61
إن ما يقوله علم الطبيعة عن المادة، بل عن العالم الطبيعي بصفة عامة، مما يهم الفيلسوف، إنما يقع في قسمين أساسيين هما: بناء المادة أولا، ونظرية النسبية ثانيا.
أما عن بناء المادة، فقد كانت نظرياته حتى عام 1925م قائمة على الفكرة القديمة، وهي أن المادة لا تتعرض للزوال، وأنها مؤلفة من ذرات صلبة لا تقبل الانقسام، ثم تغير الرأي على يدي عالمين ألمانيين هما «هايزنبرج» و«شريدنجر»، بحيث أصبحت المادة أبعد ما تكون عن تلك الصلابة المزعومة لها وباتت أقرب ما تكون إلى ما يقوله الروحانيون عن الروح.
كانت الصورة التي اتخذتها النظرية القديمة في القرن التاسع عشر هي أن الطبيعة المادية مؤلفة من عدد معين من العناصر، وأن كافة المواد مركبة من تلك العناصر الأولية، فالمادة من المواد المركبة مؤلفة من مجموعات ذرية، وكل مجموعة منها مؤلفة من ذرات تنتمي إلى عناصر مختلفة من تلك العناصر الأولية، فالماء - مثلا - مادة مركبة من مجموعات ذرية، كل مجموعة منها مؤلفة من ذرتين من الأيدروجين وذرة واحدة من الأوكسجين، ويمكن فصل هذين النوعين من الذرات أحدهما عن الآخر بالتحليل الكهربائي، وكان المفروض أن الذرة الواحدة من عنصر ما وحدة لا تقبل التغير أو الزوال، والعناصر الأولية التي منها كانت تتألف سائر المواد يبلغ عددها اثنين وتسعين عنصرا (أو هذا هو العدد الذي كان ينبغي للعناصر الأولية أن تبلغه لو ملئت الفجوات الشاغرة في سلسلة العناصر المعروفة فعلا، وكان عددها سبعة وثمانين عنصرا)، وكان لكل عنصر من تلك العناصر الأولية رقم يدل عليه، فالأيدروجين أولها، والهليوم ثانيها، واليورانيوم ثالثها، وهكذا حتى تبلغ العنصر الثاني بعد التسعين.
فلما أن كشف العلم عن فاعلية الراديوم، اضطر إلى تغيير نظره إلى الذرات، فلم تعد الذرة - كما كانت - غير قابلة للزوال أو التغير، إذ وجد أن الذرة من عنصر معين يمكن تحليلها إلى ذرة من عنصر آخر، فمثلا إذا ما تحللت ذرة الراديوم نشأ عنها نوع من الرصاص يختلف بعض الاختلاف عن الرصاص الذي نستخرجه من مناجمه، هذه الظواهر وأمثالها انتهت بالعلم إلى نتيجة جديدة، هي أن الذرة بناء مركب يمكن تحويله إلى نوع آخر غير نوعه إذا فصلنا عنه بعض أجزائه.
وتتابعت بعد ذلك الكشوف الحديثة عن المادة وطبيعتها، فإذا هي ترتد بالتحليل إلى نوعين من الوحدات هما الإلكترونات والبروتونات (أو الكهارب السالبة والكهارب الموجبة)، وكل من هذين النوعين متشابه الوحدات، أي إن الإلكترونات كلها على شبه تام بعضها ببعض، وكذلك البروتونات على شبه تام بعضها ببعض، والفرق بين البروتون والإلكترون - فوق أن الأول يحمل كهرباء موجبة والثاني يحمل كهرباء سالبة - هو أن كتلة البروتون تساوي كتلة الإلكترون 1835 مرة، ومن خصائص هذين النوعين من الوحدات الكهربية أن أجزاء كل نوع منها ينفر بعضها من بعض، لكنها تنجذب للنوع الآخر، فالإلكترونات يطرد بعضها بعضا، والبروتونات يطرد بعضها بعضا، لكن الإلكترون والبروتون يجذب أحدهما الآخر.
والذرة هي بناء مركب من النوعين معا؛ فذرة الأيدروجين - وهي أبسط الذرات تركيبا - تتألف من بروتون واحد وإلكترون واحد يدور حوله كما يدور كوكب حول الشمس، وأما سائر العناصر فالذرة منها تتركب من نواة مؤلفة من عدد من البروتونات والإلكترونات، وحول هذه النواة يدور عدد من الإلكترونات، والبروتونات التي في النواة تزيد عددا عن الإلكترونات التي في النواة، وهذا النقص في عدد إلكترونات النواة يعوضه الإلكترونات التي تدور حول النواة، وعدد البروتونات التي في النواة هو الذي يحدد وزن العنصر.
هذا ما يقوله علم الطبيعة اليوم عن تركيب المادة، والذي يهم الفيلسوف من هذا الوصف هو أن «المادة» لم تعد «شيئا». بل زال عنها ذلك الشيء القديم، وأصبحت كهارب وإشعاعات، وإذن فهذه المناضد والمقاعد، وهذه الأشجار والأنهار، والشمس والقمر والنجوم، بل وهذا الخبر الذي نأكله، كل هذه الأشياء قد أصبحت في حقيقتها إشعاعات كهربائية، أو إن شئت فقل إن كل «شيء» من هذه «الأشياء» قد فقد «شيئيته»، وبات في حقيقته سلسلة من حوادث، لكننا سنعود إلى فكرة «الحوادث» هذه بعد قليل.
وأما ما يهم الفيلسوف من نظرية النسبية في علم الطبيعة الحديث، فذلك أنها قد تخلصت من الزمان الواحد الذي يشغل الكون كله، والمكان الواحد الذي يمتد ما امتد الكون كله، فاستبدلت نظرية النسبية بهما فكرة جديدة هي فكرة المكان المندمج في الزمان اندماجا يجعلهما حقيقة واحدة يكون الزمان فيها بعدا رابعا يضاف إلى أبعاد المكان الثلاثة.
الإنسان بإدراكه الفطري، وعلم الطبيعة فيما قبل النسبية، كلاهما كانت العقيدة عنده هي أنه إذا حدث حادثان في مكانين مختلفين، فلا بد أن يكون هنالك جواب حاسم لهذا السؤال: هل حدث الحادثان في وقت واحد؟ أما بعد نظرية النسبية، فقد تغيرت وجهة النظر إلى حقيقة المكان والزمان تغيرا جعل الإجابة عن هذا السؤال محالا، فافرض وجود شخصين «أ» و«ب» في نقطتين بينهما مسافة بعيدة، وقد زود كل منهما بمرآة وبوسيلة يرسل بها إشارات ضوئية، فعندئذ ستتتابع الحوادث التي تحدث للشخص «أ» تتابعا زمنيا بغير شك، وكذلك الحال بالنسبة للحوادث التي تحدث لزميله «ب»، أما إذا أردنا أن نقارن بين ترتيب الحوادث عند «أ» بترتيبها عند «ب» فها هنا تكون المشكلة؛ فلو فرضنا أن مكان «أ» هو الأرض، ومكان «ب» هو الشمس، وأن «أ» أرسل إشارة ضوئية إلى «ب»، فإن المرآة التي مع «ب» ستعكسها لتعود إلى «أ» بعد مدة زمنية معينة، هي في هذه الحالة ست عشرة دقيقة، ومن الطبيعي أن نقول إن الزمن الذي استغرقته الإشارة الضوئية في طريقها إلى «ب» هو نصف الزمن الذي استغرقته من لحظة الإرسال إلى لحظة العودة، لكن كان يكون ذلك لو كان «أ» و«ب» ثابتين في مكانيهما، أما وكل منهما يتحرك، فإنه من المحال أن نقرر في يقين متى يكون وصول الإشارة إلى «ب»، وأي حادثة من الحوادث التي تحدث للشخص «أ» تكون «قبل» أو «بعد»، أو «متآنية» مع لحظة وصول الإشارة إلى «ب»، وباختصار فإن مقارنة اللحظات الزمنية عند «أ» لا يمكن مقارنتها باللحظات الزمنية عند «ب» مما يجعل لكل منهما زمانه الخاص، بحيث لا يشتركان معا في زمان واحد شامل.
نامعلوم صفحہ