بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
اصناف
حين بدأ البشر الناشئون استخدام النار، صاروا - وظلوا - الرئيسيات العارية الوحيدة في العالم.
النوم على مقربة من نار هو واحد من أكثر السلوكيات البشرية شيوعا؛ فقد وجد هذا السلوك بين كل مجتمعات الصيد وجمع الثمار التي درسها اختصاصيو علم الإنسان. وكان من السلوكيات الشائعة بالأخص بين الصيادين وجامعي الثمار أن يناموا على مقربة من نار المخيم التي كانت تظل مشتعلة طوال الليل. ومن الغني عن البيان أن هذا السلوك كان ليستحيل تماما لو كانت أجسادنا ما زالت مغطاة بطبقة سميكة من الفراء؛ لأننا كنا سنشعل النار في أنفسنا فعليا لاقتراب ألسنة نار المخيم منا.
لم تكن أي من طرق تفاعل البشر مع النار - حمل شعلات متوهجة من مكان لآخر، والنفخ في الجمرات الملتهبة لإذكاء النار، وشي الطعام من اللحم والخضروات، وإذكاء نار المخيم بحطب جديد، ومد الذراعين والساقين فوق النار لتدفئتهما - لم يكن أي من هذا ليصير ممكنا لو كنا احتفظنا بالفراء الطويل الشعر الذي يغطي أجساد كل أنواع الرئيسيات الأخرى. حاول أن تتخيل التعامل مع نار مخيم ملتهبة أثناء ارتداء معطف ثقيل طويل الكمين من الفراء ، وستدرك كم سيكون من الصعب التعامل مع النار بأمان مع فراء ثقيل يغطي ذراعيك وساقيك وجذعك. لهذا السبب دون شك من الممكن أن يتعلم الشمبانزي تدخين السجائر أو السيجار عرضيا - بل وفي بعض الحالات استخدام قداحة السجائر - لكنه على عكس البشر لن يجلس بقرب نار مشتعلة.
حين بدأ البشر الناشئون استخدام النار التماسا للضوء والدفء والحماية، كان أولئك الأفراد والجماعات الذين يغطي أجسادهم أقل كمية من الشعر هم الأنجح في التعامل مع النار، ولا شك أن هذه المرحلة من مراحل التطور البشري هي التي صار فيها أسلافنا عراة، لكن فقدان ملايين بصيلات الشعر التي ظلت تغطي جميع أنحاء أجساد الرئيسيات طوال 55 مليون عام لا بد أنه تطلب عددا من التغييرات الجينية المهمة. في الواقع، حدثت مثل هذه التغيرات حين تبنى أسلاف الحيتان والدرافيل الحياة المائية وتطورت متخذة أشكال الأسماك، لكن البشر الناشئين حققوا النتيجة نفسها بصفة أساسية محتفظين بكل بصيلات شعرهم تقريبا مع تقليل إنتاج هذه البصيلات. ونتيجة لهذا، يكتسي البشر بغطاء قصير ورقيق جدا من شعر زغبي يكاد لا يرى، ورغم ذلك فإنه لا يزال يغطي جميع أنحاء الجسد البشري.
16
كان لفقدان غطاء الفراء الكثيف مزايا أخرى، ربما أهمها أنه جعل أشباه البشر قادرين على تبريد أجسادهم بطريقة أكثر كفاءة بالتعرق. في واقع الأمر، يعرق البشر على نحو أسرع وأغزر من أي نوع آخر من الرئيسيات. قدرة أشباه البشر على التعرق بغزارة جعلت من الممكن لهم أن يسافروا مسافات طويلة، عند الانتقال بالمخيم أو مطاردة أحد الحيوانات، دون أن تصيبهم حمى. ففي حين يمتلك البشر نحو ألف بصيلة شعر في البوصة المربعة - تقريبا العدد نفسه الذي يمتلكه الشمبانزي - يوجد بجسد الإنسان، في المتوسط، 650 غدة عرقية في البوصة المربعة. هذا يعادل عشرة أضعاف عدد الغدد العرقية المعهود في الأنواع غير البشرية من الرئيسيات. وأخيرا، ساعد فقدان الفراء الكثيف أشباه البشر على السيطرة على مجموعات الحشرات الطفيلية التي ربما تكون قد تضاعفت بضراوة في مضاجع النوع الذي كان يقضي الليلة تلو الأخرى نائما في المكان نفسه.
الخروج من أفريقيا
في عام 1887م، استقال طبيب هولندي شاب يدعى يوجين ديبوا من منصبه المبتغى محاضرا للتشريح في جامعة أمستردام، وأصاب زملاءه الذين هالهم الأمر بصدمة بأن انضم إلى الجيش الهولندي، والتمس أن يرسل إلى جزر الهند الشرقية الهولندية، حيث تمنى أن يعثر على الحلقة الأسطورية المفقودة بين البشر والقردة. كان ديبوا مفتونا بنظريات تطور الإنسان التي كانت مثار حديث المجتمع العلمي الأوروبي في تلك الأيام، وكان متحمسا للغاية عندما استخرج هيكلان عظميان شبه كاملين لإنسان النياندرتال في بلجيكا في العام السابق، مع أدوات حجرية متعددة. وهكذا غادر ديبوا أوروبا مصطحبا زوجته وطفله، ليصل إلى جزيرة سومطرة في ديسمبر من عام 1887م.
مع اثنين من المهندسين وعشرات العمال الذين وفرتهم له الحكومة الهولندية بدأ ديبوا التنقيب في عدد من المواقع في سومطرة، لكن كانت البقايا التي وجدها حديثة النشأة نسبيا. علاوة على ذلك، كانت الأوضاع في سومطرة أقل ما توصف به أنها صعبة؛ فالعديد من العمال أصابهم المرض، والآخرون فروا. وأحد المهندسين تبين أنه عديم الفائدة أما الآخر فمات. لكن ديبوا واصل العمل. وفي عام 1890م بعد قضاء ثلاثة أعوام في سومطرة دون جدوى، أقنع السلطات بنقله إلى جزيرة جاوة، حيث تمنى أن يكون حظه أوفر.
وفي جاوة حالف ديبوا الحظ؛ ففي أكتوبر عام 1891م استخرج ديبوا وعماله غطاء جمجمة كامل من رواسب يبلغ عمرها 700 ألف عام على الأقل، كان قد استخرج منها في العام السابق جزء من فك وضرس. وفي أغسطس من العام التالي، عثر على عظمة فخذ لبشري منتصب القامة على بعد عدة ياردات. كان ديبوا مقتنعا أن هذه كانت بقايا «الحلقة المفقودة»، وأسمى البشري الذي اكتشفه بيثكانثروبوس إريكتوس، «الرجل القرد المنتصب» (انظر شكل
نامعلوم صفحہ