133

بلا قيود

بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية

اصناف

وقع الاندماج بين القبائل على نطاق أكبر في أواخر العصر الحجري الحديث، حين اخترع سكان القرى المزارعون في تلك الفترة قوارب نهرية ومركبات ذات عجلات وأنظمة كتابة، واندمجوا في الحضارات المدنية التي ضمت عدة قبائل وكونت مجتمعات بلغ عدد سكانها مئات الآلاف. وأخيرا، حين ابتكرت الثورة الصناعية تقنيات أكثر قوة وكفاءة للسفر والتجارة والاتصال، فإن آلاف الدول المدن التي ظلت باقية منذ فجر الحضارة التحمت خلال أقل من قرنين في أقل من مائتي دولة قومية، تضم أغلبها الآن سكانا يقدر عددهم بالملايين.

والأسباب وراء حركات الاندماج هذه ليست بلغز؛ فحين يجد الناس أن التفاعل عبر الحيز الجغرافي أسهل يصير تصور الشعوب الأخرى على أنها تنتمي إلى عالمهم المألوف أيسر، وكلما كان تواصل بعضهم مع بعض سهلا زاد احتمال أن يسعوا إلى العثور على لغة مشتركة. وكلما زاد سفر بعضهم إلى مناطق بعض واستقرار بعضهم في أراضي بعض، زاد احتمال أن يتبنى بعضهم عادات وتقاليد بعض. ومع الوقت، يزيد احتمال أن يتناولوا نفس الطعام ويرتدوا نفس الملابس، بل ويحتفلوا بنفس الأعياد. ويصيرون أكثر استعدادا للتناسل وإنجاب أطفال ينشئون في ظل أكثر من مجموعة واحدة من العادات والقيم والسلوكيات.

تميل كل هذه الأشياء إلى تقليل الاختلافات الثقافية بين الجماعات التي كانت فيما مضى متباينة ومتباعدة. وفي النهاية يبدأ الناس الذين كانوا ينتمون من قبل إلى ثقافات مختلفة اختلافا بينا في الانخراط في ثقافة جديدة وأوسع نطاقا، لا سيما إن كانت هذه الثقافة الجديدة تقدم مجموعة من القيم والمؤسسات والتقاليد القادرة على التوفيق بين ثقافات الحقبات الماضية رغم الاختلافات بينها. هكذا يمكن التنبؤ بنتيجة واحدة بثقة من بين النتائج المترتبة على التقدم الهائل الذي أحدثته تقنية المعلومات: أن الجماعات البشرية سوف تندمج في مجموعات أكبر من التي وجدت من قبل على الإطلاق.

إلا أنه هناك دائما في المجتمع البشري قوى جبارة تقاوم التغيير. وفي نفس الوقت الذي تلتحم فيه عدة مناطق مأهولة بالبشر تمر مناطق أخرى بالعملية العكسية، وتنقسم إلى الأجزاء المنفصلة التي كانت مجتمعة في كيان واحد قبل ذلك؛ فالإمبراطوريات السابقة تنقسم إلى أجزاء وتصبح أمما مستقلة. ومن الأمثلة الحية على عملية الانقسام السياسي في الزمن المعاصر انحلال الإمبراطورية الإسبانية، والإمبراطورية البريطانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والإمبراطورية العثمانية، والاتحاد السوفييتي. وقد تفقد الدول القومية كذلك وحدتها السياسية وتنقسم إلى أجزاء كما حدث في تسعينيات القرن العشرين، حين تفتتت جمهورية يوغوسلافيا السابقة إلى دول مستقلة، هي صربيا وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك.

أخيرا، بينما تموت لغات الثقافات المندثرة فعلى الأقل عادت الحياة إلى بعض اللغات «الميتة» وصارت لغات حية مرة أخرى؛ فاللغة العبرية التي ظلت قرونا مقتصرة على الطقوس الدينية صارت لغة حديثة يتحدث بها ملايين المواطنين الإسرائيليين بصفة يومية. ويجب ألا ننسى أنه رغم اندماج العالم سياسيا في أقل من مائتي دولة قومية، فما زال هناك في واقع الأمر أكثر من سبعة آلاف لغة يتحدث بها العالم الآن، وتمثل كل واحدة من تلك اللغات جماعة عرقية مستقلة، ذات عادات وتقاليد متمايزة وهوية منفصلة ما زالت باقية، إلا أنه حسب تقديرات خبراء اللغة، تعاني أكثر من ثلث اللغات الموجودة حاليا تدهورا أو في طريقها للاندثار.

11

فحركة الاندماج الثقافي تجري بوتيرة أسرع عن أي وقت مضى في تاريخ البشر.

خلاصة ما سبق أنه كما أظهر تاريخ تحولات الماضي بوضوح شديد، فإن كل تقدم مهم في تقنيات التفاعل أفرز في النهاية شكلا من المجتمع الإنساني أوسع نطاقا وأكثر شمولية. والتطورات التي حدثت في تقنيات التفاعل التي كان مصدرها تطور التقنيات الرقمية هي الأكثر زخما على مدار التاريخ الإنساني بأكمله. من الأرجح أن تستمر هذه العملية الأساسية حتى تبلغ نهايتها: حركة اندماج نهائي؛ إذ تتحرك البشرية على مهل للاتحاد في كيان أكبر لتصبح ثقافة إنسانية عالمية جديدة - باختصار، ميلاد حضارة عالمية. •••

حين يبدأ مجتمع وثقافة عالمية في التشكل، لن يكون المزيد من الاندماج بين البشر ممكنا أو ضروريا. كذلك لن تكون حركة الاندماج الأخيرة والنهائية هذه معناها أن أيا من الجماعات البشرية التي نشأت بالفعل ستختفي من الوجود. فالتاريخ يبرهن لنا أن الجماعات البشرية التقليدية التي انبثقت عن تحولات سابقة - الأسر والعشائر والقبائل والأحياء والقرى والبلدات والمدن والأقاليم والدول والأمم -احتفظت كلها بهوياتها، وحافظت على وحدتها، وظلت هي المتحكمة في مجالات الحياة الملائمة لها، حتى مع ظهور كيانات أكبر وأكثر شمولية.

في الفصل التالي والأخير، سنتناول بالبحث القوى المتعددة - التي أطلقت لها العنان التقنيات نفسها التي جعلتنا بشرا - والتي صارت تهدد استمرار كوكبنا على المدى الطويل وشبكته الهشة من أشكال الحياة. كذلك سنأخذ في الحسبان احتمال استخدام البشر لقوى التقنية الرقمية بهدف إنشاء كيانات عالمية جديدة قادرة على إدارة موارد الأرض - ليس لمصلحة دولة واحدة وإنما لمصلحة البشرية جمعاء، وكل أشكال الحياة الأخرى على ظهر البسيطة.

نامعلوم صفحہ