إن الذين وصفوه أنه دنيوي أرادوا كلمة
Secular ، وهي تعني أنه رجل واقعي عملي يقيس الأمور بما يحسه ويختبره، وأنه في خلائقه غير الرجل الصوفي الذي يعيش بين الشهود والغيب ويخوض في أعماق الخفايا والأسرار، وغير الرجل الذي يطيل النظر فيما وراء الطبيعة وما وراء هذه الآفاق المدركة بالحواس والعقول.
وكذلك كان فرنكلين في رأي جميع عارفيه ومترجميه، ولكنهم عند إطلاق هذه الصفة على فرنكلين ينبغي أن يوسعوا آفاق الدنيا حتى تتسع لكل شواغله العقلية والعلمية وترجع بحدودها أفقا وراء أفق حتى تصبح أوسع وأكبر من آفاق كثير من الحالمين المحسوبين من الخياليين. فلم يكن هنالك شيء دنيوي لم يكن دنيويا فيه، ولم يكن حاضرا بين أعماقه وآفاقه، وليس كذلك كل الدنيويين.
وقد كان فرنكلين عصريا في نظرته إلى أحوال زمنه، وهذا وصف صحيح ينطبق عليه كل الانطباق، فلم يكن في عقله بقية من بقايا الزمن السالف تحول بينه وبين النظر المستقيم إلى أحوال عصره، ولم يكن في عقله هوى من الأهواء الغالبة يشط به إلى المستقبل البعيد، فيفهم الوقائع معلقة على شيء في الغيب المجهول، كان ينظر إلى عصره ويراه بغير حجاب من بقايا الماضي ولا أحلام المستقبل، وعلى هذه السنة بعينها يصبح عصريا بيننا لو عاد إلى القرن العشرين، وقد كان هو يتمنى لو يتاح للمرء أن يعاود الدنيا بعد الموت فيراها عصرا بعد عصرا، أو عصورا بعد عصور. ونخاله لو عاد إلى الدنيا كما تمنى لما أدهشه شيء مما وقع فيها خلال هذه الأجيال، إلا أن تكون دهشته للسرعة والكثرة، لا للجوهر واللباب. فما من شيء حدث لم يكن عنده محتمل الحدوث، وما من نقيضة إنسانية كان في ظنه أنها ستزول خلال هذه الأجيال، ولا استثناء في ذلك للحروب العالمية؛ لأنه قدر لاتفاق الدول على اتقائها مائة وخمسين سنة أو مائتين. ولا يخفى أن الاتفاق على الاتقاء غير الاتقاء الناجح، وغير المنع في الواقع. فليس في العصر الحاضر ما لا يكون فرنكلين «عصريا» فيه بعد بضعة أيام، لو عاد.
وكان إنسانيا، أو كان إنسانا من فرعه إلى قدمه، فلا همجية، ولا وحشية، ولا ادعاء للكمال والنزاهة «الملائكية».
إنسان معتدل، لا ملك ولا شيطان، ولا همجية تنبو عنها الإنسانية المهذبة المتحضرة، ولا وحشية تنم على النكسة في خلائق الإنسان.
إنسان بفضائله وإنسان بعيوبه، ولكن الصفة هنا لا تكفي وحدها، ولا تزال كغيرها من الصفات بحاجة إلى استدراك. فإذا كان الرجل إنسانا بفضائله وعيوبه، فليس معنى ذلك أنه إنسان كسائر الناس أصحاب الفضائل والعيوب ؛ لأنه كان يعمل مع الفطرة في تكوين فضائله وتثبيتها؛ وكان يتيقظ لعيوبه ويجاهد ما استطاع في إصلاحها، وكانت الأعذار إلى جانب عيوبه أرجح وأقوى من دواعي اللوم والزلل، ويصدق هذا على أكبر السقطات، كما يصدق على الهفوات الصغار.
فمن سقطاته المعيبة تلك العلاقات المريبة بينه وبين بعض النساء في شبابه، ومنهم «دبورا» التي تزوج بها بعد معاشرته لها بغير عقد ديني أو عرفي، وبغير تسجيل معترف به على نحو من الأنحاء.
وقد لقي جزاءه على هذه السقطات؛ لأن ابنه من إحداها - وليام - خذله وخذل قومه وانقلب على قضية الاستقلال ولاذ بالبلاد الإنجليزية بعيدا من أبويه وذويه، وعاشت «دبورا» مهملة من جانب المجتمع بعد نباهة فرنكلين وارتفاع شأنه، فكانت كل دعوة إلى محفل من محافل الدولة أو الأمة تذكره بتلك السقطة وتنغص عليه حياته وحياة زوجته.
ولا يهم المؤرخ هنا هذا التفكير الذي لا يد له فيه، ولكنه يهمه أن يثبت ما له وما عليه في هذه السقطات. فقد كانت هذه السقطات كأمثالها من سقطات الناس في الضعف والغواية، ولكنها لم تكن كسقطات الناس في المعاذير وجهود الإصلاح، ولم يكن كل ذي سقطة قادرا على أن يتشفع أمام عدالة الضمير بأعذار كأعذار فرنكلين، وجهود كجهوده في إصلاح الخطأ والصبر على تبعاته مختارا بغير إكراه.
نامعلوم صفحہ