بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
اصناف
والأعشاش التي يبنيها أفراد المجموعة نفسها من القردة دائما ما تبنى إلى حد ما متجاورة في موقع واحد، يعرف باسم «موقع الأعشاش». توحي نقاط التشابه هذه بأن القردة العليا تبني أعشاشها فطريا للنوم، تماما كما تبني الطيور فطريا الأعشاش التي تضع فيها بيضها وترعى فيها صغارها ، لكن الأمور أعقد من ذلك.
فقد تبين أنه ليس هناك سوى القردة التي تولد وتنشأ في البرية - حيث شاهدت النوع الذي تنتمي إليه يبني أعشاشا كل ليلة، وحيث نامت مع أمهاتها طوال السنوات الأولى من حياتها - هي التي تستطيع على ما يبدو أن تبني أعشاشا لأنفسها حين تؤسر؛ فقردة الشمبانزي التي تولد وتنشأ في الأسر لا تبني أعشاشا، حتى إن وضعت في أقفاص مع قردة شمبانزي من المولودة في البرية التي تبني أعشاشها كل يوم. من ثم رغم النزعة الفطرية لدى القردة لبناء الأعشاش، يبدو من الضروري أن تطلع هذه الكائنات على تجارب تعليمية معينة في مرحلة مبكرة من حياتها حتى تتجلى هذه النزعة في سلوكها حين تصير بالغة. بإيجاز، ينطوي بناء الأعشاش بين القردة العليا على عناصر أساسية من كل من التعليم والوراثة.
بالإضافة إلى ذلك، يظهر اثنان من أنواع القردة العليا الثلاثة سلوكيات تبدو بمثابة مقدمات لاستخدام أشباه البشر الملابس؛ فتستخدم قردة الشمبانزي أوراقا كبيرة كأنها «قبعات» لتقي رءوسها أثناء انهمار الأمطار المدارية الغزيرة، وكثيرا ما تغطي قردة إنسان الغاب أجسادها بأوراق وفروع الأشجار ليلا. في بعض الحالات تحمل الفروع السائبة أو توازنها فوق رءوسها لتشكل ما يشبه سقفا بدائيا. في الواقع، غالبا ما تغطي قردة إنسان الغاب الواقعة في الأسر رءوسها بأكياس فارغة، بل وقد تغطي أجسادها بالكامل بالقش عند الاستعداد للنوم.
بعد أن أعطى جروفز وساباتير باي حججهما بشأن تشارك القردة العليا توارث بناء الأعشاش أتبعاها بشيء آخر؛ فقد أشارا إلى أن أسلاف أشباه البشر وقردة الشمبانزي تباعد بعضهما عن بعض منذ نحو سبعة ملايين عام، في وقت متأخر كثيرا عن انفصال سلف أشباه البشر عن إنسان الغاب، الذي كان منذ خمسة عشر مليون عام تقريبا؛ ولذلك فهما يجادلان أنه من المحتمل أن تكون النزعة الجينية لبناء أماكن للعيش الجلية جدا بين كل القردة العليا موجودة أيضا في الحمض النووي لأشباه البشر، بما يشمل من عاش منهم في العصور الحديثة وفي عصور ما قبل التاريخ.
كتب الاثنان يقولان: «لا بد أن نكون واضحين تماما بشأن سبب شعورنا بأن لدينا مبررا للبحث عن أصل مشترك لأنماط بناء الأعشاش/بناء المخيمات بين البشر والقردة العليا ... فحين تؤدي أربعة أنواع - قردة إنسان الغاب والشمبانزي والغوريلا والبشر - نشاطا معينا تشابهت مكوناته الحركية ونتائجه النهائية، فإن مبدأ الاقتصاد في التفسير يشير إلى أن آخر جد مشترك بينهم كان يفعل الشيء نفسه، وأن نسله ظلوا يفعلونه منذ ذلك الوقت ... فبما أن إنسان الغاب أقل قرابة للغوريلا والشمبانزي من قرابة البشر إليهما، كان هذا السلوك ليصير موجودا في سلالة الإنسان البدائي كذلك.»
6
ثم يمضي المؤلفان فيعددان نقاط التشابه بين أماكن المعيشة التي يقيمها القردة وتلك التي يقيمها صيادو وجامعو ثمار العصر الحديث.
كل عش من أعشاش القردة يستخدمه فرد واحد، وهو دائري أو بيضاوي الشكل، ويتراوح قطره بين قدمين إلى ثلاث أقدام. أما مسكن الإنسان فتستخدمه أسرة مصغرة واحدة، وذو شكل دائري أو بيضاوي، ويتراوح قطره بين ست وثماني أقدام (المساكن ذات الجوانب المربعة لم يبنها الصيادون وجامعو الثمار؛ فلم تظهر هذه المساكن حتى بدأ البشر الحديث تشريحيا بناء منازل دائمة لأنفسهم حين تبنوا تقنية الزراعة منذ أقل من عشرة آلاف عام). في العادة يشتمل كل من مواقع أعشاش القردة ومواقع مخيمات البشر على عدد يتراوح بين عشرين وثمانين فردا، وتنشأ كلتاهما داخل منطقة دائرية أو بيضاوية يتراوح قطرها بين ثلاثين وستين قدما. وداخل كل من مواقع أعشاش القردة ومواقع مخيمات أشباه البشر، دائما ما يفصل بين كل عش وآخر أو مسكن وآخر مسافة تبلغ نحو اثنتي عشرة قدما.
أوجه التشابه بين أعشاش القردة العليا ومساكن أشباه البشر - وحقيقة أصلهما المشترك - تشير إلى أربعة استنتاجات محتملة. أولا: قد يكون في الحمض النووي لأشباه البشر مكون جيني هو ما يمنح كل أشباه البشر الاستعداد لبناء المسكن. ثانيا: من المحتمل أن هذا الاستعداد الجيني كان موروثا من قردة عصور ما قبل التاريخ التي كانت سالفة لكل من أشباه البشر والقردة العليا. ثالثا: إذا كان ثمة عنصر أساسي من التعلم في قدرة القردة على بناء الأعشاش فلا عجب أن يكون هناك عنصر تعلم أساسي شبيه أيضا في قدرة أشباه البشر على بناء المسكن. ورابعا: ربما كان نشاط إنشاء أماكن السكنى سمة ثابتة في سلوك أشباه البشر، وربما كانت قد اكتملت بالفعل حين ظهرت القدرة على السير على قدمين لأول مرة لدى أوائل أشباه البشر منذ فترة تتراوح بين خمسة وستة ملايين سنة.
لكن يصادفنا هنا مرة أخرى تحفظ علم الحفريات، الذي يميل إلى الافتراض - مع الافتقار إلى أدلة تثبت العكس - أن أفضل طريقة لرؤية عدم وجود دليل اعتباره دليلا على عدم الوجود؛ فرغم مهارات القردة العليا الموثقة جيدا في بناء الأعشاش - واستنتاج اختصاصيي علم القردة العليا أن هذا السلوك شائع بين هذه الأنواع - ما يزال الكثيرون من اختصاصيي علم الحفريات يجادلون بأن أشباه البشر لم يبنوا قط مساكنهم حتى ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في أوروبا منذ أقل من خمسين ألف عام.
نامعلوم صفحہ