وهذه رسالة من رسائله إلى السيدة بريون ضمنها حكاية من الحكايات «المثلية» أو الحكايات التي تستوحى من مغزاها بعض المعاني الأخلاقية أو الاجتماعية، وكانت شائعة في ذلك العصر يؤلفها الكتاب وغير الكتاب لتزجية الفراغ بما يشبه امتحان الذهن بالأحاجي السهلة والألغاز الخفيفة، وتتلى هذه الرسائل عادة في السهرات والاجتماعات كأنها مادة من مواد السمر والفكاهة، وقد كتب فرنكلين هذه الرسالة إلى صديقته جوابا على رسالة منها تصف فيها نعيم الفردوس كما تتخيله، فقال بعد أسطر في التمهيد والاعتذار من تأخير الجواب:
أعجبني وصفك لجنة الفردوس وبرنامجك الذي درسته للمعيشة فيها. وأقرك كثيرا على ما ختمت به الوصف حيث تقولين: إننا - في الوقت نفسه - ينبغي أن نستخلص في هذه الدنيا كل ما نستطيع من خير ونعمة. وأرى أننا جميعا قادرون على أن نستخلص منها فوق ما ننال من خيرها ونعاني أقل مما نعانيه من شرها لو جعلنا بالنا إلى شيء واحد؛ وهو ألا نشتري الصفافير بأكثر من أثمانها.
وتسألينني ماذا أعني؟ وأنت تحبين الحكايات، فاسمحي لي أن أقص عليك إحدى حكاياتي حين كنت في السابعة من عمري، فقد حدث في بعض أيام الأعياد أن امتلأ جيبي بأنصاف البنسات من هبات أصدقائي، فذهبت توا إلى دكان اللعب واشتريت منه صفارة سمعت بعض الأطفال في الطريق يصفر بها، فأعجبتني وبذلت في ثمنها كل ما احتواه جيبي.
ورجعت إلى المنزل فطفقت بين جوانبه نافخا في صفارتي راضيا عن نفسي مزعجا كل من فيه من إخواني وأخواتي وأبناء عمي، فلما سألوني عن هذه الصفقة وأخبرتهم بها قيل لي أنني بذلت في الصفارة أربعة أضعاف ثمنها، وذكروني بالطيبات التي كنت قمينا أن أنعم بها لو لم أبذل فيها فوق ما تستحقه، وضحكوا من حماقتي وغفلتي وأكثروا من الضحك حتى بكيت غما وأسفا، وساءني من التفكير في الخسارة أضعاف ما سرني من الصفارة.
ونفعتني العبرة فلم تبرح ذاكرتي بعد ذلك، ولم أزل كلما أغريت بشراء شيء لا حاجة بي إليه أعود فأقول لنفسي: لا تبذل في الصفارة فوق ما تساويه، وادخرت نقودي.
ثم كبرت واختبرت الدنيا وراقبت أحوال الناس، فلقيت الكثيرين ممن يشترون الصفارة بأضعاف ثمنها، وأصبحت كلما رأيت إنسانا يطمع في الحظوة لدى البلاط، فيبدد وقته في التردد على الحشم والحاشية، ويفقد راحته وحريته وفضائل نفسه، وربما فقد أصدقاءه في هذا السبيل - أعود فأقول: هذا الإنسان يغالي بقيمة الصفارة، ويبذل فيها أضعاف ما تساويه.
وكلما رأيت إنسانا مشغوفا بالشهرة يزج بنفسه في مشاكل السياسة، ويغفل عن مصالحه، فيجر على نفسه الخراب بهذه الغفلة، أعود كذلك فأقول: وهذا إنسان آخر يشتري الصفارة بأضعاف ثمنها.
وكلما عرفت بخيلا يحرم نفسه أطايب العيش، وغبطة الإحسان إلى الناس، ومنزلة التقدير والرعاية بين قومه، ومتعة المودة والصداقة بينه وبين خاصته، أعود فأقول لنفسي: يا لك من مسكين! إنك أيضا تشتري الصفارة بأضعاف ما تساويه.
وكلما التقيت بإنسان من طلاب الشهوات والمسرات يذهل عن تهذيب نفسه وعقله، أو عن تدبير ماله من أجل متعة جسدية تستغويه وتجور على جسده، أناديه في ضميري: أيها المخدوع، إنك تجني الألم من حيث تنشد اللذة، وتعطي الصفارة ثمنا لا تستحقه.
وقد أرى إنسانا مفتونا بالمظهر والزينة، مأخوذا بغواية البيت الأنيق، والأثاث الأنيق، والعتاد الأنيق مما لا يطيقه ولا تحتمله ثروته، وقد يوقعه في الدين، ويسوقه إلى السجن، فاقول: وا أسفا؛ إنها الصفارة يشتريها أيضا بهذا الثمن الثقيل.
نامعلوم صفحہ