بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
اصناف
الساعات والمحركات والمجتمع الصناعي
التراث الباقي لصانعي الساعات الأوائل كان التقنية الأساسية للأدوات الآلية، رغم أن ذلك لم يخطر قط في أذهانهم.
دانيال جيه بورستين، «المكتشفون»
حين وجه إمبراطور أسرة مينج الحاكمة، وان لي، دعوة إلى الأب ماتيو ريتشي لزيارة البلاط الإمبراطوري للصين في عام 1601م، كان الأب ريتشي وزملاؤه اليسوعيون أوائل الأوروبيين الذين يدخلون المدينة المحظورة. في ذلك الوقت كان الأب ريتشي، أحد القساوسة اليسوعيين في إيطاليا، يؤدي مهمة تبشيرية في جنوب الصين استمرت قرابة عشرين عاما. وكان قد نجا من شروع أحد الحشود الغاضبة البطش بإرساليته قرب كانتون، وبعد وصوله بفترة قصيرة ألقي القبض عليه وسجن مع زملائه اليسوعيين وهو في الطريق للعاصمة الصينية في بيكين.
غير أن الإمبراطور وان لي تذكر التماسا سابقا وعد فيه ريتشي بإحضار هدية عبارة عن ساعتين حملهما بعناية طوال الطريق من فينيسيا، فأمر بإطلاق سراح ريتشي ورفاقه وإحضار الساعتين إلى القصر الإمبراطوري. أراد وان لي أن يرى هذه الآلات الأوروبية الغريبة، التي قيل إنها تعمل وحدها لأيام وتدق أجراسها لإعلان مرور الساعات.
فحص وان لي ساعتي الأب ريتشي في مسكنه الخاص لعدة أيام قبل وصول اليسوعيين، وكان الإمبراطور مفتونا بهذه الآلات التي لم ير لها مثيلا قط، لكن مع وصول ريتشي ورفاقه إلى البلاط الإمبراطوري كانت أكبر الساعتين قد توقفت عن العمل، وحين حضر اليسوعيون شدد عليهم بضرورة إعادة الساعة للعمل فيما لا يزيد عن ثلاثة أيام وإلا تحملوا عواقب ذلك. ولحسن الحظ، كانت الساعة قد توقفت فقط لأنها كانت بحاجة إلى إعادة ملئها.
أفلحت هدايا ريتشي - وقدرة اليسوعيين على التنبؤ بالوقت المحدد لكسوف الشمس ومدته بدقة أكبر كثيرا من علماء فلك البلاط - في أن تكفل للأب ريتشي ورفاقه حظوة في بلاط مينج. وقد شيد برج خاص للساعة الكبيرة في أحد الأفنية الداخلية للقصر الإمبراطوري، ووضعت الساعة الصغيرة في مسكن وان لي الخاص.
وقد قال الأب ريتشي عن ساعة الإمبراطور: «إنها أفحمت كل الصينيين؛ فقد كانت عملا لم يشهد له نظير أو يسمع به، ولم ترد حتى تصورات بشأنه في التاريخ الصيني.» ولم يكن تقدير وان لي لعلم الأوروبيين وحرفيتهم من دون مكافأة؛ إذ ظل ماتيو ريتشي طوال تسعة الأعوام التالية وحتى وفاته عام 1610م يتلقى راتبا سخيا من الإمبراطور، كما شغل مكانة مميزة في البلاط الصيني. وعند وفاته خرج وان لي عن تقاليد أسرة مينج التي كانت تقتضي عدم دفن الأجانب في الأراضي الصينية، بل أمر أيضا ببناء معبد بوذي على شرف ريتشي في قلب بيكين، حيث ما زال رفاته هناك حتى اليوم.
غير أن وان لي واليسوعيين لم يكونوا على علم بأن ثمة ساعة عملاقة بديعة التفاصيل، تعمل بطاقة تدفق المياه من ساقية طولها إحدى عشرة قدما قد بنيت في الصين قبل ذلك بخمسمائة عام. كانت هذه الآلة الرائعة قائمة في برج طوله أربعون قدما، وكانت من ابتكار الموظف الحكومي العبقري سو سونج من أجل إمبراطور أسرة سونج، شينزونج، عام 1094 ميلادية. وعند وفاة شينزونج أهملت ساعة سو سونج المائية، وصهرت أجزاؤها الآلية البرونزية في النهاية لتصير خردة.
الساعات المائية العديدة التي صنعها سو سونج ومن جاء بعده على مر القرون كانت جميعها آلات فريدة من نوعها بناها عدد من الحرفيين الكبار إرضاء للبلاط الإمبراطوري. أما ساعتا الأب ريتشي، من جهة أخرى، فقد كانتا ثمرة صناعة كاملة، اشتغل بها جيش من الحرفيين المهرة ظلت تنمو بثبات طوال ثلاثمائة عام وانتشرت في أنحاء أوروبا.
نامعلوم صفحہ