مولى ابن رائق وخادم الأمير مزاحم سنه 40 سنة.
مملوك تركي:
في قصر الإخشيد بمصر لم يبلغ الحلم.
نجلاء:
بنت الإخشيد ... سنها 18 سنة.
زينب:
جارية في بيت الإخشيد وصيفة لنجلاء سنها 30 سنة.
الفصل الأول
قطعة من جزيرة الروضة هي بعض بستان قصر المختارة الذي كان للإخشيد ملك مصر في الثلث الثاني من القرن العاشر الميلادي، يرى فيها إلى يسار الناظر مقعد ووراء المقعد أشجار كثيرة وإلى اليمين مثلها، وفي مؤخر المنظر مجرى ماء هو بعض مجرى النيل العظيم يلوح من ورائه بعض قباب الجيزة ومآذنها.
إذا أزيح الستار رؤيت نجلاء ابنة الإخشيد قادمة في زورق جميل من اليسار، تجدف فيه وصيفتها زينب. أما نجلاء ففتاة تركية العنصر بيضاء في الثامنة عشرة من عمرها ترتدي قفطانا من الحرير الأزرق فوقه عباءة فضفاضة، وقد اعتمت اعتمام المتفضل لولا أهداب من الجوهر تتدلى في مهوى القرطين. وأما زينب فامرأة في الثلاثين ممتلئة الجسم ضليعة، ملبسها ملبس الجواري المقربات.
الوقت بعد العشاء بساعة أو يزيد قليلا والقمر بازغ من وراء الأشجار إذ نحن في أول العشرة الثانية من الشهر - فالمنظر إذ ذاك تغشاه أنوار وظلال، فإذا تقدم المشهد تقدم القمر معه وعلا فضاء المكان بلونه الفضي، حتى إذا أسدل الستار على الفصل كان القمر قد مال فحجبته الأشجار اليسرى شيئا ما، ثم أظلم المكان مرة ثانية.
زينب (يقف الزورق) :
أننزل الروضة يا سيدتي الأميرة؟
نجلاء :
أتعبك التجديف على عجل ... أم ترين بساط الروض أجمل منظرا من بسيط الماء في هذه الليلة القمراء؟
زينب :
كلا، ولكني ...
نجلاء :
لا بأس هلم.
زينب :
إنما رأيتك تنظرين إلى هذا المكان فظننت أنك تطلبينه (تنهض، وتخطو إلى البر وتأخذ في ربط الزورق إلى جذع شجرة إلى اليمين).
نجلاء :
كنت أتلفت لأتبين من فيه (تنهض من مجلسها، وتأتي زينب فتأخذ بيدها، وهي تخطو إلى البر) .
زينب :
هل كنت ترين أحدا؟
نجلاء :
كلا، ولكن خيل إلي أني سمعت حسا فأشفقت أن يكون ظافر هنا على عادته فيعكر علي صفو ساعة أتلمسها من ليلي ونهاري (تخطو إلى البر، وتسير نحو المقعد) .
زينب :
ويحي يا سيدتي، حسبه بعض هذا الهجران! هل في أسرة الإخشيد أبيك من هو أوسم منه وأشجع؟
نجلاء :
ويحك زينب، إني ما خصصتك من بين الجواري بخدمتي إلا ثقة مني بأمانتك، فإذا أنت أرهقتني بعد اليوم بحديث ابن عمي، فلن يكون لك مني إلا ما تعلمين (تجلس على المقعد) .
زينب :
ويحي يا سيدتي، والله ما حداني من الأمر إلا أني رأيته حزينا فأشفقت عليه.
نجلاء :
إذا كنت قد أشفقت عليه فأحر بك أن تبكي علي.
زينب :
إنك بخير والحمد لله.
نجلاء :
كيف أكون بخير وأنا أستشعر في نفسي شقوة وحزنا منذ تحدثوا بزواجه مني؟!
زينب :
إذا كنت لا ترغبين في هذا الزواج، فلماذا لم تعلني الأمر إلى أمك؟
نجلاء :
لقد شكوت لها واستحلفتها أن تحول دونه فوعدتني خيرا، ولكني أخشى تعنت أبي. وأقسم لئن لم تصرف عني هذا الأذى لألقين بنفسي في أحضان هذا النيل، إنه مشوق لعروسه منذ ثلثمائة من السنين.
زينب :
وي، تلقين بنفسك في الماء؟!
نجلاء :
هلم، هلم، ها هو ذا آت. إلى الزورق ... (تنهض وتذهب إلى الزورق.)
زينب (تنظر نحو اليسار وتتأمل وهي تتبع سيدتها) :
ليس هو القادم يا سيدتي.
نجلاء :
لا يعنيني، كل أبناء عمي سواء.
زينب (تحل رباط الزورق، ثم تركب وتتناول المجداف، وهي ناظرة صوب القادم) :
ولكنه ليس من أبناء أعمامك على ما أرى.
نجلاء :
من ذا يستطيع دخول حديقة المختارة غير واحد منهم ... هلم سيري بنا. أسرعي، إني أسمع وقع خطواته ... (تخرجان) . (يدخل الأمير مزاحم من اليسار، وهو مرتد قباء من الحرير الأبيض، وقد تمنطق بسيف عربي، وعلى رأسه عمامة صغيرة ذات أهداب، ويقف يتأمل حائرا.)
مزاحم :
أين مبارك يا ترى؟ لماذا لم يوافني بمركبي إلى هذا المكان؟ أتراني ضللته (حائرا) ، ألست أرى الجيزة؟ أم أني أطالع الفسطاط. ذلك قصر المختارة أمامي، وتلك قطائع ابن طولون عن يميني، وهذا الحصن من ورائي، وهذا النيل عن يساري (يقف حائرا) ، ويح الغريب يرى البقاع متشابهات، والأصقاع متشاكلات حتى لا يهتدي إلى موعد ولا يطمئن لمكان ... (يخطو نحو المقعد، ويجلس حيث كانت نجلاء جالسة)
لا بأس فلأقض بمصر ليلة أخرى أمتع العين بمنظر النيل قبل ألا نرى النيل، ونشهد عروس الدنيا قبل ألا عروس ... حرام على الناس أن يقلقوا مطمئن النبت في مرقده من هذه الأرض، أما والله لأصرفن أبي عنها ولأكونن لها من دون سيفه درعا، مصر أنت كنانة الله في أرضه من أرادك بسوء قصمه الله. (ينهض ويأخذ في الغناء):
بالله يابانة الفسطاط إن خطرت
عليك ريح الصبا من جانبي ميلي
ولا يصدنك حر في لفائفها
فذاك شوقي إلى الفسطاط والنيل
وأنت ياسوسنا يفتر مبسمه
عن لؤلؤ بين منضود ومعسول
إن رف طيف خيالي بعد فرقتنا
فلا تمل لمقال الريح والقيل
وجد بها قبلة تحيى النفوس فقد
رأيت خلدي في ضم وتقبيل
وأنت يا ظبيات النيل باكرها
حيا العفاف بتكميل وتجميل
تركت قلبي يرعى بينكن هوى
كما رعى الأم طفل غير مفصول
بالرغم مني أن أنأى وقد علقت
نفسي بتربك يا دار العطابيل
أفديك من نظرة يا ريم خائنة
ومن أماني قلب غير متبول
أنتن حور وتلك العين عارية
صورن منكن في طهر وتكميل
وما الملائك إلا قومكن وما
تلك الفراديس إلا روضة النيل
رضوانها الملك الإخشيد يكلؤها
من الأذى بمساميح بهاليل
قوم همو بعض حسن الدهر حوضهمو
ممنع بمواضيه المصاقيل
أصفت شمائلهم آي الجمال بدت
للعين في كل مطبوع ومنقول
مهد الحضارة لا ينزل هواك على
عاديك إلا بتذليل وتنكيل
طهرت حتى استعاروا منك دينهمو
وشوهوه بتغيير وتبديل
وأنت إن أنكرتك الأرض باقية
للفضل والنبل وردا غير مجهول (يخرج ماشيا تحت الأشجار يمينا، ويعود الزورق بنجلاء وزينب، ويقف بهما هنيهة.)
نجلاء :
من صاحب هذا الصوت الجميل يا ترى؟
زينب :
إني ما سمعت هذا الصوت من قبل، ولكن في نفسي صورة من صاحبه وإن كنت لا أدري أين رأيته، بيد أنه من دمشق يا مولاتي.
نجلاء :
سيري بنا، لعله من ضيوف أبي.
زينب :
عفوك يا سيدتي (تترك الزورق وهي قابضة على حبله وتهرع إلى البر تنظر إلى مزاحم وهو سائر في الخميلة، ثم تعود) .
نجلاء :
ويحك زينب ماذا تفعلين؟ لا يليق بك هذا.
زينب (تعود فتركب الزورق) :
تذكرته يا مولاتي، سأخبرك عنه.
نجلاء :
سيري، سيري، أسرعي (تخرجان)
عرجي على خليج عمر.
مزاحم (يعود من اليمين ويتجه نحو النيل وظهره إلى الناظر، ثم يتقدم يسارا) :
أسمع صوت زورق يدنو، أيكون مبارك قد تتبع مصدر صوتي؟ هذا زورق فيه فتاتان، يا الله! أتكونان من بيت الإخشيد؟ أأنا في حديقة المختارة؟ ( يتلفت)
حقا إنني أخطأت. (يدخل الأمير ظافر من اليمين ولا يزال مزاحم يراقب الزورق.)
ظافر :
ويحك، من أنت؟
مزاحم (يلتفت) :
سلام أيها الأمير.
ظافر :
ثكلتك أمك من أنت؟
مزاحم :
غريب ضللت الطريق.
ظافر :
قبحت، كيف تخطئ، وهذه الجزيرة كلها حرم الأخاشدة؟!
مزاحم :
لا أعرف أنها كلها كذلك، فقد خبرني خادمي أن ركنها هذا مباح للسابلة، فإذا كان قد أخطأ فعذره أنه غريب عن مصر مثلي.
ظافر :
فلماذا تجيء هنا في مثل هذه الساعة من الليل، وأنت تعلم أن أبواب الفسطاط لا تفتح لسارب بالليل واردا أو صادرا بعد الغروب بساعة؟
مزاحم :
ذلك لأني راحل عنها في هذه الليلة المقمرة تفاديا من حرارة النهار، وإذا بقيت بالفسطاط، فإني لا أستطيع الخروج.
ظافر :
وأين مركبك الذي ترحل به؟
مزاحم :
ذهب خادمي لاكترائه من المقس، ثم يعود به إلي حيث واعدني، أما أنا فاكتريت زورقا كان على شاطئ الفسطاط عبرت به خليج عمر، وقد سرت في الجزيرة على غير هدى كما تبين لي، فاعذرني أيها الأمير.
ظافر :
كم لبثت هنا؟
مزاحم :
بعض الساعة أيها الأمير.
ظافر :
ويل لك، إنما جئت ترعى نسوة القصر في خلوتهن كالذئب يرقب حمامة المرج لدى وكرها.
مزاحم :
معاذ الله أيها الأمير، إن نساء مصر كظباء مكة صيدهن حرام.
ظافر :
ولحمهن مر يا شقي. ألم تكن ترقب ابنة الإخشيد وهي في زورقها؟
مزاحم :
كلا والله، وما ينبغي لي. ولكني سمعت حفيف زورق، فزعمت أن خادمي جاء ليحملني.
ظافر :
إذن فارحل عن هذا المكان على الفور. هذا قصارى ما يعفو به عن مثل جرمك الأمير ظافر بن حسين أخي الإخشيد.
مزاحم :
شكرا لك أيها الأمير فهل تدلني على الطريق؟
ظافر (مشيرا إلى الماء) :
دونك الطريق.
مزاحم :
طريق الماء؟
ظافر :
أجل.
مزاحم :
كيف أنتقل إلى الشاطئ أيها الأمير وليس لي مركب هنا؟ ألا تدلني على مكان السابلة حتى ألاقي خادمي؟
ظافر :
ألق بنفسك في الماء، عجل.
مزاحم :
ما هكذا كرم الأخاشدة!
ظافر :
ويحك، عجل (يضع يده على مقبض سيفه) .
مزاحم :
هب أني استطعت الوصول إلى الشاطئ سابحا فمن ذا يفتح لي باب الفسطاط؟ بل من ذا يبيعني ثوبا يقيني أذى البلل حتى ألاقي خادمي؟
ظافر :
لا يعنيني الأمر، أغرب وإلا قتلتك.
مزاحم :
عفا الله عنك أيها الأمير، بيد أن معي من دمشق سيفا غير مفلول الحد، ولكني عرفت خطئي فتقبلت منك كل ما كان كفارة، وإن كانت الأعمال بالنيات.
ظافر :
ويل لك من وقح، أيقال هذا لمثلي؟
مزاحم :
هون عليك أيها الأمير لا تخش بأسا، دعني أتلمس خادمي لعلي أراه فأدعوه. إني أسمع حفيف مركب (يتراجع نحو النيل)
تالله لا أريد أن أحمل من مصر أثرا سيئا، ولا أطيق أن أترك فيها دما مطلولا. (يسير نحو النيل ليتبين خادمه.)
ظافر :
ارجع وإلا قتلتك.
مزاحم :
مهلا.
ظافر (يسعى وراءه بالسيف وهو مغضب ويضربه به غمزا من ورائه، فيسقط مزاحم متعثرا، يمسك جرحه بيده) :
خذها إلى جهنم.
مزاحم :
وي! وي! هكذا! يا للنذالة! يا للنذالة (يغشى عليه) .
ظافر :
تدعي التماس خادمك، وما تلتمس إلا نظرة من ابنة عمي (يتراجع عنه حتى يحتويه ظلام بعض الشجر) . (تعود نجلاء وزينب، فإذا رأتا مزاحما ملقى على الأرض وهو على هذا الحال هرعتا في ذعر ووجل وانكبتا عليه تفحصان أمره.)
نجلاء :
وي! من هذا؟
زينب :
هذا الذي كان يغني منذ هنيهة.
نجلاء :
أتراه قتيلا؟! أجل، إني لا أجد به حراكا ... وهذا دم يسيل من عطفه.
زينب :
يا الله! ترى أحد الحراس قد استرابه؟
نجلاء :
مسكين هذا الفتى ترى من قاتله؟
ظافر (يأتي من وراء الأشجار) :
أنا يا سيدتي.
نجلاء :
يا الله، ظافر! ما جنايته؟ (تنهض) .
ظافر :
أتحزنين لقتل الفاسقين؟
نجلاء :
كيف عرفت ذلك؟ إنني كنت الآن أسمعه يشدو بمديح مصر وأهلها ويطري أمراءها وأخشيدها، ثم يودعها آسفا ويفارقها حزينا. أفيكون نصيب مادحكم القتل؟
ظافر :
أكنت تسمعين غناءه يا سيدتي، ثم تروحين وتجيئين على صفحة الماء أنت وهذه الفاجرة؟
زينب :
وي!
نجلاء :
ويحك يا ظافر، ماذا تعني؟
ظافر :
أعني أنك كنت على موعد من هذا الخائن. متى كان لأحد من عبيد أبيك أن يجرؤ على الدنو من حرمه إلا أن يكون على موعد؟
نجلاء :
ماذا أصابك يا ابن عمي حتى ترميني بما تستحي الأبالسة أن تنعتني به. أم زعمت - لأني وجدتك جاف الطبع فكرهت أن أكون لك - أنني عالقة بهذا الأمير؟!
ظافر :
يا الله! من ذا خبرك أنه أمير إلا أن يكون لك به خبر قديم؟ لماذا لم تعلني إلى الحراس أمره إذ جاء إلى هذا الحرم لولا أنك تسترين؟ لقد فاجأته وهو يودعك ويشيع زورقك بعينيه. أم زعمت أني لا أعرف دسائس الفاسقين وحيل العاشقين. إنهم ليطرقون الحمى، ويستبيحون الحرم احتماء في توهم الناس استحالة الاستباحة، كاللص يخفي غنيمته في أبين مكان اختفاء وراء إنكار الناس عليه هذا الخطل. تطلبينه في هذا المكان، ولو أنصفت لطلبته في خدرك يا ابنة العم الطاهرة!
نجلاء :
الله بيني وبينك يا ظافر، أبمثل هذا تكلمني؟! (تبكي) .
زينب :
سيدي الأمير، ما هذا الريب؟
ظافر :
حسبك مكرا أيتها الجارية، وأنت أيتها السيدة الطاهرة اذهبي إلى خدرك، لقد أبردت الريح جسمانك اللطيف لولا ما أدفأه من حر الشوق ونار الغرام. خذيها إلى حجرتها.
زينب :
هلمي يا سيدتي، هلمي.
نجلاء :
ألم أقل لك إني أمقت هذا المكان؟ (يدخل مبارك، وهو عبد أسود في الأربعين من عمره يلبس لباس الخدم في القصور.)
مبارك :
الأمير ظافر؟ (يتراجع في تحية وإكبار)
معذرة يا مولاي! إني حسبتك سيدي الأمير مزاحما!
نجلاء، وزينب :
مزاحم؟
ظافر :
من مزاحم هذا؟
مبارك :
ولد الأمير محمد بن رائق صاحب الشام.
زينب :
ولد ابن رائق، حقا، حقا.
ظافر :
ها هو ذا، خذه وانصرف به على الفور.
مبارك (يلتفت، فيراه ملقى على الأرض، فيهرع إليه ويجثو بجواره باكيا) :
ويلاه، سيدي، قتيلا!
ظافر :
ويحك انهض.
مبارك :
ماذا جنى يا سيدي، ماذا جنى؟
ظافر :
ويحك يا عبد السوء، أنسيت أن سيدك جاسوس لعين؟
مبارك :
جاسوس؟ متى كان للأمراء أن يتجسسوا؟
ظافر :
كيف تقدمان مصر في هذه الأيام، وأبوه يعد العدة لقتالنا؟!
مبارك :
إنما جاء سيدي إلى بلادكم منذ شهرين مستشفيا من داء عز في دمشق دواؤه. يا لله ! ماذا فعل؟!
ظافر :
خير لك أن تخرج به على الفور.
مبارك :
بل الخير أن أقصد إلى مولاي الإخشيد. أين مكانه الآن يا مولاتي؟
ظافر :
ويحك يا عبد السوء. (يجرد سيفه ليقتله، فتنهض نجلاء وتقف في طريقه، وتقف زينب تحمي العبد.)
نجلاء :
أجرما على جرم؟!
ظافر :
أيتوعدني العبد بالشكاية إلى الإخشيد؟!
مبارك :
إني إنما أطلب بالشكاية شهادة لي عند مولاي تبرئني مما يبدر في ذهن الوالد الثاكل، وسيتبين الإخشيد أمري، فإن كنت جاسوسا وقتلني كان في القتل شفاعة.
ظافر (يتراجع وهو يتمتم بكلمات وعيد ثم يتلفت إلى مبارك) :
إني أنا رئيس الشرطة، ولي وحدي الحكم عليك ... انهض احمل سيدك حيث شئت، ولا تبت بمصر بعد الليلة، وإلا ألحقتك بسيدك.
مبارك :
لا، وربي، لا، لا أفارق مرقد سيدي حتى يأذن الإخشيد بدفنه. هذا ابن ملك يا سيدي، وليس من حق العبد أن ...
ظافر :
ويحك يا عبد السوء، تتحداني؟! انهض به من هنا وانصرف، بل ... إني سألقيه لك في النيل.
نجلاء (تعود هي وزينب تقفان في وجهه) :
ما هذا؟! ما هذا؟!
والله لئن فعلت لأبلغن والدي الأمر بنفسي ولأكونن حربا عليك.
ظافر :
أنت؟!
نجلاء :
نعم.
ظافر :
لماذا؟!
نجلاء :
يا عجبي! لأنك اتهمت بريئا وقتلت بريئا.
ظافر :
العجب منك يا نجلاء! هبي القول حقا، أيجمل بك أن تعملي على مجازاة قريب في غريب؟!
نجلاء :
إنما المؤمنون إخوة ، وهذا الأمير من بيت آبائنا في فرغانة، ولعمري إنك لتعرف الرأي في ذلك من أبي.
ظافر (يصمت هنيهة، ويفكر، ثم يقر رأيها متأسفا) :
صدقت يا نجلاء، وهذا شر ما في الأمر.
نجلاء :
ماذا؟
ظافر :
لا يزال عمي على بعد الشقة، وتقادم العهد - على ما ذكرت من خلق البداوة - من آبائنا. لا جناح علي أن أقتل رجلا يدخل حمى الإخشيد تحت ستار الليل بلا استئذان، وأنا رئيس الشرطة وحارس مباءته.
ولكني لا آمن غضبته لقتلي رجلا يجري فيه دم آبائه! ولو كان من أعدى أعدائه! وكان عذري فيما فعلت مبينا، فاعذريني يا نجلاء، واستري أمري، ولا تأخذيني بما أسأت به إليك، فإن المحب غيور، وذا الوجد سريع الظنة.
نجلاء :
إليك عني، لا أطيق الآن حديثا. (تتركه وتجلس على المقعد.)
زينب :
وهذا الخادم يا مولاي؟
ظافر :
سأجعله من خاصة رجالي وأجزيه خير الجزاء.
مبارك :
لا يعنك أمري يا سيدي، لن أفارق لحد سيدي حتى يوافيني القدر، ولكن ماذا يقول أبوه إذا افتقده في عيدنا القريب، ولم يجده؟!
ظافر :
سنكتب له أن الأجل وافاه! وسأبعث بالرسالة أحد أتباعي الأمناء! أليس هذا التدبير حسنا يا زينب؟!
زينب :
شأنك وما ترى يا مولاي، وإذا كنت لم تستطع أن تحسن إلى الأمير في حياته، فلا أقل من أن تحسن إليه بإكرام دفنه، وأن تراقب الله بعد ذلك.
ظافر :
أقسم بالله لأتصدقن على روحه بألف دينار كل عام. ولأكفرن عن ذنبي بإطعام فقراء الفسطاط ما بقي من رمضان، إن كان في ذلك رضا لابنة عمي.
زينب :
أجل، أجل.
ظافر :
هلم يا مبارك، هات مركبك نحمل به جثة الأمير إلى منزل الشرطة.
زينب :
اذهب يا مبارك.
مبارك :
نحمله؟!
نجلاء :
اذهب يا مبارك.
مبارك :
إن به ملاحين، فهل ترى أن يأتيا به إلى هذا المكان؟
ظافر :
كلا، لنأت به نحن.
مبارك :
ونترك سيدي طريحا على الأرض وحده؟!
نجلاء :
إنا باقيتان معه حتى تعودا، هلم عاوني على حمله إلى هذا المقعد (تسير نحو مزاحم).
ظافر (يتقدم نحو مزاحم) :
لا بأس.
نجلاء :
خل عنك، لن تكون لك يد عليه بعد هذا ... (يتعاونان على حمله، ويرقدانه على المقعد.)
مبارك :
وا سيداه! (يخرج ظافر يتبعه مبارك.)
زينب :
لقد عذرتك يا سيدتي لمقتك هذا الأحمق، وأثنيت عليك لغضك الطرف عن سيئته، ولعل في كتمانك الأمر سبيلا إلى التخلص منه.
نجلاء (وهي متمعنة في مزاحم) :
رحم الله شبابك أيها الأمير ... علي بوسادة من سقيفة الكرم.
زينب :
أمرك يا مولاتي.
نجلاء :
عزيز علي موتك أيها الأمير، لقد وقفت ترقب النيل ونفسك أبر منه جودا، وتلمح زهر السماء ومحياك أشرق منها نورا. أفق أيها الراقد الكريم وانظر من تبكي شبابك وتندب رواءك، أخت ليس كمثلها أخت، وأم ليس كمثلها أم، إنما النفس شقيقة نفس لا تزال تحن إليها حتى تلتقي بها، وقد وجدت صنوي فيك أيها الأمير. والله لو يطيق هذا الصدر أن يكون لك لحدا لقنع من دنياه بذلك وضن بك حتى تستحيل إلي وأستحيل إليك، لقد طالما التمست عيني مثلك يملأ نفسي أنسا ويفعم قلبي نعمي حتى هديت إليك، ولكن ميتا ... ميتا، لا يطول بقربك اغتباطي ولا تدوم بجوارك هناءتي، فالوداع أيها الأمير ... (تقبله؛ فيتنبه مزاحم ويشرع جفنيه) ... يا الله!
مزاحم :
الحمد لله الذي وهبني أختا!
نجلاء :
الحمد لله الذي ردك إلينا وشاء لنا الطمأنينة بعد الأسى.
مزاحم : ... شكرا لك يا سيدتي، أكنت تبكين! شكرا لك شكرا.
نجلاء :
كنت أندب شبابك أيها الأمير.
مزاحم :
من ذا خبرك أني أمير؟
نجلاء :
طيب قلبك، وجلال نفسك، وأثر العزة في عينك قبل أن ينبئني مبارك بأمرك.
مزاحم :
أجاء مبارك؟ أين هو الآن؟
نجلاء :
سيعود بمركبك قريبا، إنا حسبناك قد فارقتنا، فالتمست غيبته لأستغفرك عما أصابك في حمى الإخشيد.
مزاحم :
إن هو إلا جرح في الخاصرة، أبى الله إلا أن يجمد دمه حتى لا يعيب الناس أهل مصر في شيء، ولكن كان حزني على أثره في نفسي أشد من ألمي منه، فتضافر علي وجدان غيبائي عن الوجود، حتى أحيتني زفراتك وردتني عبراتك. ولو أوحى إلي أني ظافر بعد جرحي بأخت لاستعجلته، فهل لك أن تذكري لي من أنت؟
نجلاء :
نجلاء بنت الإخشيد.
مزاحم :
بنت الإخشيد! معذرة يا سيدتي وواهبة الحياة لي، ما أنت إلا ملك كريم لا تطمع النفس أن تؤاخيه.
نجلاء :
ولكنك دعوتني أختا، ولعمري لهو لقب أشتهيه، فادعني به ما حييت.
مزاحم :
إنا كذلك على كل حال، أفلا أدعوك بعده بما في نفسي.
نجلاء :
كيف يكون ذلك؟
مزاحم :
منى النفس يا نجلاء (تكون زينب قد عادت بالوسادة) .
نجلاء (تنهض) :
زينب!
مزاحم :
وصيفتك؟
نجلاء :
نعم، ها هو ذا الأمير قد رده الله إلينا!
زينب :
الحمد لله على ذلك، كيف حالك الآن أيها الأمير؟
مزاحم :
بخير مادمتما.
زينب :
إنك لا تدري كم قاست سيدتي من أجلك.
مزاحم :
كأني أعرف ذلك، وقد نلت جزائي عليه سلفا.
نجلاء :
وقد أثابني الله عنه خيرا (يدخل مبارك) .
مبارك :
انتظر أنت يا سيدي.
زينب :
مبارك!
نجلاء :
انظر!
مبارك :
سيدي الأمير! مالي بشكر الله يدان، مالي بشكر الله يدان. (يجثو، ويقبل ركبتي سيده.)
مزاحم :
شكرا لك يا مبارك، لا تبك، الحمد لله على ذلك.
مبارك :
الحمد لله، الحمد لله، أعالجت جرحك يا سيدي؟
مزاحم :
كأني به غير قاتل يا مبارك، فلا تخش بأسا.
نجلاء :
ما أوفى مباركا أيها الأمير، لقد هم أن يزل بنفسه سرفا من أجلك.
مزاحم :
شكرا لك يا مبارك، أين السفينة؟
مبارك :
لا تبعد عن هذه البقعة كثيرا، أعزمت على الرحيل الليلة؟
نجلاء :
لا بد لك من البقاء بمصر حتى يلتئم جرحك. (يدخل ظافر).
ظافر :
ما هذا؟! لماذا غبت عني (يرى مزاحما جالسا)!
أفقت يا سيدي؟! ...
مزاحم :
سلام أيها الأمير.
ظافر :
إذن فقد وجب رحيلك عن هذه الديار، هلم عجل.
نجلاء :
ألا يبقى حتى تتم له العافية؟
زينب :
أرى ذلك يا سيدي الأمير.
ظافر :
كلا، إني لا أريد أن ينتشر خبر وجوده، حتى لا يلومني عمي على إبقاء جاسوس لابن رائق في مصر بغير علمه.
مزاحم :
جاسوس؟!
مبارك وزينب :
جاسوس؟!
زينب :
أهذا ما وعدتني؟!
ظافر (لزينب) :
ويحك، قم يا سيدي الأمير.
نجلاء :
فإذا ...
مزاحم :
لا روع عليك، خذ بيدي يا مبارك.
ظافر :
أحسنت.
نجلاء :
كلا ... لا ترحل!
مزاحم :
سلام أيتها الأميرة. سلام أيتها الأخت. شكرا لك، ثقي أنني لا أنساك.
ظافر :
كفى وداعا أيها الأمير، إنك تغلبنا على حلمنا. هلم اتبعني ... (يتلفت ظافر صوب السفينة.)
مزاحم :
وداعا ... (تقع نجلاء على المقعد.)
الفصل الثاني
في صحراء العريش ... جبال ورمال (مزاحم - مبارك)
مزاحم (يدخل) :
مبارك!
مبارك :
مولاي.
مزاحم :
هل أنخت الراحلة؟
مبارك :
نعم يا مولاي، ولكني لا أظننا نجد للمطايا علفا. إن هذه الصحراء قاحلة مجدبة.
مزاحم :
لا تذمها يا مبارك! إن لها عندي فضلا عظيما.
مبارك :
فضلا؟! ...
مزاحم :
نعم، إنك لا تعرف ماذا أجد في صدرها من السعة لنفسي. أقف حيالها خاشعا كأنما أنا في الحرم؛ ذلك بأنها خالدة يا مبارك، والخلود أدعى إلى الإجلال. انظر كم شاهدت هذه الصحراء من قرون؟ وكم وعت من حديث أمم ... هذي التي اخترقها مصرايم أبو المصريين. وقمبيز ذلك الفارسي اللعين، ثم هذي هي الصحراء التي مر بها بطل الإسلام عمرو بن العاص إلى مصر ففتحها وهي هي لا تتغير! صحيفة واسعة تعي أساطير الأمم لمن يقرأون. بل لعلنا الآن حيث أناخ الفاتح يوم جاءه رسول الخليفة ... أين نحن الآن يا ترى؟ ...
مبارك :
نحن فيما بين رفح والعريش يا مولاي.
مزاحم :
إذن فلم يخب ظني. هنا وقف ابن العاص يفض رسالة عمر ... أما والله لأبيتن بها ليلتي.
مبارك :
مولاي! ما هذا! أمبيتنا بكل دارة؟ وتلوما بكل مكان! لقد زدت رحلتنا طولا بمكثك في كل مكان نزلنا به. ولو أنك تابعت الرحيل لكان لك أسبوع بين أهلك. إنا على أيام قلائل من دمشق وأبوك في انتظارك.
مزاحم :
لا تخش بأسا، إنا لا نزال في منتصف رمضان، فلن يفوتك أن تتمتع بطيبات العيد إن شاء الله.
مبارك :
سيدي، سيدي! لقد أدركنا قيظ الصيف ... ورأيت الصحراء تزجي السهام كأنما هو لهب الجحيم، فهل ترى المكث خيرا من السرى؟ وقد اكتمل البدر وكان لنا في غربتنا رفيقا!
مزاحم :
كلا، ولكني أشعر بالسعادة ههنا، بجوار عمرو وفي حمى هذه الصحراء.
مبارك :
وأين عمرو منك يا مولاي؟! لقد مضى على نزوله هذه المحلة ثلاثة قرون كاملة.
مزاحم :
إنه هنا، في فؤادي، أتلفت فأراه وأحسه، إنه هو الذي منحنا كل هذا الملك الطيب. ولولا دعة منه وحكمة ما كان بعض هذا. لقد كان ابن العاص قائدا تحت إمرته ابن الخطاب نفسه، وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح، يوم أرسله النبي إلى عمان يفتتحها، فلما استخلف الأولان بعد الرسول وولى أبو عبيدة الله زعامة جيش الإسلام، لم ير في ذلك غضاضة عليه بل كان مثال العربي الكريم سيدا في نفسه ماجدا لا تملكه غيرة كاذبة ولا وهم ولا حسد وكذلك الدولة. هلم، هيئ للمطايا غذاءها من حشائش هذه الصحراء ... انظر، هل فيها من مكارم العرب فضل تغذاه؟ ... جس خلالها لعلك تجد خضراء لم يذبل نبتها، منذ أنبته كريم قرشي.
مبارك :
مطاع يا مولاي.
مزاحم :
أحسنت.
مبارك :
على أن لا أبيتن بهذا المكان. إني لا أريد أن تجمعني بظافر أرض تظلني سماؤها.
مزاحم :
أقسم بلوعتي لئن عارضتني بعد ذلك لأردنك عن دمشق شهرين.
مبارك :
وي!
مزاحم :
أفلا تصدق؟
مبارك :
كيف لا يا مولاي! ولكني لا أدري ماذا تعني؟
مزاحم :
أعني أن أعيدك إلى الفسطاط.
مبارك :
الفسطاط.
مزاحم :
قريبا منها قليلا.
مبارك :
جزيرة الروضة!
مزاحم :
أقرب قليلا.
مبارك :
قصر المختارة!
مزاحم :
نعم ... لقد حذرت.
مبارك :
حذرت ...! لن أرجع إلى مصر أبدا. من ذا يطيق العودة إلى مصر ...!
مزاحم :
أنت.
مبارك :
أقابل الأمير ظافرا مرة أخرى!
مزاحم :
بل تقابل سيدتك يا مبارك ...
مبارك :
الأميرة نجلاء!
مزاحم :
نعم، نجلاء! نجلاء!
مبارك :
مولاي!
مزاحم :
آه ... إن قلبي لا يطاوعني أن أفارق أرض مصر يا مبارك.
مبارك :
فلماذا كنت تسير في هذه الصحراء يا سيدي إذا كانت أرض مصر تشوقك؟!
مزاحم :
كنت أعلم أني في مصر حتى أتينا على حدودها، فأيقنت أني مفارقها. هنا لج قلبي!
مبارك :
ولماذا لم تخبرني بذلك من قبل يا مولاي؟!
مزاحم :
ما حسبتني أجد لها كل الذي أجد يا مبارك ... يكاد يقتلني الشوق إليها، والحنين إلى تلك النظرة الدامعة التي كانت ترمقني بها حيا وميتا. انظر يا مبارك يأبى الحب أن يترك قلبا مثل قلبي بلا غرام يشغله، أو هيام يذهله، فلما طعنني ذلك الأمير شفع الحب عند الردى، فوهب قلبي له حتى تكون ميتتي ميتة حب وغرام لا ميتة غدر وانتقام. غير أني وجدت ابن عمها يتعقب آثارنا. ألم تر أنه أرسل ذلك النوتي في صحبتنا حتى تنيس، وذلك الدليل في رفقتنا حتى الفرمة؟ وظل يراقبنا - بالفرمة - ثلاثة أيام حتى رحلنا!
مبارك :
لقد كان يمكننا أن نقتل الدليل، ونعود إلى مصر في الأيام التي قضيناها في الفرمة بلا داع.
مزاحم :
وي! ما ذنب الرجل حتى نقتله!
مبارك :
ألم يتجسس علينا؟ ثم ألم يكن يسبب لي بوجوده شقاء كالذي تريده لي الآن!
مزاحم :
إنما أردت أن أطمئن قلب ظافر يا مبارك. إني محب وأعرف ألم الغيرة، فلا تكن كذلك. سألتك بالله إلا ما ذهبت لإطعام المطايا، ثم تعود.
مبارك :
ها أنا ذا ذاهب يا سيدي (يخرج) .
مزاحم :
آه ... (يغني):
جللت يا بيد قلبي مفعم بهوى
ضاقت به نزل الفسطاط يا بيد
كتمت وجدي عن مصر فبرح بي
فأوسعي لي أشكو البث يا بيد
أنا فداء حبيب بعض نعمته
علي نشرى بعد الموت يا بيد
أحيا المحب لترديه محبته
كيلا يموت بغير اللحظ يا بيد
فالموت لا الشوق داعيه ولا شغف
بمن أحب فنا، والله يا بيد (يسمع صوت بوق وطبل.)
ما هذا! أصوت بوق أسمع؟! أهذي علامة جماعتنا؟ أجل هي ... بلا شك، أتراهم أزمعوا غزو مصر! كلا ... لن يكون ذلك ... من ذا يأتيني بنبأهم؟ أين مبارك؟ (ينادي) مبارك! مبارك! إني لا أرى له أثرا، وأخشى أن يتنكبوا عن هذا المكان، فلا ألتقي بهم. ولكن من ذا يخبر مباركا أنني سرت إليهم؟ لأترك له في قتب البعير ورقة. أجل ... إنهم إذا حاربوا الإخشيد لم يبق مكان لخطبة نجلاء ...! بل لم تبق مصر كتلك التي تركتها بالأمس، فأودعت نفسي أثرا لا أريد أن يفنى مصدره، حتى لا أشعر بتقدم الأجل ... أين الدواة؟ أفي الرحل هي؟ أجل ... (يخرج، ويدخل ظافر، وخالد.)
ظافر :
إني أرى أثر أقدام حديثة العهد بهذا الثري! خالد أترى جيش ابن رائق قد مر بهذا المكان؟
خالد :
كيف ذلك أيها الأمير! إن الأمشاط صوب الشام لا مصر، بله إنها لاثنين ...
ظافر :
لاثنين ...؟
خالد :
نعم، هذي القدم كتلك، وتلك كهذي، ولست أظنهما إلا قريبين من هذا المكان.
ظافر :
حسبك هذيانا يا خالد.
خالد :
ألا ترى الطابع لم تعمل به الريح عملا؟ لولا خشية المبالغة لقلت هذه قدم الأمير مزاحم، وتلك قدم خادمه مبارك.
ظافر :
ويحك يا خالد! إنا ما غادرنا الفسطاط إلا بعد رحيلهما بأسبوع كامل!
خالد :
لعلهما استراحا بالفرمة أو غيرها؟
ظافر :
كلا، إنهما لم يعرجا بمكان. كذلك خبرت.
خالد :
هذا جائز. سر بنا إلى جماعتنا، إنا قد بعدنا من المحلة كثيرا.
ظافر :
أما سئمت عشرة الجند يا خالد؟
خالد :
لا يسأم عشرة الجند فارس يا ظافر.
ظافر :
صدقت، ولكني أريد أن أحدثك في سر.
خالد :
سر؟! لماذا لم تخبرني به من قبل؟ ألم تكن مسافة ما بين العريش والفسطاط كافية لشرحه؟
ظافر :
دع عنك الهذر، أتدري ماذا جد بعد رحيل ذلك اللص؟
خالد :
أنى لي أن أدري؟
ظافر :
مالك تهزأ بحديثي!
خالد :
لأنك أخرق. لو كنت مكانك لقتلته وانتهيت من أمره، وقتلت العبد أيضا.
ظافر :
لقد أردت ذلك ... فأنذرتني.
خالد :
وماذا في ذلك؟
ظافر :
الخراب المحتم.
خالد :
وماذا حدث الآن؟
ظافر :
خراب مثله.
خالد :
ما أحسن الحال. كيف كان ذلك؟
ظافر :
ذهبت إلى والدتها وأبلغتها كل ما كان من شأني مع مزاحم هذا، وما تعجل به لساني معها، وأنذرتها أن تزل بنفسها سرفا إذا هي لم تحل دون اقتراني بها، فوعدتها أمها خيرا.
خالد :
مرحى، مرحى! وهل الزواج اغتصاب أيها الأمير!
ظافر :
ويحك يا خالد، إن للمزاح حدا!
خالد :
وللجد آخر. إنما أردت أن أقول لك إنك أخطأت. هذا مزاحم جاء على موعد منها كما قلت لي، ثم عرفت ذلك وتركته، ولم تقطع أملها منه.
ظافر :
أتظن أنها كانت تعرفه من قبل؟
خالد :
إذا لم تكن كذلك فلم هذا القول ...! بل لماذا كانت حملة عمك على الشام مكروهة لديها حتى ألحت على أمها أن تصرف أباها عنها! أليس لتبقي مجرى الصلات صافيا حتى تكون لمزاحم هذا.
ظافر :
صه، لن يكون ذلك ما دمت حيا. لقد كاد ينصرف عمي عن ملاقاة جيوش ابن رائق، وفكر في مصالحته على أمر، لولا ما بينت له ما في ذلك من ضعة الشأن وتضعضع السلطان.
خالد :
أفأنت الذي حرضته على سوقنا إلى مقاتلة أمير الشام وجنوده ...!
ظافر :
نعم.
خالد :
أمن أجل فتاة تريد إرواء هذه الصحراء الظامئة بدم الفوارس والأبطال ...!
ظافر :
حسب هؤلاء الأبطال أجورهم.
خالد :
ما أليق هذا الكلام بك أيها الأمير! وما ذنب مثلي حتى أبيع حياتي من أجل امرأة لغيري؟! لقد والله حسبت ابن رائق عادانا، فاستنفرنا إخشيدنا لنصرته، فهببت إليه من دياري. وجئت معك أدافع عن بلادي وأميري!
ظافر :
هو كذلك يا خالد، إن ابن رائق سير الجيوش من دمشق منذ أيام قلائل، ولعلنا نلتقي بهم بكرة الغد أو ضحاه.
خالد :
إذن فلأبق، ولكني لا أحارب إلى جانبك.
ظافر :
ويحك يا خالد، ماذا أصابك؟!
خالد :
لقد سئمت حديث الحروب، لا عن جبانة ولا ارتياع، ولكن مقتا لدواعيها، فقد رأيت أكثرها يشن من أجل امرأة تطمع فيها، أو لقمة سائغة تشتهيها وأنت في غنى عنها. ولو أن مثيري هذه الحروب رشدوا وقنعوا من الأمر بما بين اليدين ومسرح العينين لنالوا خيرا من تلك المرأة، وساغوا أهنأ من تلك اللقمة. لذلك آليت على نفسي أن لا أحارب حتى أتبين الحقيقة. فإن كان للدفاع عن نفسي من أذى الباغين فيها، وإلا كنت أول القاعدين.
ظافر :
ولكن الدنيا كلها كذلك. أتخالف سنة العالم!
خالد :
ما رأيت أكذب من إجماع أهل الدنيا على شيء. دعني بالله أمضي إلى جندي (يسمع صوت وقع أقدام) ... ما هذا؟! (يدخل سعيد الأبلق مع بعض الجيش.)
ظافر :
ماذا جاء بك يا سعيد ...؟
سعيد :
لقد خرجنا نستريض في الصحراء بعد العشاء، فالتقينا بطليعة من جيش الشام، وبينهم الأمير مزاحم!
خالد :
ألم أقل إنه قريب منك!
ظافر :
فماذا حدث ...؟
سعيد :
نازلونا فنازلناهم وكنا قليلين فذهب أكثرنا ضحية، ولولا فضل الأمير مزاحم علينا لكنا اليوم من الهالكين.
ظافر :
أي فضل له عليكم يا جبناء؟
خالد :
حسبك أيها الأمير. لقد شئت أن تتقدم الجيش العظيم بطليعتك وأنت في نفر قليل، فلا غرو أن يقتل رجالك جميعا ... ما خبر الأمير مزاحم يا أبلق؟
سعيد :
لما هجمت طليعتهم علينا وجدته ينادي بهم من بعيد: ارجعوا عنهم. هؤلاء صحبي، ارجعوا عنهم. هؤلاء رجالي.
ظافر :
قبح الوغد، أفأصبح من أنسباء الإخشيد!
خالد :
ثم ماذا؟
سعيد :
لم يسمع له الجمع في أول الأمر، كأنما استرابوه، وكأنما لم يكونوا يعلمون بوجوده، فهم بيننا وبينهم، فلما عرفه مقدمهم صاح. سلام للأمير، وبذلك كفوا أذاهم عنا ونجونا سالمين.
خالد :
إذن فقد وجبت علينا الرجعة إلى القيروان ننذره بالأمر قبل أن نقع جميعا أسرى في يد مزاحم.
ظافر :
لن يكون ذلك، لا بد أن ألاقي مزاحما هذا وأقتله بسيفي. أين مزاحم هذا؟ (يدخل مزاحم والجند ومبارك) .
مزاحم :
ها أنذا، من ذا يناديني؟
ظافر (يتقنع على الفور) :
ستعرف ذلك عما قريب.
مزاحم :
لا تغرر بنفسك أيها الفارس المبرقع، إنك في قبضتنا، ومن العيب أن نقتل أسيرا.
ظافر :
ثكلتك أمك. دونك والقتال حتى يحكم السيف بيننا وبينكم، إن لي عليك دينا أريد أن أتقاضاه اليوم.
مزاحم :
دينا ...!
ظافر :
أجل، إن كنت أميرا كما تدعي فدونك والنزال! إني أريدك من دون قومك.
مزاحم :
إذن فليتنح عني جندي، ولينقع الفارس غلته من عدوه الذي لا يعرفه.
ظافر :
وليتنح عني جندي، لست الآن في حاجة إليهم.
خالد :
مرحى، مرحى! أجدر بذي الثأر أن يثأره بيده. إلى الوراء أيها الجند. (يتضاربان، فيسقط اللثام عن وجه ظافر.)
مزاحم :
يا الله! الأمير ظافر ...!
ظافر :
ثكلتك أمك، إني ظافر.
مزاحم :
قف بالله حتى أعرض عليك أمرا.
ظافر :
ويح الجبان ...!
مزاحم :
ما أنا بجبان يا ظافر، ولكني أكره أن أنازلك، إنا سليلا أصل واحد، وفريعا دوح واحد؟ وهل عهدت الأخ يقتل أخاه؟! بل إن مرآك ليملأ قلبي حنينا وذكرى.
ظافر :
وإن مرآك لمثير في نفسي حقدا وحنقا، دونك والسيف.
مزاحم :
لن يكون ذلك يا ظافر، إني إذا قتلتك أغضبت من لا أطيق أن يغضب: أبي، ومن تعرف.
ظافر :
ويحك ... دونك والقتال.
مزاحم :
إن أبي ليكره مني ما تكرهني عليه، فلا تدفعني إلى إغضابه، إنه لا يقبل عذر معتذر ولا شفاعة شافع. ولقد كان لمن تعرف علي نعمة الحياة أفأرد إليه ابن عمه مضرجا بدمائه؟ كلا لن يكون جزاء المحسن الإساءة.
ظافر :
أقصر أيها الجبان.
مزاحم :
إنما الجبان من يطعن من وراء يا ظافر، فهل عهدتني كذلك! إنما أنت الآن أسيري، ولكن أبت علي شرعة العرب إلا أن أجيبك إلى طلبتك، أفلا تجيبني إلى عهد نصرف به ما بين أبي وعمك من الشحناء؟
ظافر :
لا يهمني ذلك.
مزاحم :
إذن فلك حياتك أنت وقومك، عد إلى أهلك مأجورا.
ظافر :
ويحك دونك والسيف، فإما قتلتني وإما قتلتك، وليفعل الأبوان بعد ذلك ما شاءا. لقد سلبتني بيضة آمالي ودرة حياتي، فلا عجب إذا أنا سلبتك حياتك ... دونك والقتال.
مزاحم :
لا يجدي المقال. (يتقاتلان، فيسقط ظافر جريحا، ثم يموت.)
ظافر :
آه! قتلتني، قتلتني، لعنة الله عليك.
مزاحم :
وا مصيبتاه، قضي الأمر، ما أردت والله أن أوردك مورد الحتف، وإنما عمدت إلى صرفك عن الأذى بجرح أو بعض جرح، فاعف أيها الأمير، اعف عني، ويلاه لقد انقطع خيط الرجاء، فالوداع أيتها الآمال، الوداع أيتها الحبيبة، الوداع يا مصر، لم يعد لي في رحابك أمل إخاله، ولا مطمع أناله.
ابن رائق (يدخل، يتبعه أمراء) :
ما هذا؟! مزاحم ...؟!
مزاحم :
أبي. (يتقدم إليه ليقبل يده.)
ابن رائق :
مرحبا بك يا ولدي، مرحبا، لماذا أطلت غيبتك عني؟! خبرت أنك التقيت بجندك الليلة وأنت في طريقك إلي، وكان النصر على يديك بارك الله فيك.
مزاحم :
يا أبت إنما النصر من عند الله يؤتيه من يشاء.
ابن رائق :
صدق الله العظيم، ما هذا الذي وراءك؟! إني رأيتك مكبا عليه وسمعتك تودعه وداع الصديق للصديق، ما نبؤه ...؟
مزاحم :
عفوك يا أبت، رجل نازلني فلم أعرفه حتى تقاتلنا فقتلته. وميط اللثام، فإذا هو رجل من كرام مصر له علي عهد وذمة، ما أقبح الحرب يا أبت! تدفع الصديق إلى مقاتلة صديقه، والأخ إلى منازلة أخيه. أفلا يكون لها حد في هذه الدنيا؟
ابن رائق :
أما وحياتك عندي ما كنت لأسير جيشي إلى مصر لولا ما منى الإخشيد نفسه - وهو أخي القديم - أن يدخل الشام في حوزته كما أدخلها ابن طولون من قبل. أبى علي - وأنا من بيت فرغانة مثله - أن أكون عن مضطرب الخلافة بمنأى. ولقد دانيته إلى صلح فأبى، وكذلك نحن. ولئن كسرت طليعة جيشه اليوم وهزمت ميسرته غدا، فميمنته باقية، وإني لأخشى أن تدول دولته، أو تذهب دولتي، فيشمت بنا أبناء الخارجي عبد الله الشيعي، مدعي الخلافة في المغرب. (... أما إلى ابن رائق من سبيل؟ يا قوم خذوني إليه.)
ابن رائق :
ما هذا؟ (يدخل مبارك.)
مبارك :
مولاي، يريد أحد أسرانا أن يمثل بين يديك، وقد أبنا له استحالة ذلك، فلج كما ترى.
الصوت : ... خذوني مقيدا.
ابن رائق :
هلم إلينا طليقا ...
مبارك :
تقدم أيها الأمير. (يدخل خالد.)
خالد :
السلام على مولاي ورحمة الله.
ابن رائق :
وعليك السلام والرحمة ... قم، لا يسجد لغير الله ... ما وراءك؟
خالد :
جئت يا مولاي ألتمس منك فضلا بفضل، ولولا ثقتي بمشهور كرمك ونبل قلبك ما ألحفت في المثول بين يديك.
ابن رائق :
فضل بفضل؟! نحن لا نحسن إلى الناس ابتغاء جزاء منهم، إن جئت طالبا العتق، فقد أعتقناك لوجه الله اغتباطا بما وهبنا من النصر، وأن جمعني ببني.
خالد :
شكرا لمولاي، شكرا. هذا جدير بسليل الأخاشدة. ولكني أعرف الجميل، فإذا استطعت أن ألقاه بمثله كان دأبي إذ ذاك شكرا ...
ابن رائق :
من أنت؟ ...
خالد :
الأمير خالد بن واثق بن عطاء، صاحب الإخشيد.
ابن رائق :
مرحبا بابن صديقنا، ما سؤلك؟
خالد :
إن الذي ترى أمامك مخضبا بدمائه أمير محبب في قومه، محمود في عشيرته، على أنه إن قتل بيد ولدك الكريم فقد قتل عدلا. لقد عرض عليه الأمير مزاحم صلحا يستقر به مضطرب الأمر فأبى، وعرض عليه الفكاك من الأسر فأبى، وهم أن يقتل الأمير، فقتل، وكذلك عقبى الظالمين!
ابن رائق :
ماذا أسمع!
خالد :
ولكني أخشى أن يسيء قومه حكمهم فيك، إذ يقولون قتل ابن رائق أسيرا!
ابن رائق :
كلا، والله ما هذا دأبنا.
خالد :
ما كان سليل الأخاشدة بقاتل أخاه، ولو كان من الكافرين.
ابن رائق :
أفصح أيها الأمير، ماذا تعني؟
خالد :
إن الذي قتل يا مولاي هو الأمير ظافر بن حسين، أخي محمد الإخشيد.
ابن رائق :
يا الله! أي داهية نزلت! وأي مصيبة وقعت ...! أكذلك دأبك يا مزاحم؟! أما والله لا تبيتن بهذه الأرض ليلة ... شكرا لك يا خالد، أنك جزيت فضلا بأفضل منه.
خالد :
إنما أردت أن أعتذر إليك عن ولدك الكريم، وأنبهك إلى أمر جلل، تتناوله بما هو أخف وأرعى.
ابن رائق :
كلا، والله ما كانت همة الملوك قتل الملوك، ولا خطة الشرف نقض المعروف. (إلى مزاحم) ...
عد إلى الإخشيد فداء له عن ظافر، وكفارة عن ذنبك ... اذهب، لست مني حتى تموت، أو يعفو عنك فتعذر ... لو قتلك ظافر لأعذرت، ولكنك جرت وما فكرت ...! اذهب، لا جمع الله بيني وبينك في ظلال لواء ... (يخرج مغضبا.)
مزاحم :
أبي! أبي ...!
الفصل الثالث
(بهو في قصر المختارة بمصر، يطل على النيل، له بابان في الواجهة: أحدهما إلى اليمين، والآخر بأدنى اليسار، وهذا البهو قسمان: واحد إلى اليمين على شكل إيوان، مفروش بالبسط البغدادية، والآخر: وصيد. وإلى اليسار باب كبير يبدو النيل من ورائه، ومآذن الجيزة من بعد. وبالإيوان مقعد عال بجواره طراحات.) (تدخل نجلاء مغضبة من الباب الأمامي الأيسر، تتبعها زينب.)
زينب :
ما هذا يا سيدتي! ألم أوصك بالتؤدة!
نجلاء :
انصرفي عني. (تذهب صوب الباب المطل على النيل.)
زينب :
وي! ماذا فعلت؟
نجلاء :
كيف تطرين ظافرا لي أمام امرأة عمي، وأمي؟!
زينب :
إنما كنت أجامل وأداري، لأنبهك إلى خطأ اقترفته مع امرأة عمك ...
نجلاء :
إنه ليريبني أمرك!
زينب :
ويحي يا سيدتي! إن كان يريبك أمري، فما أهون أن تعتقيني وتجعلي العتق كفارة عن إفطارك يوم رحيل الأمير مزاحم، حتى لا يعجب أهل القصر لافتراقنا!
نجلاء :
إنني ما أفطرت إلا بأمر الطبيب ...!
زينب :
إذن فاعتقيني لوجه الله، وأريحي نفسك مني.
نجلاء :
ويحك يا زينب! كيف تقولين هذا، ولا تشفقين علي!
أنا لا أفارقك أبدا، ألا يخرجني قول امرأة عمي عن الصواب! إني لا أحب ظافرا، وأنت تعلمين.
زينب :
مسكينة أنت يا سيدتي.
نجلاء :
وا حسرة النفس على مزاحم! لا أدري والله كيف تطيب لي الحياة في جوار سواه. لقد كنت أمني النفس كبار المنى وهو راحل، ولم أكن أدري أنهم كانوا يعدون لمقاتلة أبيه الفوارس والأجناد ...! آه.
زينب :
يا الله ...!
نجلاء :
لقد بذلت جهدي لصرف أبي عن مناوأة القوم، فعلمت أن كليهما راغب فيها، فلما رأيتهم قد آذنوا بالرحيل سقط في يدي، وعلمت أن الله كتب لي الشقاء، فرضيت به ولزمته، وآليت لا يخرجني منه سواه.
زينب :
سيدتي ...!
نجلاء :
من لي بنظرة منه يا زينب أبرد بها أوار النار في كبدي، وأقر بها ما يضطرب في قلبي من الحسرات عليه، والحنين إليه!
زينب :
أدعو الله أن يصلح حالهم.
نجلاء :
أيبعد على الله أن يتم ذلك؟!
زينب :
ليس من شيء على الله ببعيد، ألم يجيء أباك منهم رسول؟
نجلاء :
إن البريد يأتي الليلة.
زينب :
عسى أن يكون فيه خبر يا سيدتي.
نجلاء :
أي خبر تعنين؟! إن كان فوزا لأبي فهو قهر لي، أو هزيمة للجيش فهو مصاب كبير. ثم ألا أخشى أن تأخذ أبي عزته التي تعلمين، فيقسم أن لا يعود إلى مقر ملكه حتى يهدم بيت الأمير ابن رائق على من فيه ويثل عرشه ثلا. آه. آه. يا زينب إنني أخشى على حياة مزاحم.
زينب :
ما هذه المخاوف! إنك تعيشين في وهم وخيال ... هلم يا سيدتي إلى الحديقة، إن منظر النيل ليشرح القلب ويكشف الحزن ...
نجلاء :
إلى الحديقة!
زينب :
نعم، عسى ...
نجلاء :
أفلا يعقد أبي مجلسه اليوم بهذا القصر؟ إني أخشى أن نلتقي بالأمراء في هذه الساعة من النهار.
زينب :
لا أظن ذلك يا سيدتي، أخبرني كافور أن مولانا الإخشيد ذاهب إلى قصره الجديد على بركة الفيل يتفقد عمارته، ونحن الآن في الأصيل من رمضان، ولا أظن أحدا يأتي بعد هذا ... لا بد لهم من الإفطار. (تذهب عند الباب المطل على النيل، ترى على بعد زورق فيه أميران.)
نجلاء :
لا بأس، هلم، ويلاه! أتخدعني عيني؟ أم من ذا أرى؟ زينب ... أليس هذا الأمير مزاحم ...؟
زينب (تتأمل) : ... كأنه هو يا مولاتي! ولكن كيف يعود ونحن معهم في قتال؟! محال.
نجلاء :
خدعة الحس يا زينب! أكثير على الله أن ألقاه؟!
زينب :
ليس على الله كثير ... يخيل إلي أن بجواره رجلا كالأمير خالد بن واثق ...!
نجلاء :
كيف يكون خالد برفقته، وقد صاحب الأمير ظافرا إلى القتال!
مزاحم (وهو مار بالسفينة يغني) :
يا ربة القصر جودي بالسلام لمن
حياته عندكم لمح فمنتقل
لله أمري وداعي قبل مقتبلي
لمن أحب، وهذا الحل مرتحل
نجلاء :
صوته والله!
مزاحم :
نجلاء آمال نفسي كلها جمعت
في نظرة لي ليس من بعدها أمل
جودي بها وكفي ما عدت أرقبها
فتسأمي، إن هذا اليوم لي أجل
زينب :
كلا يا مولاتي، ألا تسمعين ما يقول؟
نجلاء :
لا أتبين شيئا، ولكن لا بأس باستماع هذا الصوت الجميل ...!
مزاحم :
إن كانت السمر فيما بيننا خطرت
فقد سعت بيننا الأحداق والمقل
ما بي من الحرب إلا نارها اشتعلت
في مهجتي، وحشا في مصر معتقل
قضى لي الدهر أن أقضي بمصر، وهل
مصر سوى جنة الفردوس تقتبل
أتيتكم أترضى بالفداء أبي
عما أسأت، فجازوني بمن قتلوا
تالله ما أرتجي إلا جواركمو
فالموت عندكمو سؤل ومبتهل
إن لم يمت بغرار السيف صبكمو
قضت عليه العيون الذبل النجل
نجلاء :
أقسم بهذا الأسى المتمشي في فؤادي لهذا منى النفس!
زينب :
أدعو الله أن يصدق ظنك يا سيدتي، ولكن أنى له أن يصحب خالدا إن كان هذا خالدا؟! لعمري لهو أحد أتباع الطولونيين، علم برحيل الأجناد وشاقته القطائع فجاءها يندبها، وكلهم متشابهون والوقت عشي. فلا يتبين الناظر شيئا إلا توهما، هلم يا سيدتي، روحي عنك. هلم.
نجلاء :
هلم ... (تخرجان. يدخل الإخشيد وكافور من الباب الأيمن.)
الإخشيد :
إنما هو توفيق من الله يا كافور، ندبني مولاي أمير المؤمنين للولاية على مصر ولم يزودني بنفقة الجند. وقد اشتف المادراني بيت مال المسلمين في مصر. فكيف لي أن أفقأ عين الفتنة وأرد الأمن إلى نصابه؟! أفلم يكن احتفاري ذلك الكنز العظيم وعثوري فيه على ما أغناني عما فعل سلفي من إرهاق القوم بالضرائب فضلا من الله يا كافور ...!
كافور :
بارك الله فيك يا مولاي، لقد كره الله أن تعذب مصر بأكثر مما لاقت في أيام الأمير ذوقا، وابن الحمل، وتكين، وأضرابهم.
الإخشيد :
تلك أيام ما كان أنكرها. لقد شاهدت بعيني كل ما كان يجري بمصر من المنكرات والمظالم، وأنا تحت إمرة تكين في ولايته لرابع مرة. مضى اليوم خمسة عشر عاما، وأنا لشدة تأثري بحوادث ذلك العهد كأنما أنظر إليها عيانا. وليت الحوف من شمال مصر - وما أشد حيف أهل هذا الحوف - قوم غلاظ الأكباد بلا قلوب. أولئك هم نسل الذين كانوا يقطعون الطرق في عهد سلفنا الكريم، عمرو بن العاص، وابن أبي السرح، وابن أبي بكر ومن جاء بعدهم، فلا غرو أن ساروا في أيامنا على درب آبائهم، فما زلت أروض على السيف كبودهم، وأطهر على القنا حوباءهم حتى استدعاني الخليفة المقتدر رحمه الله لمثل هؤلاء القوم من عرب الشام، ولكني كنت أحس أني عائد إلى مصر ثم غير مفارقها، فقد رأى أبي رحمه الله، إذ كان واليا لطرسوس من قبل خمارويه ابن طولون صاحب مصر ليلة التحم مع الروم في أرمينية، كأنما أرسل بنيه إلى مصر بدار أشبه بقصر أجدادنا ملوك فرغانة، وأوصاهم ألا يعودوا إلى بغداد، فكنت أول الذاهبين. وقد قص علي رؤياه ففسرتها لنفسي بما أنا فيه اليوم. وما زلت كذلك حتى وجدتني بمصر كما كان آبائي في فرغانة.
كافور :
تلك نعمة الله خص بها أهل هذا البلد يا مولاي. أيامك أيام رخاء وعدل وتقى، لقد انصرف الناس فيما مضى عن الدرس في الجامع الأكبر خشية ما كان يلحقهم من أذى الجند يومئذ فانصرفوا عن العبادة فيه أيضا، فلما أرسلك الله إليهم عرف الجند قائده فهدأ، فإذا العمران سائر، وإذا الهناءة وارفة، وإذا جامع عمرو غاص بالعلم وأركانه.
الإخشيد :
لقد هدأت ثورة الجند يا كافور ولم تهدأ ثورة العلماء. يحسب المرء نفسه في سوق الصليبة إذا هو دخل الجامع ... هذا يشاحن ذاك على كلمة، وهذا يسب أخاه سبا من أجل رواية، بل لقد رأيت أحدهم تناول خفة فصفع به من كان يجادله.
كافور :
كذلك كان فلاسفة اليونان يا مولاي، وعنهم أخذنا نحن العلماء.
الإخشيد :
ها، ها. إنك تحشر نفسك في زمرتهم، أأنت من العلماء يا كافور؟! خسئوا والله إن كنت منهم، أزعمت إذ جعلتك رفيقا لولدي أنوجور، وعلي أنك كهؤلاء!؟
كافور :
لقد علمني الزيات الذي اشتريتني منه شيئا كثيرا حتى أصبحت ...
الإخشيد :
ما أعود علم الزياتين بالفائدة يا كافور، أنا اشتريتك لأني وجدتك على شيء من الفروسية، فأما وقد عظم بطنك واسترخى، وغلظت شفتاك حتى كأنك الناقة المخلفة الأدماء، فقد أسلمتك ولدي لتكون لهما أضحوكة وملهى.
كافور :
ويحي يا مولاي! لقد حفظت الأمير نصف القرآن، وبصرته بالحديث، وقرأت معه شعر أبي العتاهية ...
الإخشيد :
هذا كاف، بالله لا تعلمه بعد ذلك شيئا، إني لا أثق بمثل علمك، سأكل تربيته بالأمير يانس، حتى يعلمه الرماية.
كافور :
تحسن صنعا يا مولاي، ولكن ألست خير من فوق السهم وضرب بالسيف، فلماذا لا تصحبه في غزواتك يا مولاي ...؟
الإخشيد :
ألا تزال تحسد يانس يا كافور، من في الجند كالأمير يانس؟! بله أني علمت أن سداد الرأي أفعل في بعض الأمور من سداد السيف، فلنعمل به بعد الآن. (يدخل المملوك.)
المملوك :
الأمير يانس بالباب يلتمس الدخول يا مولاي.
الإخشيد :
دعه يدخل، ما وراءه يا ترى؟! لماذا لم يوافني في قاعة المجلس ...؟!
كافور :
لعل وراءه أمرا خطيرا يا مولاي. (يدخل يانس.)
يانس :
السلام على مولاي ملك الملوك.
الإخشيد :
وعليك السلام يا يانس، ماذا جاء بك؟
يانس :
جئت لمولاي بنبأ عن الجند.
الإخشيد :
أوصل البريد؟
يانس :
نعم يا مولاي، إن لواء النصر معقود على جندك حيث ساروا.
الإخشيد :
أدخلوا طبرية؟
يانس :
نعم يا مولاي، ولكن كان ذلك بعد أن أسرت طليعة الجيش وكسرت الميسرة في اللجون.
الإخشيد :
لا بأس، إن الأمور بخواتيمها.
يانس :
صدقت والله يا مولاي، ولكن استشهد الأمير ظافر هو وأبوه فتفتحت لهما أبواب جنة الشهداء.
الإخشيد :
وي أقتل أخي حسين وولده؟!
يانس :
تصبر يا مولاي، اذكر قول الله تعالى:
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .
الإخشيد :
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم لا راد لقضائك ولا تعقيب لكلماتك، فقد جزيتني على قعودي عن الحملة بفقد أعز الناس علي وأقربهم مني.
كافور :
خفف عنك يا مولاي، إنما الأعمار مسطورة، والسنون مقدورة، ولئن بلغ مولاي الحسين وولده منيتهما في القتال فقد كانت كذلك أمنيتهما. الشكر لله واجب على أن قضينا قضاء الأبطال، وكتب لجيشك النصر بعد الانخذال.
يانس :
أجدر بمولاي أن يتهيأ الليلة للرحيل إلى دمشق حتى يعرف الجند مولاه وتزدهر الشام بسيدها. أجل، إن الأمير حانك غرس يد مولاي الكريم وبه كان هذا الفوز المبين، ولكني أخشى حيلة ابن رائق، وصولة ولده مزاحم، ولا يزال في الشام من أتباعهما عديد تستعصي رقابهم إلا على سيفك البتار، فإن لم تخل منهم الديار، وتحل بهم العطب والبوار، كانوا لنا في العين قذى، وفي الحلق شجى، وتحت الأقدام هراسا شائكا.
الإخشيد :
علي بالدرع واللامة ... أسرع.
كافور :
سمعا يا مولاي (يخرج لذلك) .
الإخشيد :
لن أبيت بمصر بعد اليوم حتى أجندل في حسين ألفين، وفي ظافر ألف قاهر ... اذهب إلى الجند ببلاغي، وأعد غرباني وبطسي، ثم سر بها إلى تانس هذه العشية، ثم الفرمة وانتقلوا إلى مياه عكاء، والحقوا بي على أبواب دمشق، أعد خمسا بلقا وعشرة من الأعوجيات. أما وآبائي لآتين بابن رائق أسيرا، أو لأسقطن ورقته من شجرة الأحياء قسرا، لقد نسي أولئك الأشرار ما فعل سيفي بهاماتهم في قنسرين وطبرية ودمشق وشواطئ دجلة والفرات، فات أولئك الأوغاد أن الخلافة إنما يحميها الإخشيد وآل بيته في مصر، عليهم عمادها وبهم بقاؤها، أم ظنوا إذ استبقيت لهم الشام فترة من الزمن أني يئودني حفظها، وهي ملكي الذي استبحته بحد سيفي، وبأمر من لا طاعة بعد الله إلا له، إنما الله كان يمدهم في طغيانهم ليروا عاقبة العدوان، أم زعموا أني كالخليفة يقيمونه ويقعدونه، ويحيونه ويقتلونه كما يشاءون، ويل لهم . ويل لهم ... أسرع، أسرع ... هيئ لي الجواد ...
يانس :
مطاع يا مولاي. (يخرج، ويدخل المملوك.)
المملوك :
جاء الأمير خالد ... وهو يلتمس المثول بين يديك يا مولاي.
الإخشيد :
الأمير خالد ... كيف عاد إلينا؟! دعه يدخل. ستعلم الشام أن سيفي ... وعزمتي بعد لم يفلا ... (يدخل الأمير خالد، ومزاحم.)
الإخشيد :
خالد ماذا عاد بك؟
خالد :
مولاي عدت أشهد وأشفع.
الإخشيد :
كيف ذلك؟
خالد :
إن هذا الذي ترى إلى جانبي غصن من دوحتكم وارفة الظلال.
الإخشيد :
ماذا تعني؟
خالد :
هذا هو الأمير مزاحم ولد الأمير ابن رائق.
الإخشيد :
مزاحم! ولد الأمير ابن رائق! مرحبا بالسفاح.
مزاحم :
مولاي! ما جئت أتطلب رحمة ولا أنا أرجوها، إنما يممت قصرك ...
الإخشيد :
فاتحا!
مزاحم :
ليس مثلي بالغر وإن عظم، ولا بالدعي وإن جل. أجل، إني من قوم إذا طلبوا المجد بلغوه أو هموا إلى النجم نالوه، من الأخاشدة ملوك الناس، ولكني أعرف منزلتي منك، وأمدي من أمدك.
الإخشيد :
فماذا جاء بك ههنا؟
مزاحم :
عرفاني حق أبي وطلبي لرضاه، فقد نازلني الأمير ظافر فنازلته، وقاتلني فقتلته.
الإخشيد :
ويل لقاتل ظافر!
مزاحم :
نعم ما تفعل يا مولاي.
الإخشيد :
ويحك! أتسخر من جزائي؟
خالد :
كلا يا مولاي، إنما يقول حقا، فقد كنت في جوار ظافر إذ أحاط جند هذا الأمير بنا، وكنا قليلين فكدنا نقع أسرى، فلما رأى ظافر هذا الأمير تلثم وطلب إليه النزال. فبصره الأمير بمكانه في الحرب إذ عده أسيرا، فلم يشأ ظافر أن يبصر ما نحن فيه وأبى إلا أن ينازل الأمير، وطلع عليه بسيفه وضاربه حتى سقط اللثام عن وجهه، فكف مزاحم عنه لأنه عرفه، وأبى أن يشرع السيف ثانية معتذرا إليه.
الإخشيد :
معتذرا إليه!
خالد :
نعم يا مولاي، لقد استحلفه بحق القربى أن يغمد سيفه ويكون معه عونا على الصلح فأبى. فعرض عليه الفكاك من الأسر والعودة إلى مصر فأبى، فأبان له من عذره - إذ يكف عن قتاله - أنه يخشى غضب أبيه إن هو مس ظافرا بأذى، أن يقول ابن رائق لا ينبغي لإخشيدي أن يقتل إخشيديا فأبى، فكف عنه، فنعته ظافر شر النعوت، ثم هجم عليه والحسام تقطر منه غضبة طغجية
1
صدها الأمير مزاحم بطعنة قاتلة.
الإخشيد :
لقد أعذرت يا مزاحم، فماذا جاء به إلينا يا خالد؟
خالد :
بعث به أبوه يا مولاي.
الإخشيد :
كيف ذلك؟
خالد :
جاء ابن رائق يتفقد حال الجند، فألفى ولده هذا مكبا على الأمير ظافر يعتذر إليه ويبكي عليه ويستمد العفو منه. وإذ علم ابن رائق أن القتيل ابن أخيك لم يكفه من مزاحم عذره السابق، ولا دليل أسفه اللاحق، بل استنكر منه فعلته، وأنكر عليه نشأته وغضب لظافر غضبته، حتى خفنا أن يهم به فيقتله.
الإخشيد :
يقتل ولده!
خالد :
نعم يا مولاي، ولكنه آذنه بالفراق والإنكار حتى يموت بسيفك كفارة عن ذنبه وفدية لظافر، أو تعفو عنه؟
الإخشيد :
أهو بعث به إلي كفارة عن ذنبه واعتذارا مما أصاب ظافر؟
خالد :
نعم يا مولاي، ودعا الله أن لا يجمعه بابنه لواء.
الإخشيد :
أكان ذلك قبل أن يغلب ابن رائق في طبرية؟
خالد :
كنا بين رفح والعريش يومئذ يا مولاي، ولم نعلم بهذا النصر إلا من فمك الآن.
الإخشيد :
ثم جاء الأمير مزاحم عملا بمشيئة أبيه، وبرا بمروءته ونخوته؟
خالد :
أجل يا مولاي.
مزاحم :
إن حق الآباء من حق الله وطاعتهم من طاعته.
الإخشيد :
بارك الله في سلالة الأخاشدة، أأراد ابن رائق أن يغلبنا في المروءة كما غلبنا في الميسرة، أما والله لن يكون هذا ... يا غلام.
المملوك : ... مولاي.
الإخشيد :
علي بخلعة.
مزاحم :
يا بارك الله في الإخشيد من بطل
يحمي الخلافة والإسلام والحرما
ملك تهاب ملوك الأرض نظرته
ويشتهيها الذي يرجو الندى عمما
في مصر في الشام في بغداد في حلب
في دار دارة تلقى فضله أمما
إن قصر النيل يوما عن عوائده
فاضت يداه على أرجائه كرما
الإخشيد :
قم يا مزاحم، قل لأبيك: إنني وهبت له ملك الشام ووهبته مائة وأربعين ألف دينار كل عام.
مزاحم :
شكرا لمولاي واهب الممالك ومانح الأقطار. (تظهر نجلاء داخلة من حيث خرجت.)
نجلاء : آه ... (يراها الإخشيد.)
الإخشيد :
غضوا من أبصاركم أيها الأمراء. قفي يا نجلاء.
مزاحم :
رباه!
الإخشيد :
أين كنت يا ابنتي حتى تطرقي هذا المكان؟
نجلاء :
معذرة يا أبي، علمت أن ليس في هذا القصر أحد فنزلت إلى الروضة وعدت، ولم ينبهني إلى هذا المجلس أحد. فإذا أنا أراني حيث تجدني.
الإخشيد :
إلى اللقاء يا خالد شكرا لك على نخوتك ... أدني مني يا ابنتي ... تقدمي ... وأنت يا مزاحم، هات يدك. وارفع رأسك وانظر. هذي عروسك منذ الآن.
مزاحم :
عروسي! أفي يقظة أنا أم في منام؟!
الإخشيد :
في يقظة ليس بعدها يقظة، اذهب بها إلى أبيك ... وقل له: «لن يغلب الإخشيد في مكارمه إنسان».
نامعلوم صفحہ