برتراند رسل: مقدمہ قصیرہ
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
انتهى المطاف براسل إلى رفض الفكرة - وهو موقف غير مرض على الإطلاق من وجهة نظر نظرية من المفترض أن تكون «محايدة» و«أحادية» في الوقت نفسه - القائلة بأن الصور والمشاعر هي عقلية بالأساس، بمعنى أنها ليست قابلة للاختزال كليا في المادة المحايدة؛ إذ يقول في مقالة كتبها في فترة متأخرة: «لا يصير الحدث عقليا أو ماديا بفعل أي صفة جوهرية، بل فقط بفعل علاقاته السببية؛ فمن الممكن أن يتسم حدث ما بالعلاقات السببية التي تميز الفيزياء والعلاقات السببية التي تميز علم النفس. وفي تلك الحالة، يصبح الحدث عقليا وماديا في آن واحد» (كتاب «صور من الذاكرة» (1958)، ص152). وهذا هو ما كان ينبغي أن يحاول أن يبرهن عليه - التماسا للاتساق - في كتاب «تحليل العقل» نفسه، حيث تتسم الأحاسيس فقط بهذا الطابع. ولكن وجهة النظر هذه تؤدي بدورها إلى مشكلة أخرى، وهي أنها تتعارض مع وجهة نظر عاد إليها راسل بعد كتاب «تحليل العقل»، ومفادها أن أسباب المدركات الحسية تستنتج من حدوث المدركات الحسية نفسها. وكما ورد آنفا، كان راسل مترددا بين تناول الأشياء المادية باعتبارها أبنية مؤلفة من الأشياء المحسوسة وبين تناولها باعتبارها كيانات تستنتج على أنها أسباب الإدراك ؛ واحتفظ بوجهة نظره الأخيرة هذه في كتاب «مشكلات الفلسفة» ثم عاد إليها بعد كتاب «تحليل العقل». ولكن ظاهريا سيحتاج المرء إلى علاقة دقيقة بين موقفه من الميتافيزيقا وموقفه من نظرية المعرفة لكي يؤمن بأن العقول والأشياء تتألف من مادة واحدة، وأن الأشياء هي المسببات المستنتجة الخارجية المجهولة لما يحدث في العقول؛ ومن ثم فإن تلك الجوانب من الإرث الذي تركه كتاب «تحليل العقل» في فكره تتسبب في معضلات كبيرة تواجهها آراؤه اللاحقة المتعلقة بالموضوع.
مذهب الواقعية والإدراك
كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل ليعود إلى وجهة نظر قائمة على الواقعية والاستنتاج بخصوص الأشياء المادية؛ الصعوبة الكامنة في مفهوم البيانات الحسية غير المحسوسة أو - حسب المصطلحات اللاحقة - المدركات الحسية. وكما سبقت الإشارة آنفا، كانت الفكرة تقوم على استبدال الكيانات المستنتجة لتحل محلها الكيانات ذات البنية المنطقية، وذلك تطبيقا للأسلوب التحليلي. فإذا كان من الممكن بناء الأشياء المادية بطريقة منطقية من البيانات الحسية الفعلية والمحتمل حدوثها، يترتب على ذلك تحقيق مطلبين في الوقت نفسه: تصبح النظرية قائمة على أساس تجريبي، وتشذب الكيانات المستنتجة بفعل مبدأ نصل أوكام. ولكن من الواضح - وسبق مناقشة هذه النقطة - أن فكرة البيانات الحسية غير المحسوسة (أو المدركات الحسية غير المدركة) ملتبسة - إن لم تكن متناقضة فعلا - وذلك على أقل تقدير. فمن المنطقي - مع أنه من المشكوك فيه من الناحية الميتافيزيقية، دون وجود تفسير دقيق - أن نتحدث عن وجود «احتمالات» للإحساس؛ ولكن ليس من المنطقي أن نتحدث عن وجود «أحاسيس محتمل حدوثها» (راجع تعريف الأشياء المحسوسة الذي قدمه راسل باعتبارها كيانات لها «الحالة الميتافيزيقية والمادية نفسها كبيانات حسية دون أن تكون بالضرورة بيانات تدخل لأي عقل»). ولو كان الاختيار ينحصر بين الجزئيات المادية المستنتجة وبين الأفكار المدركة غير الفعلية الموجودة دون أن يدركها أحد، لأصبح من الأفضل فيما يبدو أن نختار الخيار الأول. وهذا هو فعليا ما بدأ يعتقده راسل في نهاية المطاف؛ وهكذا رفض الأحاسيس غير المحسوسة. ولكنه لم يعد إلى الشكل الأبسط من الواقعية القائمة على الاستنتاج التي كان يؤمن بها في كتاب «مشكلات الفلسفة»؛ وكان يدخر شيئا أكثر براعة - وإن كان لم يحقق نجاحا أكبر - سيرد الحديث عنه بعد قليل.
كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل للعودة إلى الواقعية هو إقراره بأن مفهوم السببية مبهم من وجهة نظر مذهب الظواهر. تؤثر الأشياء الموجودة في العالم بعضها في بعض فيما يبدو تأثيرا سببيا بطرق يصعب تفسيرها تفسيرا مناسبا من خلال تقارير الخبرات الحسية. فضلا عن ذلك، حين تعتمد نظرية الإدراك على السببية تصبح طريقة طبيعية وقوية لشرح كيفية تنشأة الخبرة نفسها. في فلسفة العلوم الناضجة التي تحدث عنها راسل في كتابه «تحليل المادة» (1948)، لم يختر راسل وجهة نظر لوك التي تقول إن مدركاتنا الحسية تشبه أصولها السببية - ما يسمى نظرية «أصل الصورة» - لأنه يتعذر علينا الاطلاع مباشرة على الأشياء؛ ومن ثم يتعذر علينا أن نعرف صفاتها وعلاقاتها. وأخذ يؤكد في هذه المرحلة أن التغيرات التي تطرأ على العالم وعلى أفكارنا المدركة تترابط - أو تتغاير - على الأقل بخصوص رتب الأشياء الموجودة في العالم التي يستطيع جهازنا الإدراكي تسجيلها (فعلى سبيل المثال، نحن لا ندرك الإلكترونات التي تحتشد في الطاولة؛ لذلك لا يوجد تغاير بين العالم والإدراك في ذلك المستوى). إن التقابل بين المدركات الحسية والأشياء هو تقابل من حيث «البنية» على المستوى المناسب: «أيا كان ما نستنتجه من الأفكار المدركة، فإن البنية هي وحدها ما نستطيع أن نستنتجه استنتاجا صحيحا؛ والبنية هي ما يرمز إليها المنطق الرياضي» (تحليل المادة، ص254). وهذا معناه أنه يجب أن نتخذ موقفا «لاأدريا» حيال معظم الخواص الرياضية للعالم المادي، وهي الخواص التي تصفها الفيزياء (تحليل المادة، ص270).
أدرك راسل في آخر الأمر أن أكثر شيء أساسي في العالم من الناحية الميتافيزيقية هو على الأرجح «الحدث». تتكون الأشياء من الأحداث على النحو التالي: العالم عبارة عن مجموعة من الأحداث، معظمها يتجمع حول عدد وفير من «المراكز»، وبهذا تكون «الأشياء». وتتشعب كل مجموعة إلى «سلاسل» من الأحداث، فتتفاعل مع السلاسل التي تتشعب من المراكز الأخرى وتؤثر فيها، ومن بين تلك المراكز الأخرى الأشخاص المدركون. وحين تتفاعل سلسلة مع الأحداث التي تكون جهاز الإدراك لأحد الأشخاص المدركين، تصبح الحلقة الأخيرة من السلسلة عبارة عن مدرك حسي . وما دام كل شيء يتكون أساسا من الأحداث، فإنها تكون فعليا «المادة المحايدة» التي تتألف منها العقول والأشياء المادية. والعقول عبارة عن مجموعات من الأحداث تربطها علاقات «عقلية»، وأهمها التذكر؛ بخلاف ذلك لا يوجد أي اختلاف ميتافيزيقي بين العقل والمادة. وأخيرا فإن العلاقات البينية التي تجمع سلاسل الأحداث هي ما تصفه قوانين السببية العلمية.
ساعدت وجهة النظر هذه راسل على صياغة الحجة التي ظل طويلا يحاول عرضها بطريقة مقنعة، وهي أن المدركات الحسية أجزاء من الأشياء. وفق وجهة النظر هذه لا تتألف الأشياء من أحداث، وتكون الأحداث بدورها عبارة عن الأفكار المدركة لتلك الأشياء؛ بل يوجد فقط أحداث تكون الشيء، وبعض هذه الأحداث عبارة عن مدركات حسية؛ وهذه هي الأحداث النهائية للسلاسل المتشعبة من الشيء، وتتفاعل تلك المدركات الحسية مع الأحداث التي تكون الشخص المدرك.
لا تقوم هذه النظرية على الاستنتاج بالمعنى السابق الذي تخمن فيه أسباب المدركات الحسية - التي تقع فيما وراء نقاب من الإدراك على نحو يتعذر الوصول إليها - من طبيعة المدركات الحسية نفسها؛ بل يأتي الاستنتاج من أحداث نهائية معينة، تحديدا المدركات الحسية - والتي هي (للتعبير عن الأمر بطريقة استكشافية) عبارة عن تفاعلات بين الأحداث «العقلية» وذلك المستوى البنيوي الموجود في بقية عالم الأحداث الذي تستطيع الأحداث «العقلية» أن تتفاعل معه - وصولا إلى مجموعات وسلاسل الأحداث التي تكون العالم بأكمله.
في كتاب «تحليل المادة» يركز صميم النظرية على فكرة أن معرفة العالم معرفة بنيوية بحتة؛ فنحن نعرف صفات المدركات الحسية وعلاقاتها وكذلك بنيتها، ولكننا لا نعرف إلا بنية الأحداث الخارجية، وليس صفاتها. ويذكرنا هذا بعض الشيء - فيما يبدو - بالفارق بين الصفات الأولية والثانوية الذي تحدث عنه لوك، ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ يقول راسل إن كل ما نستطيع استنتاجه من مدركاتنا الحسية هو بنية صفات الأشياء وبنية علاقاتها، وليس الصفات والعلاقات نفسها؛ وإن ذلك هو الحد النهائي للمعرفة.
يعتري هذه النظرية خطأ فادح، سرعان ما تعرف عليه عالم الرياضيات إم إتش إيه نيومان وعرضه في مقال نشره عقب ظهور كتاب «تحليل المادة». ويكمن الخطأ في أنه ما دامت معرفتنا عن بنية الأحداث ليست محض نتيجة لافتراضنا لوجودها، بل هي أساسية بكل وضوح، يترتب على ذلك أنه لا يمكن أن تقتصر معرفتنا القائمة على الاستنتاج على أسئلة البنية فقط؛ وذلك لأنه - كتشبيه تقريبي - من الممكن أن يصبح عدد من العوالم المختلفة قابلا للتعريف على نحو تجريدي باعتبارها تتسم بالبنية نفسها، ولو كانت فعلا هكذا، لعجزت معرفة بنيتها فقط عن الفصل بينها، ولعجزت تحديدا عن تمييز العالم «الحقيقي» من بينها. فإذا كان العلم حقا يتألف من اكتشافات عن العالم تتحقق من خلال الملاحظة والتجربة، فمن ثم لا يمكن تقليص الفارق بين ما نلاحظه وبين ما نستنتجه إلى فارق بين البنية البحتة والصفات.
كتب راسل خطابا يتسم بتسامحه المعهود ووجهه إلى نيومان يقر فيه بهذه النقطة قائلا: «إنك توضح تماما أن عباراتي التي تفيد بأنه لا شيء يعرف عن العالم المادي فيما عدا بنيته هي إما خاطئة أو سطحية، وأشعر بالخجل بعض الشيء لأنني لم ألحظ ذلك بنفسي.»
نامعلوم صفحہ