بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
اصناف
في السنوات التي تلت وصول ريتشي، صارت الساعات وساعات الجيب الأوروبية جزءا من تجارة مزدهرة مع البلاط الإمبراطوري الصيني، وبحلول ستينيات القرن الثامن عشر تناقل الآباء اليسوعيون خبرا عن القصر الإمبراطوري قالوا فيه: «إنه يعج بالساعات وساعات الجيب والمصلصلات (مجموعات الأجراس) والساعات العدادة والأراغن والمحلقات (آلات فلكية قديمة مؤلفة من حلقات تمثل مواقع الدوائر الرئيسية في الكرة السماوية) والساعات الفلكية بجميع أنواعها وأوصافها؛ فهناك أكثر من أربعة آلاف قطعة ابتكرتها أيدي أفضل صانعي باريس ولندن.» وكان سفير شركة الهند الشرقية الهولندية في بيكين قد أشار قرب نهاية القرن الثامن عشر إلى أنه عند السفر إلى بيكين؛ «لا بد على وجه الخصوص من إحضار تلك اللعب [الساعات] التي يستخدمها الصبية الأوروبيون في اللهو؛ فهذه الأشياء ستحظى هنا باهتمام أكثر كثيرا من الأدوات العلمية والقطع الفنية.»
1
ورغم أن الصين كانت أكبر كثيرا من أي كيان سياسي عرفه الأوروبيون منذ سقوط روما، ورغم أن الحضارة الصينية طالما كانت متفوقة على الحضارة الأوروبية في مجالات متعددة في الصناعة والنقل والنظام الحكومي والأدب، كان صانعو الساعات الأوروبيون في ذلك الوقت الحرفيين الوحيدين في العالم القادرين على صناعة ساعات شديدة الدقة وصغيرة بدرجة كافية لوضعها على مائدة أو حملها في الكف. كان السبب الأساسي وراء ذلك هو أن الجهود المتواصلة على مدار أجيال قد دفعت بصانعي الساعات الأوروبيين للتفوق على صانعي الأدوات المعدنية في كل المجتمعات المتحضرة الأخرى في مجال واحد بعينه: صناعة الآلات الدقيقة.
نبع الحافز لتطوير الساعات الآلية من الهوس الأوروبي الفريد والخاص بمراعاة الوقت؛ الهوس الذي ألهم صانعي ساعات أوروبا خلال العصور الوسطى لإتقان تقنية الآلات الدقيقة في سعيهم إلى صنع ساعات دقيقة بحق. ومثل التموجات في البحيرة، انتشرت توابع الآلات الدقيقة في كل مجال من مجالات حياة البشر لتحول كل شيء تلمسه.
فقد جعلت الآلات الدقيقة في الإمكان تصنيع أنواع شتى من الآلات التي لم يأت البشر على ابتكارها من قبل: المحركات البخارية، وآلات الطباعة، والأسلحة البعيدة المدى، والمولدات الكهربائية، وأسلاك التلغراف، والتلسكوبات والمجاهر - وهلم جرا - وقد أدت أوجه التضافر التي جاءت مع ما نتج من توسع في المعلومات والعلوم والصناعة والقوة العسكرية إلى ولادة مجتمع من نوع جديد، غير قائم على طاقة البشر والحيوانات المحدودة، وإنما على طاقة الوقود الحفري التي تبدو غير محدودة. وقد بدأ الأمر برمته في العصور الوسطى مع اختراع الساعة الآلية.
عبقرية صانع الساعات
كان أوروبيو العصور الوسطى شعبا ورعا، وكانوا يعدون تلاوة الصلوات الواردة في كتاب فروض الصلوات اليومية في أوقاتها الصحيحة أمرا شديد الأهمية؛ ولهذا السبب احتوت كل الكنائس والأديرة المتعددة في ذلك العصر على برج للجرس، وكان على الرهبان قرع هذه الأجراس في ساعات محددة من الليل والنهار لإعلام المؤمنين عندما تحين أوقات تلاوة صلواتهم. غير أن الساعات الرملية والساعات المائية التي كان يستخدمها الرهبان في أوائل العصور الوسطى عرف عنها أنها لا يعول عليها وغير دقيقة. في الواقع، كان الإغريقيون والرومان والهنود والصينيون يستخدمون المزاول والساعات المائية والساعات الرملية والشموع والساعات البخورية لحساب الوقت منذ العصور السحيقة، لكن كلا من هذه الوسائل كانت به عيوب خطيرة.
كانت المزاول دقيقة فقط حسب دائرة العرض - أو المسافة من خط الاستواء - التي صممت من أجلها، وكانت تصير غير ذات نفع على الإطلاق طوال الليل ومتى غشي السحاب الشمس. أما الساعات المائية - باستثناء القليل منها التي كانت ضخمة في حجم أبنية متعددة الطوابق - فقد كانت تعتمد في سبيل دقتها على تساقط قطرات الماء ببطء من خلال ثقب صغير في قاع إناء. لكن حيث إن قطرات الماء تتدفق ببطء أكثر حين يكون الإناء شبه فارغ من الماء مقارنة بتدفقه حين يكون ممتلئا به، فقد كان من النادر أن تكون الساعة المائية دقيقة. كذلك، كثيرا ما كانت بعض الشوائب أو الفضلات تستقر في ثقب التقطير ، فكانت الساعة تتوقف تماما.
ولم تكن الساعة الرملية أفضل حالا؛ فالساعات الرملية مصممة لحساب فترات زمنية قصيرة فقط؛ لذلك كانت أغلبها تحسب عشرين دقيقة فحسب أو أقل، فلكي يكون حجم الزجاجة كافيا لقياس ساعة واحدة لا بد لأن تكون كبيرة وثقيلة وهشة لدرجة خطيرة. والأسوأ أن الساعة الرملية حتى تحسب أكثر من وحدة زمنية، كان لا بد من قلبها رأسا على عقب في كل مرة ينفد فيها الرمل. من ناحية أخرى أعطى البخور المشتعل طريقة دقيقة لدرجة مدهشة لحساب مرور الوقت ؛ لذا انتشر استخدام الساعات البخورية في أنحاء آسيا طوال قرون، غير أن الساعات البخورية شابها عيب فريد، وهو استهلاك نفسها في عملية تحديد الوقت؛ فبعد احتراق البخور إلى الحد الذي صمم من أجله كان لا بد من وضع كمية جديدة محله، وإلا فلن تخبر الساعة بالوقت.
هكذا، في وقت ما بين عامي 1200 و1300 ميلادية، وفي استجابة لرغبة الكنيسة في ساعات أكثر دقة، بدأ حرفيو أوروبا العصور الوسطى صنع ساعات آلية من المعدن. كانت هذه الساعات الآلية الثورية تعمل بقوة أثقال مدلاة من سلاسل، وهذه القوة هي التي تدير تروس الساعة. وكانت تنظم سرعة تدوير التروس آلية تسمى ميزان الساعة تتناوب القبض على كل سن من أسنان ترس معين وإفلاته. وحركة ميزان الساعة هي المسئولة عن صوت التكة المميز لكل الساعات الآلية.
نامعلوم صفحہ