برتراند رسل: مقدمہ قصیرہ
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
ومن الانتقادات الأخرى أن راسل يفترض أن الخبرة المباشرة يمكن أن نرمز إليها بالقضايا - رغم أنها تقتصر على وصف «المعطيات» الذاتية - التي من الممكن استخدامها كأساس لمعرفة العالم. ولكن كيف يمكن أن يكون ما ينطبق فقط على التجربة الخاصة فيما يبدو - ولا يحمل أي إحالة إلى ما يتعدى تلك التجربة - هو الأساس الذي تقوم عليه نظرية للمعرفة؟ ولا يفيد أن يقال إن راسل يسمح بالمعرفة البديهية للمبادئ المنطقية التي تتيح استخلاص الاستنتاجات من هذه القضايا؛ لأنه لن يوجد حافز لاستنتاجها إلا إذا كان الشخص لديه بعض المعتقدات التجريبية العامة التي تصلح لتكون المقدمات الكبرى في تلك الاستنتاجات، ولديه كذلك بعض الافتراضات التجريبية التي تختبرها الاستنتاجات أو تدعمها في الواقع. ولكن هذه المعتقدات والافتراضات التجريبية لا تتوافر لشخص - حسبما يقدمه راسل - يتعرض لخبرة ما دون أن يكون لديه سوى بيانات حسية وحقائق بديهية منطقية.
أثرت هذه المشكلة في راسل نفسه، وتصدى لها في وقت لاحق (في كتاب «المعرفة البشرية») بقبول شكل من أشكال شيء كان يستنكره في فلسفة كانط، وهو أنه لا بد من وجود بعض الأشياء (بخلاف حقائق المنطق) المعروفة لنا باعتبارها بديهية، هذا إذا كانت المعرفة ممكنة من الأساس. وسأناقش هذه الجزئية المهمة للغاية في المكان المناسب أدناه.
ومن المشكلات الأخرى التي طرحها منتقدو راسل أن الاعتبارات التي يعتمد عليها راسل للبرهنة على وجود فارق بين المظهر والواقع لا تقنع أحدا، بالطريقة التي يعرضها بها؛ فحين يبدو شيء بلون ما أو بشكل ما لشخص مدرك، ولكن يبدو بلون أو شكل آخر لمدرك آخر، أو يبدو بألوان أو أشكال مختلفة للمدرك نفسه في ظروف مختلفة - على سبيل المثال، يتوقف ذلك على ما إذا كان يشاهده في ضوء النهار أو في الظلام، أو من زاوية نظر معينة أو أخرى - فإن ذلك يخبرنا أن مسألة كيفية ظهور الأشياء للإدراك من الأمور المعقدة، ولكنه لا يخبرنا في حد ذاته أن الشيء موضع الإدراك مختلف في كل مرة.
وهذا الانتقاد صحيح في حد ذاته، ولكن يتصادف أنه توجد طرق أخرى ملائمة للغاية لتحديد الفارق بين المظهر والواقع، وذلك كما يتضح في الأعمال الأحدث التي ظهرت في مجال فلسفة الإدراك؛ ومن ثم من الممكن النظر إلى حجج راسل هنا - كما كان ينظر هو إليها - على أنها تشجع على الاكتشاف، بمعنى أنها توضح الجزئية فقط بغرض إطلاق شرارة المناقشة.
ولكن هذا الانتقاد يوحي بانتقاد آخر أهم؛ إذ إن راسل - مثل كل سابقيه منذ ديكارت ومثل بعض من جاءوا بعده مثل إتش إتش برايس وإيه جيه آير - تقبل افتراضا مهما للغاية من ديكارت، وهو أن نقطة الانطلاق المناسبة لأي بحث عن المعرفة هي تجربة فردية. فلا بد أن يبدأ الفرد بالمعلومات الخاصة المستمدة من الوعي والبحث عن أسباب ضمنها لدعم استنتاجاته - أو عادة معتقداته - عن عالم خارج ذهنه. ومن التغيرات الكبرى التي شهدتها الفلسفة في القرن العشرين رفض هذا الافتراض الديكارتي؛ فمن بين الصعوبات البالغة المتعلقة بهذا الافتراض أنه يصبح من المستحيل تجاهل أو دحض الرؤية المتشككة إذا قبلنا به. ومن الصعوبات الأخرى أنه بناء على أساس بهذا الضعف لا يحق لنا أن نرى في الشخص الراغب في المعرفة - الذي لا يرى وجودا إلا لعقله فقط - شخصا قادرا على تسمية أحاسيسه وخبراته والتفكير فيها، بل لا يحق لنا أن نفكر فيه على أنه شخص يستطيع استنتاج وجود عالم خارجي من هذه الأحاسيس والخبرات. وتدفعنا الفكرتان كلتاهما بثبات نحو فكرة أن المكان المناسب لبدء نظرية المعرفة هو - على نحو ما - المجال العام.
العالم الخارجي والعقول الأخرى
لم يكن راسل راضيا عن الطريقة التي عرض بها الأمور في كتاب «مشكلات الفلسفة»، وهو على كل كتاب كان الغرض منه أن يكون كتابا شعبيا غير موجه للمتخصصين، ولم يقدم عرضا دقيقا لأطروحاته. وعلى مدى العقود الأربعة التالية أخذ يعود إلى مشكلة المعرفة والإدراك بصفة متكررة. وطوال السنوات التي أعقبت نشر كتاب «مشكلات الفلسفة» وسبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، انكب راسل على تلك الأمور بجدية؛ إذ وضع مسودة لمخطوطة كتابه الكبير «نظرية المعرفة»، نشر جزءا منها وتخلى عن جزء آخر، وكتب سلسلة مهمة من المحاضرات ظهرت في عام 1914 في كتاب بعنوان «معرفتنا بالعالم الخارجي». وفي هذا العمل قدم راسل مناقشة أكثر تفصيلا لجوانب النظرية الواردة في كتاب «مشكلات الفلسفة»، وتوصل إلى نتائج مهمة.
ومن الاختلافات بين النظريات الواردة في كتابي «مشكلات الفلسفة» و«معرفتنا بالعالم الخارجي» أن راسل أصبح مقتنعا بأن أساس المعرفة التي يحصل عليها الشخص الذي يتعرض للخبرة - البيانات الحسية التي تظهر له وحده، ومعرفته الحدسية القائمة على قوانين المنطق - هو نقطة انطلاق أضعف من اللازم. لم يرفض راسل الافتراض الديكارتي الذي ناقشته للتو، بل أصبح أشد حساسية حيال الصعوبات التي يخلقها؛ ولذلك كان يحاول أن يحد منها؛ ومن ثم أخذ يولي أهمية أكبر لامتلاك الشخص لحقائق الذاكرة وفهمه للعلاقات المكانية والزمنية السارية من ضمن عناصر أي خبرة راهنة. ويتسنى للشخص كذلك مقارنة المعلومات، مثلا، من حيث الاختلافات المتعلقة باللون والشكل. لكن أمورا مثل المعتقدات الشائعة والاعتقاد بوجود عقول أخرى لا تزال مستبعدة.
ويصوغ راسل في ضوء هذ الأساس الغني لما أصبح يطلق عليه الآن «المعلومات الواقعية» سؤالا يقول: «هل من الممكن استنتاج وجود أي شيء غير معلوماتنا الواقعية؟» ويقوم نهجه أولا على عرض كيفية إمكاننا - كفرضية - تكوين مفهوم يتعلق بالمكان توضع فيه حقائق التجربة؛ حقائق خبرة الشخص نفسه والحقائق التي يعرف بوجودها من خلال شهادة آخرين. ثم يقدم راسل - في سبيل معرفة ما إذا كان لدينا مبرر للاعتقاد بأن هذا العالم المكاني حقيقي - برهانا يؤيد وجود عقول أخرى؛ لأنه إذا كان يتسنى للمرء حقا أن يصدق هذا، فإذن يمكنه أن يعتمد على شهادة الآخرين - إضافة إلى خبرة المرء نفسه - التي ستقدم دعما قويا للرأي القائل بوجود عالم مكاني، بمعنى حقيقي.
هذه الاستراتيجية مبتكرة. وفي البحث المعنون «صلة البيانات الحسية بالفيزياء»، الذي ألفه راسل في أوائل عام 1914، يضيف راسل أسلوبا مبتكرا أيضا يتعلق بالتفكير في صلة الخبرة الحسية بالأشياء؛ ففي كتاب «مشكلات الفلسفة»، كان قد ذكر أننا نستنتج وجود الأشياء المادية من بياناتنا الحسية؛ والآن يصفها بأنها تابعة للبيانات الحسية، أو على حد وصفه أحيانا، «أبنية» مكونة من البيانات الحسية. وتستخدم هذه الاستراتيجية الأسلوب المنطقي الذي يمكن فيه إثبات إمكانية تحليل الشيء وتحويله إلى أشياء من نوع آخر. ويصف راسل المبدأ القائل بأنه «لا بد من إحلال الأبنية المنطقية محل الكيانات المستنتجة بقدر الإمكان» باعتباره «القاعدة العليا للفلسفة العلمية». ووفقا لهذا المبدأ، يجب تحليل الأشياء المادية بناء على ذلك باعتبارها أبنية مكونة من البيانات الحسية؛ ومع ذلك لا تكون مكونة من البيانات الحسية الفعلية أو الحالية فقط، بل من «الأشياء المحسوسة» أيضا، والمقصود بتلك الأشياء على حد تعبير راسل «المظاهر أو النحو الذي تبدو عليه الأشياء»، بصرف النظر عما إذا كانت تكون البيانات الحسية التي هي حاليا جزء من خبرة أي شخص مدرك. والغرض من ذلك هو تفسير فكرة وجود الشيء رغم عدم وجود أشخاص يدركونه.
نامعلوم صفحہ