ووقع في يدي بعد ذلك كتيب من سلسلة كبيرة تلخص التراجم والمؤلفات لأعلام النوابغ في الثقافة الغربية، فبدأت به قراءة تلك السلسلة؛ لأنه مكتوب عن صاحبنا القديم فرنكلين.
ومن تحكم الذاكرة أنني أذكر حتى اليوم منظرين من مناظر السيرة التي لخصها ذلك الكتيب الصغير.
أحدهما منظر الطفل الجائع فرنكلين يقضم رغيف الخبز وتترصد له طفلة في طريقه لا تزال تداعبه وتلح في مداعبته وتوقع في روعه أنها تريد أن تخطف الرغيف من يديه، حتى يوشك أن يبكي من الغيظ الذي لم يكن يكرهه كل الكراهية على ما يظهر!
والمنظر الآخر منظر الحوار بين فرنكلين ورجل من رجال الدين تلقى من يديه عارفة مشكورة، فإذا هو يشكره بالنيابة عن الله، كأنما هو غريب عن الموضوع لا شأن له بين المحسن والمحسن إليه، ويأبى فرنكلين أن يفوت على الرجل روغانه هذا من واجب الشكر، فيقول له: إنما أعطيتك أنت يا أبتاه!
وأقول: إن بقاء هذين المنظرين دون غيرهما من مناظر تلك السيرة في ذلك الكتيب الصغير، إنما كان من تحكم الذاكرة فيما تأخذ وفيما تدع؛ لأنني حين توسعت في قراءة فرنكلين، وفي القراءة عنه بعد ذلك، وجدت في السيرة الحافلة مناظر لا تحصى مما يصح أن يعلق بالذاكرة ويغطي على منظر الرغيف المهدد ومنظر القس الرائغ من الشكران، ولا أحسب - على هذا - أن أظلم الذاكرة كل الظلم، فلعل هذين المنظرين يجمعان من فرنكلين في نفس القارئ الشاب، ما لم يجتمع من منظرين غيرهما في الكتيب الصغير.
وقرأت بعد ذلك كثيرا من فرنكلين وعن فرنكلين، ولم أنس قط أنه كاد يوجه حياته وجهة أخرى في يوم من الأيام.
ثم دخلت السجن ودعوت بكتاب أتعلم منه اللغة الفرنسية بغير معلم، واخترت القراءة في الجزء المخصص للمطالعة قبل الجزء المخصص للأجرومية، فلم أقلب من الكتاب صفحة بعد صفحة حتى التقيت بصاحبنا القديم فرنكلين في الصفحة الرابعة والسبعين من الكتاب.
1
والقصة قصة اللقاء الأول بين فرنكلين والعالم الفلكي الفرنسي الكبير دي بايلي
De Bailly ، وهي أعجب ما قرأت من نوادر هذا الرجل العجيب. «فرنكلين مندوب المستعمرات الأمريكية الثائرة على الوطن الأم، وفد إلى باريس سنة 1777، ورأى الفلكي دي بايلي من واجبه أن يزور الأمريكي النابه، فاستقبله فرنكلين بترحاب غاية في المودة، وبادله بضع كلمات من التحيات التي تتبادل في مثل هذا المقام، وجلس بايلي على مقربة من الفيلسوف الأمريكي، وترقب بكل عناية ما يفوه به من الأسئلة، وانقضى نصف ساعة وفرانكلين لا يفتح فمه، وأخرج بايلي علبة السعوط وقدمها إلى جاره دون أن ينبس بكلمة ، فأشار فرنكلين بيده إشارة معناها أنه لا يتعاطاه، واستمرت هذه المساجلة الصامتة ساعة كاملة، فنهض دي بايلي واستعد للانصراف، وبدا على فرنكلين كأنه فرح بلقاء فرنسي يستطيع أن يلوذ بالصمت ويمسك لسانه، فأخذ بيده وشدها شدة حميمة وهو يقول في حماسة بينة: حسن جدا يا سيد بايلي حسن جدا. وتوثقت بينهما المودة بعد ذلك، فأصبحا من خيرة الأصدقاء.»
نامعلوم صفحہ