بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
اصناف
شكل 1-4: أدى اكتشاف أن قردة الشمبانزي تصنع الأدوات وتستخدمها إلى ثورة في التفكير العلمي حول أصول استخدام الأدوات. يستخدم هذا الشمبانزي عودا لاصطياد النمل الأبيض من داخل عشه. (اللقطة من تصوير مايك ريتشي. مصرح بالنشر بموجب رخصة المشاع الإبداعي غير الموطن الإصدار 3,0 التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)
قبل بحث جودول كان الاعتقاد السائد المقبول لدى علماء السلوك أن البشر هم النوع الوحيد القادر على التأني في صناعة أدوات من مواد طبيعية واستخدامها في أغراض خاصة. في الواقع كان هذا أحد المعايير الرئيسية المستخدمة في تمييز البشر عن كل الحيوانات الأخرى، لكن بحلول عام 1973 كانت جين جودول قد دونت ثلاثة عشر نوعا مختلفا من الأدوات التي تصنعها وتستخدمها قردة الشمبانزي التي كانت تدرسها، ومنذ ذلك الوقت تعرف اختصاصيو علم الرئيسيات الذين يدرسون قردة الشمبانزي في العراء على أكثر من خمسة وعشرين نوعا مختلفا من الأدوات، صنع كل منها من مواد طبيعية ويستخدم كل منها في غرض محدد.
وبجانب المسابير التي يصنعونها لاصطياد النمل الأبيض، ينتقي قردة الشمبانزي الأغصان والعصي الصغيرة وينظفونها ويجهزونها من أجل استخدامات متنوعة، منها جمع العسل، واقتلاع الأجزاء القابلة للأكل من الجوز من قشورها، واستخراج النخاع من عظام فرائسها. وتستخدم إحدى المجموعات مطرقة وسندان بدائيين مصنوعين من الأحجار أو الخشب من أجل فتح جوز الكولا، وتستخدم يد هاون ساحقة مصنوعة من جذع نخلة من أجل تعميق الثقوب في الأشجار. وتلتقط أوراق الأشجار الكبيرة المسطحة لتستخدم أبسطة للجلوس على الأرض الرطبة و«قبعات» تستخدم مرة واحدة عند هطول الأمطار، بينما تمضغ الأوراق الصغيرة حتى تصير كتلة رطبة تستخدمها قردة الشمبانزي كإسفنج لجمع المياه وتنظيف الجروح.
تتضمن تقنيات الشمبانزي أيضا أسلحة مصنوعة من مواد طبيعية في بيئتها؛ فعند ضلوع ذكور الشمبانزي في عروضها التهديدية الدورية، تحطم الفروع وتلوح بها في هياج، بينما تندفع صارخة في أرجاء الغابة. وأثناء هجومها على الآخرين تظل ذكور الشمبانزي تجمع الفاكهة والعصي وحتى الأحجار وتلقي بها على خصومها، وقد رصد أفراد مجموعة واحدة على الأقل من الشمبانزي في غرب أفريقيا وهم يصنعون «رماحا» خشبية؛ فقد كانوا يختارون فرعا مناسبا طوله نحو ثلاث أو أربع أقدام، وينزعون عنه الأوراق والفريعات، ويشحذون أحد طرفيه بأسنانهم، ويستخدمون الرمح في طعن حيوانات الجلاجو وقتلها، وهي نوع صغير بدائي من الرئيسيات تنام دائما في تجاويف الأشجار.
منحت التقنية للبشر نوعا جديدا من السلطة على الطبيعة، لكن لم تبدأ هذه السلطة مع الثورة الصناعية، أو نشأة الحضارات، أو تطور الزراعة، أو حتى اختراع أدوات من الأحجار؛ إذ يشير ثراء تقنيات قردة الشمبانزي وتنوعها إلى أن استخدام البشر للتقنية بدأ مع قردة ما قبل التاريخ التي كانت أسلافا لكل من البشر وقردة الشمبانزي.
ظهرت التقنية باعتبارها قوة في تطور الإنسان منذ ملايين السنين، مع ابتكار أول الأسلحة البدائية التي لم يبتكرها البشر، وإنما ابتكرتها قردة ما قبل التاريخ التي باستخدامها الرماح الخشبية وعصي الحفر وضعت نفسها على أول طريق التطور الذي أنتج البشر في النهاية. وسوف نستعرض الدليل على هذا الافتراض والأساس المنطقي له بالتفصيل في الفصل التالي.
عادات الرئيسيات وتقاليدها، لبنات بناء الثقافة
في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين بدأ مجموعة من اختصاصيي علم الرئيسيات من جامعة كيوتو دراسة طويلة الأجل لمستعمرة من مائة قرد ماكاك ياباني بري كانت تعيش في كوشيما، الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالة الساحل الجنوبي لليابان. وحتى تتأتى لهم مراقبة السلوك الاجتماعي للقردة على نحو أفضل، كان العلماء يلقون كميات كبيرة من البطاطا الحلوة على الشاطئ كلما زاروا الجزيرة الصغيرة، فكانت قردة الماكاك تخرج من الغابة وتجمع البطاطا الحلوة، لكن قبل البدء في تناولها كانت تعكف على إزالة الرمل عنها بأيديها، كما هو معهود في هذا النوع.
لكن ذات يوم اكتشفت أنثى صغيرة تدعى إيمو، لا يتجاوز عمرها ثمانية عشر شهرا، أن غسيل البطاطا الحلوة في جدول قريب كان طريقة أسرع وأسهل كثيرا لتنظيفها، وسريعا بدأت أم إيمو تغسل البطاطا الخاصة بها بدلا من تمشيطها، وخلال السنوات القليلة التالية انتشر غسيل البطاطا بين رفاق إيمو في اللعب وأمهاتهم، حتى أصبحت المستعمرة بأسرها في عام 1958 تغسل البطاطا الحلوة إما في الجدول أو المحيط، وظل هذا السلوك المستجد تقليدا في مستعمرة كوشيما، وظلت الأجيال تتوارثه منذ ذلك الوقت.
في وقت لاحق بدأ العلماء يتركون قمحا على الشاطئ الرملي، فيصير القمح والرمل ممتزجين معا. اكتشفت إيمو أنها تستطيع فصلهما بإلقاء حفنة من القمح المختلط بالرمل في البحر، حيث يسقط الرمل تاركا القمح ليطفو على سطح الماء بحيث يمكن اغترافه. بدأ أفراد آخرون في المستوطنة استخدام هذه الطريقة، وانضم غسيل القمح إلى غسيل البطاطا ليصير عادة في هذه المستوطنة وحدها. منذ ذلك الوقت لاحظ علماء الرئيسيات عادات أخرى مماثلة في تناول الطعام في المستعمرات الفردية لقردة الماكاك في جميع أنحاء اليابان، من بينها غسل التفاح، وإخراج الفول السوداني المدفون من الرمل، وفك غلاف حلوى الكراميل، بل وحتى تناول السمك النافق.
نامعلوم صفحہ