قبل أن تقرأ
مدخل
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
شكر واجب
قبل أن تقرأ
مدخل
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
شكر واجب
برلين 69
برلين 69
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
مدخل
1
ليس من الصعب معرفة ما كان يدور في أذهان الشبان المصريين الذين ابتلعتهم مياه
البحر الأبيض المتوسط
طوال سنوات التسعينيات من القرن الماضي والعشر الأول من القرن الجديد، أثناء محاولة التسلل إلى البلاد الأخرى؛ فلن يتعدى الحلم بالعمل والسكن والحياة الكريمة. لكن الأمر لم يكن كذلك في عام 1969م، رغم الآثار التي تركها العدوان الإسرائيلي قبل عامين.
فارق آخر، هو أن الخروج في الستينيات كان شديد الصعوبة على عكس الدخول (إلى البلدان الأخرى) ثم تبدل الحال إلى النقيض في التسعينيات.
ما كان يدور في رأس
صادق الحلواني - وهو في الجو وليس الماء - لم يكن حلما بالعمل والسكن والحياة الكريمة (فهو يشغل عملا محترما في مكتب
القاهرة
لوكالة الأنباء الألمانية، ويقيم في شقة مفروشة بحي
الزمالك ) وإنما كان حلما ثقافيا. ولا نقصد بذلك ما يقبع بين أغلفة الكتب وجدران الجامعات. ما نقصده سيتضح بعد قليل.
حط بمطار
شونفيلد
في
برلين الشرقية
مع الفجر. قادته بضع خطوات إلى ضابط قابع في صندوق صغير قاتم اللون محكم الإغلاق من كافة الجوانب، يفصله عن العالم لوح من الزجاج السميك، بقاعدته منفذ ضيق يتسع بالكاد لجواز السفر، ولا يسمح بأي حوار، وفي الأعالي مرآة عريضة تكشف ظهر الزبون الذي وقف في ممر لا يزيد عرضه عن بضعة سنتيمترات لم تترك مجالا للهاندباج التي يحملها.
رفع الضابط عينيه وصوبهما إلى وجه
صادق
مقارنا بينه وبين صورة الجواز. وطالع الأخير نظرة اتهام، فبدأ قلبه في الدق. وبعد تدقيق طويل وبحث متأن على شاشات لا يراها من مكانه نطق الضابط: اسمك؟
لم يكن
صادق
يعرف من الألمانية كلمة واحدة. لكن وقع الكلمة، القريب من الإنجليزية ولهجتها، أوحيا إليه بالإجابة.
السؤال التالي لم يفهمه: سبب الزيارة؟
لكنه حزره، فقال بثقة: إنه يعمل في وكالة الأنباء الألمانية. وذكرها بحروفها المختصرة التي تعرف بها: «أ. د. ن» لكنه نطقها بالإنجليزية التي تختلف في النطق عن الألمانية، فطلب منه الضابط أن يتنحى جانبا وينتظر.
طال انتظاره إلى أن جاءت النجدة على شكل ممثل لوكالة الأنباء؛ كهل في منتصف الخمسينيات، ممتلئ الجسم، ضاحك الوجه، حريص على تصفيف شعره الأشقر الذي يخالطه البياض. قدم نفسه باسم
نويمان ، وقال إنه رئيس القسم العربي الذي سيعمل به
صادق . تحدث الممثل مع الضابط طويلا ويداه متشابكتان فوق بطنه في تواضع واستعطاف، وعلى شفتيه ابتسامة معتذرة. أشار الضابط إلى
صادق
أن يقترب، وأعاد إليه جوازه، فعبر الممر الضيق، واصطدم بباب مغلق، فتحه الضابط بضغطة من إصبعه على زر خاص داخل قوقعته، فأصدر صوتا كصافرات الإنذار، ثم انغلق على الفور من خلفه بصورة أوتوماتيكية. ألفى نفسه بين الحراس المسلحين ورجال الجمارك الذين فتشوا حقائبه بدقة متناهية، وأخيرا انضم إلى 17 مليون شخص يعيشون في الجزء الشرقي من
ألمانيا ، بينما يعيش ضعفا هذا الرقم في الجزء الغربي.
صحبه ممثل الوكالة في سيارته. اعتذر عن تأخره في المجيء. وأكدت رائحة الخمر التي فاحت من فمه صدق الاعتذار. لكنه ساق السيارة بحذر شديد وهو يتمتم بكلمات حانقة موجهة إلى «الفأر الأبيض»، اللقب الذي استحقه شرطي المرور الصارم. ولم يمنعه هذا من إبداء الاستغراب لتمتمات الشاب المصري المعربة عن إعجابه وانبهاره بالشوارع المقفرة التي تطل عليها خرائب الحرب ويغطيها الجليد. سبب الإعجاب مرتبط إلى حد ما بالثقافة؛ فهي أول مرة يرى فيها أوروبا والجليد، كما أنها أول مرة يضع قدمه في أحد بلدان الجنة الاشتراكية. ولم يصدق أنه في المكان الذي شهد أحداثا جساما قبل عشرين سنة «وسيشهد أحداثا مماثلة بعد عشرين سنة أخرى». وظل يكرر بالإنجليزية: رائع، رائع. والكهل يتلفت حوله في حيرة بحثا عن الروعة التي اكتشفها هذا العربي بسهولة.
اقتاده الكهل إلى فندق قضى فيه ليلته أسفل لحاف منتفخ. وفي الصباح صحبه لشراء معطف صوفي ثقيل وحذاء مبطن بالفراء وقفاز جلدي ولفاعة صوفية، ثم غطاء للرأس على الطراز الروسي. وعندما اكتمل تسليحه لمواجهة الجليد، نقله إلى غرفة مفروشة بلحاف منتفخ في شارع
كارل ماركس ألليه . وهو شارع من البواكي والبنايات التي أقيمت على الطراز
الستاليني
في كل عاصمة من
أوروبا
الشرقية، بعد أن حررها الجيش الأحمر من النازيين؛ ولهذا صار من أهم الشوارع الرئيسة في المدينة.
كانت الغرفة بمسكن أحد العاملين في الحكومة مع زوجته وابنته. ولا بد أنه كان عضوا بالحزب الحاكم أو بأجهزته الأمنية، وإلا ما فاز بهذه الشقة وعهد إليه بإيواء الأجنبي.
حانت الفرصة الثقافية على الفور؛ فالبنت تتمتع بكافة المواصفات؛ طويلة رشيقة شقراء، بعينين زرقاوين ووجه مليح. التقاها لأول مرة في الصباح عند تناول الإفطار مع الأسرة في المطبخ . وكانت تعلم أنه لا يعرف الألمانية فحيته بالإنجليزية. لكن محصولها من هذه اللغة لم يسمح بالحوار معها. ولم تكد تنهي إفطارها على عجل حتى خرجت إلى عملها. ولم يتح له أن يراها ثانية في هذا اليوم ولا في الأيام التالية مباشرة.
لكنه وجد تعويضا في الوكالة نفسها؛ فعندما دخل صالة تحرير الأقسام الأجنبية لأول مرة وجد نفسه وسط العديد من صاحبات الشعر الأشقر، بل والأسود أيضا اللاتي تطلعن إليه في فضول. وكان القسم العربي في نهاية الصالة يفصله جدار رقيق من الخشب عن بقية الأقسام. وبه ممثلتان للثقافة، إحداهما شقراء باسمة الوجه (تعرج قليلا)، والثانية بضة ممتلئة بشعر أسود، والاثنتان جالستان أمام جهازي
تليبرينتر ، تستقبلان الأخبار بالإنجليزية والألمانية، وترسلانها بالعربية التي لا تعرفانها!
استقبله رئيس القسم
نويمان ، وقدمه إلى أعضاء الفريق الذين تلقوه بتحفظ ووجوم؛ ثلاثة عراقيين؛ اثنان من الأكراد، كما تبين فيما بعد (وتبين أيضا أنهما لا يتبادلان الكلام؛ لأن أحدهما يتبع حزب
البرزاني - الزعيم التاريخي للأمة الكردية - بينما ينتمي الثاني لحزب
الطلباني - الذي كان الذراع اليمنى للأول قبل أن ينشق عليه بدعاوى يسارية)؛ أحدهما قصير مدكوك الجسد، وسيم وأنيق الملبس
ماجد . والثاني طويل القامة، نحيفها، أصلع الرأس
فخري ، أما العراقي الثالث فعربي ضئيل الحجم مكتئب الوجه شديد الانطواء (انقطع عن العمل في اليوم التالي دون مبرر)، والرابع لا ألماني ولا عربي، وإنما من أب عربي وأم ألمانية يدعى «قادر». ثم الخبير
لانز بيرنبك .
خلع معطفه والقفازين ووضعهما في جيبي المعطف، ودس الكوفية في كمي المعطف ثم علقه فوق مشجب في مدخل القسم وفوقه القبعة. وبدأ العمل على الفور.
لم يكن للقسم من مهمة غير ترجمة الأنباء من الألمانية إلى العربية. ولم يكن المطلوب منه الترجمة، وإنما التحرير، وبعبارة أخرى: التأكد من سلامة الصياغة باللغة العربية. وقد بدأ على الفور بأنباء الاعتداءات الإسرائيلية على
الأردن ، والهجوم الشامل لثوار فيتنام الجنوبية، واحتفالات
القاهرة
بعيدها الألفي، حيث بلغ عدد سكانها قرابة الخمسة ملايين من ثلاثة وثلاثين مليونا هم تعداد السكان في كل
مصر .
وبالطبع كان أهم خبر في نشرة اليوم هو تصريح رئيس مجلس الدولة في «أ
لمانيا الديمقراطية ، وزعيم حزبها الحاكم
فالتر أولبريشت
الذي قال فيه: إن انتصارنا برهان قوي على تفوق النظام الاشتراكي على الرأسمالي. وتلته تحليلات عن أهمية التصريح ومعناه، ثم تعليقات الصحف المحلية والعالمية (التي لا تتعدى صحف البلدان الاشتراكية) عليه. يليه في ترتيب الأهمية تصريح للأدميرال
جورشكوف
قائد الأسطول السوفييتي بمناسبة وجود الأسطول في
البحر الأبيض ، قال فيه: إن علم الأسطول السوفييتي يرفرف اليوم بفخار فوق بحار العالم، وسوف تدرك
الولايات المتحدة - إن عاجلا أو آجلا - أن السيادة على البحار لم تعد وقفا عليها. ثم تقرير عن تدهور الموقف العسكري الأمريكي في
فيتنام
بعد أن أصبح الثوار على وشك اقتحام العاصمة
سايجون ، يليه خطاب للرئيس
جمال عبد الناصر
تحدث فيه بصراحة عن المعاناة النفسية القاسية منذ هزيمة 67.
خبران حفظهما عن ظهر قلب؛ لأنهما تكررا في الأيام التالية عدة مرات؛ الأول عن
برج التليفزيون
في
برلين
الذي بلغ ارتفاعه النهائي365 مترا في أكتوبر الماضي، وصار أعلى برج من نوعه في العالم بعد برج تليفزيون
موسكو ، وسيفتتح مطعمه في مناسبة الذكرى العشرين لإنشاء جمهورية
ألمانيا الديمقراطية
التي تحل في السابع من
أكتوبر
القادم.
الخبر الثاني عن معرض
لايبزيج
الربيعي القادم الذي يشارك به أكثر من عشرة آلاف عارض، من خمسة وستين بلدا بينهم أربعة آلاف وخمسمائة عارض من
ج. أ. د (الحروف المختصرة لجمهورية
ألمانيا الديمقراطية ).
اكتشف
صادق
أن المترجمين لا يعرفون غالبا الفارق بين صيغتي المضارع والماضي في اللغة العربية، ولا بين المفرد والجمع، خاصة عند كتابة الأرقام بالحروف. ملأ الصفحات بتصحيحاته وظهرت علامات الامتعاض على وجوه أصحابها، ثم انتقلت إلى الخبير الذي اعتمد الترجمة، وتأكد من أن تصحيحات
صادق
لم تخل بالمعنى. وناولها بدوره لعاملتي
التليبرينتر .
بعد أيام قليلة صار في وسعه أن يراجع الأخبار وهو مغمض العينين، فماذا يفعل 20 مدرسا من
الجمهورية العربية المتحدة (الاسم الذي عرفت به
مصر
في تلك الفترة) جاءوا في دورة دراسية لمدة عشرة شهور؟ ليس غير التعرف على الحياة الثقافية والمنجزات الاشتراكية للجمهورية
الألمانية الديمقراطية ، والإعراب عن إعجابهم بنجاحاتها. ومثلهم فلاحون سوريون يصرحون أيضا بإعجابهم وبأن التخطيط العلمي للإدارة والعلاقات الممتازة بين الناس هما من أهم أسباب التغييرات الحاصلة في
ألمانيا الديمقراطية . لكن هذه النمطية في الأخبار لم تفل من عزم الخبير الألماني الذي كان يعمل في مثابرة تستحق الحسد.
كان قصيرا بدينا، بعوينات طبية، ووقار جلي، وساق معطوبة من شلل أطفال، ومعرفة بعدة لغات بينها العربية التي ترجم منها عدة مؤلفات «عبر الترجمات الفرنسية». وتميز أيضا بثقافة موسوعية، وكان يعمل مديرا للنشر الأجنبي بدار نشر تسمى
فورهوت فرلاج ؛ أي «دار الطليعة». وأعير إلى القسم العربي بالوكالة ليتولى مراجعة ما يترجمه المترجمون من الألمانية إلى العربية، ويتحمل المسئولية عن ركاكة أسلوبهم. وقيض له أن يتحمل مسئولية جديدة.
2
وجد
لانز بيرنبك
في الشاب العربي تربة صالحة وأرضا بكرا لزرع أفكار الثقافة التقدمية والكلاسيكية أيضا؛ فلم يكن الشاب يعرف مثلا أن
باخ
كتب موسيقاه وسط الضجة الصادرة عن أطفاله الاثني عشر، أو أن الشاعر الروسي العظيم
بوشكين
من أصل أفريقي.
انطلقت البداية من مكان ملائم، مطعم النادي الروسي بشارع
أونتر دين ليندن
بجوار الجامعة؛ حيث اصطحبه بعد العمل للاستمتاع بحساء
السوليانكا
اللذيذ مع كأس
فودكا
وبعض المعلومات عن حياة
لينين . وفي اليوم التالي إلى مطعم قديم يقدم الأكلة الشعبية الكلاسيكية المؤلفة من كوارع الخنزير الشهية، أضاف إليها معلومات قيمة عن
توماس مان . وعظماء
برلين ؛
ليسنج
و
هومبولت
و
هيجل ، و
كارل ماركس
بالطبع. ولا بد أنه كان يفكر في أنه يواصل التقليد القديم الذي يتولى فيه أحد المثقفين الكبار احتضان شاب أجنبي وتثقيفه ليقوم بعد ذلك بنشر الثقافة في بلده الأم.
دارت عمليات التثقيف بوسط المدينة حول مقر الوكالة بطبيعة الحال؛ الشارع الطويل هو
فريدريش شتراسه . قلب المدينة وبه محطة القطار ونقطة عبور إلى
برلين
الغربية، ويعلوه جسر المترو القادم من الجزء الغربي، وفي جدار الجسر لوحة مضيئة بالأخبار المتحركة لا يبالي بها أحد، بسبب أخبارها التي لا تجاوز تصريحات رئيس الدولة والحزب واجتماعات رسمية مع ممثلي دول أخرى لا تسفر إلا عن «التفاهم المتبادل». وعلى بعد خطوات مسرح
برلينر انسامبل
الذي قدم عليه
بريخت
أشهر أعماله قبل الحرب، وهناك أيضا
الرايخستاج ، مبنى البرلمان، الذي استغل
هتلر
حريقه ليفرض قبضته الحديدية على البلاد ملصقا تهمة الإحراق بالشيوعيين.
وعلى الجانب الآخر من الشارع منزل أقام به
كارل ماركس
بعض الوقت، تليه وكالة الأنباء، ثم أشهر نقطة هي التقاطع مع شارع
أونتر دين ليندن (تحت شجر الزيزفون)؛ حيث الفندق الذي يحمل نفس الاسم (والذي أخذت ردهته وباره وقتا طويلا منه، وهدم بعد ذلك في عام 2006م).
كان هذا الشارع الذي يقطعه حائط
برلين
في المنتصف يمثل مركز المدينة في
برلين
ما قبل الحرب. أقيمت فيه العروض العسكرية البروسية، ومن بوابة
براندنبورج ، التي تنتصب فوقها عربة مذهبة تجرها أربعة خيول، مر
نابليون
في موكب النصر، وعندها تحصن الثوريون عام 1848م، وعام 1918م. وعبرها انطلق الآلاف لخوض الحرب العالمية الأولى وهم يهللون ويطلقون صيحات النصر، وأشعل النازيون عام 1933م أكواما من الحطب لحرق الكتب، وتقدم جنود الجيش الأحمر في نهاية الحرب الثانية وهم يخوضون المعارك الضارية من بيت إلى بيت. وربما لهذا أقيم قرب البوابة مبنى السفارة السوفييتية وعلى صارية العلم المنتصبة فوق برج يشبه المعبد رفرفت النجمة السوفييتية، واستقر
لينين
في تمثال نصفي في الحديقة الأمامية خلف سياج من القضبان الحديدية الغليظة. ولم يلبث الجدار الذي أحاط
برلين
أن وضع نهاية للشارع عند بوابة
براندنبورج
حتى سقط في عام 1990م، كما سقطت الجمهورية الديمقراطية نفسها، واحتفل الألمان بتحقيق الوحدة بين الشرق والغرب.
بعد التقاطع الشهير يمتد شارع
فريدريش شتراسه
إلى نقطة الحدود الأمريكية،
شارلي شك بوينت ، المخصصة لعبور السيارات؛ حائط عال من الأسمنت على طوله أبراج مراقبة مزودة بالأنوار الكاشفة، حواجز ملونة بالأحمر والأبيض، يتخلل كل متر منها حراس حدود وجمارك في أرديتهم العسكرية الرمادية. وعلى جانبي الشارع منازل وحوانيت متهالكة تظهر آثار طلقات المدافع الرشاشة في جدرانها، بينما تغطي نوافذها صور أبرز ممثلي العمل الاشتراكي. ولا يكاد يظهر أثر المارة (فيما عدا سيارات
المرسيدس
و
الفورد
و
الرينو
القادمة من الشطر الغربي) فلا أحد يجرؤ على الاقتراب من النقطة التي تبدو منها تفاصيل الجانب الآخر إلى حيث يتطلع قاطنو الجزء الشرقي في شجن.
بدأ
بيرينبك
برنامجه بدروس في اللغة الألمانية، واستخدم أسلوبا ثوريا؛ فبدلا من كتب تعليم اللغة التقليدية استعمل رواية
هينريش مان
الكلاسيكية،
البروفيسور أونرات
التي مثلتها فيلما
مارلين ديتريش
باسم «الملاك الأزرق». وفي صحبة البيرة والكوارع - في المطعم القريب من ميدان
كارل ماركس بلاتز - بدأ تعليم السطر الأول الذي تميز بإيقاع جميل (لأنه كان يسمى
رات (أي المستشار) لقبته المدرسة بأجمعها
أونرات (أي الوسخ)).
وستستمر هذه الدروس في مطاعم
برلين
المتنوعة، تدور خلالها مناقشات عديدة، وبالأحرى إيضاحات من
لانز
لوجهة النظر الحزبية بشأن أحداث
تشيكوسلوفاكيا
ولعملية البناء المستمرة في الجمهورية الديمقراطية. وتتخللها معلومات موسوعية من قبيل أن
كارل ماركس
وقع في حب فتاة أرستقراطية تكبره بأربع سنوات وعمره 16 سنة، ثم تزوجها بعد ثماني سنوات، ونشط في الحركة الاشتراكية السرية، ثم انتقل للحياة في
لندن
وكانت النقود مشكلته؛ فقد رفض أن يكون آلة لجمع المال، وعاش هو وأسرته على عائد كتاباته ومساعدات الأصدقاء. وانتحر اثنان من أبنائه السبعة. وكان يستحم في النادر؛ ولذا عانى طوال العشرين سنة الأخيرة في حياته من البثور. وكان سعيدا في زواجه الذي لم تمسه فضيحة واحدة عدا علاقته بخادمة المنزل، التي أثمرت طفلا لم يعترف بأبوته. وكان ضد الزواج البورجوازي؛ لأنه يضع المرأة في حالة عبودية، وتثير حنقه دائما عادة ضرب الزوجات.
ومن الطبيعي أن يحتل
أدولف هتلر
مكانا طليعيا في موسوعة
لانز ؛ فأشهر علاقة عاطفية له كانت مع
إيفا براون
التي تزوجها قبل انتحارهما معا. وكانت تصغره بثلاث وعشرين سنة، لا يعيبها سوى صغر فرجها الذي يحول بينها وتحمل الجنس العادي؛ فتحملت عدة جراحات وعلاجات لفترة طويلة، لكن حبه الحقيقي هو ابنة أخته غير الشقيقة ذات الواحد والعشرين ربيعا، التي اشتكت لأصدقائه قائلة : «إن خالي وحش، ولا يمكن أن تصدقوا ما يجبرني على فعله.» ومع ذلك تحملته عامين كانت خلالهما تقيم علاقات جنسية مع أي شاب تتاح لها فرصة معرفته بدءا من الحرس الخاص بها. وأخيرا أطلقت النار على نفسها من مسدس الخال. ولم تكن أولى ضحاياه؛ فقد كانت له علاقات متعددة انتهت نهايات فاجعة، لكنه لم يسلم من شائعات بأن تفانيه في العمل راجع إلى عنته. وراجت نكتة تعليقا على الوضع الذي يأخذه أثناء الخطابة؛ إذ يضع يديه فوق منفرجه، مفادها أنه يخفي آخر عاطل في
ألمانيا .
من
هتلر
إلى
لينين . أنصت
صادق
في شغف وتلهف، لكن البروفيسور بدا مترددا، ثم قال في ابتسامة غامضة وهو يتجنب النظر إلى تلميذه: إن الزعيم الروسي وهب كل حياته للثورة.
إنسيكلوبيديا البروفيسور تضمنت عديدا من الرموز الفنية؛ فالموسيقار الشهير
برامز
كان شديد الارتباط بأمه، وأغرم بزوجة أستاذه الموسيقار
شومان
وبكثير من النساء، إلا أنه لم يمارس الجنس مع أي منهن، وإنما كان ينام مع العاهرات، وظل أعزب حتى وفاته. والرسام
جوجان
كان متزوجا ويعمل بنجاح في بورصة
باريس ، عندما قرر وعمره 36 عاما التفرغ للرسم، فدمر زواجه وحكم على نفسه بحياة من الفقر المدقع، وهاجر إلى
تاهيتي ؛ حيث عاش حياة نشطة جنسيا حتى وفاته بالزهري وهو في الخامسة والخمسين من عمره. وتنسب إليه أقوال مضيئة حقا، منها أن المرأة ستصبح حرة، وربما أكثر صحة أيضا عندما لا يكون شرفها تحت عانتها، وأن الخطيئة الوحيدة هي أن يبيع رجل أو امرأة الجسد.
ومن
جوجان
إلى
شارلي شابلن
الذي كان يعشق الفتيات الصغيرات، ونتج عن ذلك أربع زيجات و11 طفلا وحريم من العشيقات. وكان يلقب نفسه بأعجوبة العالم الثامنة، ويزهو بسمعته في
هوليوود
عن حجم عضوه، وأنه آلة جنسية قادرة على ست مرات قذف متتالية لا يفصل بينها غير دقائق راحة!
لكن أحايث
لانز
التثقيفية لم تصرف
صادق الحلواني
عن هدفه الثقافي الأسمى، بل أججته. وكان كل ليلة عندما ينام ويطفئ النور يترك الباب مردودا دون أن يغلقه بالمفتاح ليسهل على شقراء المنزل الدخول بالليل طبقا للسيناريو التقليدي في الأفلام وحكايات الصحاب. ولم يخب ظنه مطلقا؛ ففي إحدى الليالي طرق بابه، وعندما فتحه وجدها أمامه في قميص نوم كشف جانبا كبيرا من ثدييها. قالت بضع كلمات بالإنجليزية لا بد أنها تدربت عليها طويلا: بابا يبلغك أنه في حاجة إلى الغرفة ابتداء من الغد، وعليك الانتقال إلى مكان آخر.
3
نقلته الوكالة إلى غرفة مفروشة في أحد منازل ما قبل الحرب - التي تتميز بمتانة البناء ورسوخه - بضاحية
برنسلاوربرج
العمالية في مسكن أرملة تدعى
فراو فرويليش ؛ أي «السيدة المرحة». لم يكن بها شيء من المرح. كانت في الستين من عمرها، ذات عينين مجنونتين وشعر أشقر قصير. وظن أنه سيتعلم اللغة من الحوار معها. لكنها لم تكن تكلم إلا نفسها بصوت عال وهي في مطبخها الفسيح. وتوترت العلاقات بينهما مرة عندما اعترضت على استحمامه قبل النوم في ساعة متأخرة؛ ذلك أن المواسير قديمة متهالكة، وانسياب المياه يحدث ضجة كبيرة، وهناك اتفاق عام بين السكان على عدم إحداث أي ضجة بعد العاشرة مساء ليتمكنوا من النوم ويستيقظوا منتعشين للمساهمة في البناء الاشتراكي.
وذات يوم وجدها قد اعتنت بشعرها عند الكوافير، ووضعت شيئا من الروج على شفتيها، وقالت: إن رجلا سيزورها، وربما تزوجا وانتقل للحياة معها هنا. وجاء الرجل الذي كان في السبعين أو أكثر قليلا، وبعد أن جلس في حجرتها بعض الوقت قام يتفقد أنحاء الشقة ويتفحص المقاعد وأدوات المطبخ. ولم يعد بعد ذلك.
أعد
الحلواني
لنفسه برنامجا ثقافيا من الدرجة الأولى؛ أن يتعلم اللغة، ويتكيف مع الطعام المكون من نباتين رئيسيين هما الكرنب والبطاطس، ويخلو من خضراوات طازجة للسلطة، وعلى الشاي والبن المحليين؛ لأن الشاي والبن الممتازين ومعهما بقية اللذائذ مثل السجائر الأمريكية والفول السوداني المملح والخمور المحترمة لا توجد إلا في
الإنترشوب
الذي لا يتعامل بغير المارك الغربي والدولار (المارك الغربي في السوق السوداء بثلاثة ماركات شرقية)؛ أي يعيش كما يعيش الألماني العادي ؛ يشرب البيرة
البلسنر ، ويدخن سيجارة
كلوب
التي لا تختلف كثيرا عن
البلمونت
التي كان يدخنها في
القاهرة ، وتكون مثلها مثقوبة أو مكتومة، ويستخدم ورق التواليت.
ككل المصريين والعرب والشعوب المتخلفة عموما كان يعتمد على المياه في تنظيف نفسه بعد الانتهاء من طقس التواليت؛ ولهذا السبب توافر صنبور خاص يرسل رشاش المياه إلى المكان المطلوب، وفي حالة عدم توافر هذا الصنبور توجد زجاجة مملوءة بالمياه جاهزة للاستخدام. لكن الألمان لم يعهدوا هذه الطريقة، وكانوا يعتمدون على ورق خشن داكن اللون.
وفي أحد الأيام اكتشف
الحلواني
بقعا من الدم في الكيلوت. ذهب منزعجا إلى طبيبة الوكالة، وبعد أن دست يدها المقفزة في استه لتتأكد من الشكوك التي خامرتها، ابتسمت ونصحته بأن يشتري ورقا ناعما من
برلين الغربية ؛ لأنه غير متوافر في الشرقية.
هكذا اضطر إلى كسر التزامه والعودة إلى زجاجة المياه المتخلفة. لكنه حافظ على بقية الالتزامات، وعلى رأسها مواعيد العمل، خاصة بعد ما تعرض له من حرج.
فقد استيقظ مرة متأخرا على غير العادة، وانتفض يتفحص المنبه. وجد أنه نسي ضبطه على السادسة صباحا. وكانت الساعة السادسة والربع. هرع إلى الحمام، ارتدى ملابسه بسرعة، بما فيها المعطف والقبعة والوشاح والقفاز، وأسرع إلى الخارج. ركب الترام، ووضع عشرين
فينيجا (مليما) في صندوق التذاكر. وغادره في شارع
فريدريش شتراسه .
مشى بسرعة محاذرا الانزلاق فوق طبقة الثلج الأملس الخفيف التي غطت الأرض. وصل مبنى الوكالة في الثامنة وعشر دقائق. خاطب الحارس:
جوتن مورجن ، صباح الخير، فرمقه هذا في لوم. أبرز بطاقة هويته للحارس الذي يعرفه جيدا، لكنه لم يسمح له بالمرور إلا بعد أن تفحصها وقارن بين وجهه وصورته. صعد إلى الطابق الثاني وهرع إلى القسم العربي.
استوقفته شقراء طويلة تعمل بالقسم الإسباني. سألته بابتسامة خبيثة: لماذا تأخرت؟
لجأ إلى إجابة مصرية: المترو هو الذي تأخر.
قالت: ابحث عن حجة أخرى. منذ إنشائه عام 1936م، لم يتأخر مرة واحدة. وضحكت.
لم يكن قد تناول إفطاره بعد، فانتهز أول فرصة للنزول إلى الكانتين في الطابق الأرضي؛ حيث تتواجد الشقراوات والسمراوات، وتتيح الفساتين القصيرة تأمل الركب والأفخاذ. وقف في طابور طويل أمام عجوز شمطاء تبيع شرائح الخبز المغطاة بالسلامي أو الجبن أو شرائح الخيار والفجل الأحمر اللذين لا يتوفران إلا في المناسبات، مع أكواب السائل الشبيه بالقهوة.
في هذا الكانتين تعرف بأول
كاترين ؛ لم تكن شقراء، وإنما بشعر أسود ووجه خمري وعينين مسبلتين. ولحظ بعد أيام أنها تهبط إلى الكانتين في مواعيد تواجده. وكان محصوله من اللغة قد ازداد بسرعة؛ مما سمح له أن يدعوها لزيارته في منزله، فوافقت على أن تخرج معه من الوكالة إلى منزله مباشرة، ولكن في يوم آخر؛ لأنها تأخذ طفليها من دار الحضانة التابعة للوكالة عندما تنتهي ساعات العمل.
في اليوم الموعود خرجت معه وركبا الترام. وأعفاه جهله باللغة (بالكاد كان يقول:
جوتين مورجن ، صباح الخير، و
فيدرزيهين ، إلى اللقاء، ودائما بسهولة،
إيش كنت نيشت ، لم أعرف) أو جهلها بالإنجليزية من حوار لا معنى له. وكان مذهولا من البساطة واليسر اللذين تم الأمر بهما دون الحاجة المصرية للبحث عن مكان أو التفكير في وسيلة لتجنب الجيران. ولم تكن
فراو فرويليش
في المنزل عندما وصل، فسحبها إلى حجرته وألقاها فوق الفراش، ثم رفع رداءها إلى بطنها.
أمينا لبرنامجه الثقافي والالتزام بأن يعيش كما يعيش الألمان طبق ما تخيله تصرفا ألمانيا - أو على الأقل أوروبيا - فدفن رأسه بين فخذيها وأخذ يقبلهما صاعدا إلى أعلى. وسواء أكان السبب عدم الاغتسال أو مشاكل صحية ما، فإن الرائحة الشنعاء التي صادفته أبعدت رأسه وأفقدته رغبته، بل ودفعته إلى الإقلاع في مستقبل حياته - ولو لفترة - عن هذا الدرب الثقافي.
لم تفقد الفتاة رغبتها، وبدأت تتردد على القسم العربي بحجج مختلفة وتتطلع إليه بعيون والهة دون فائدة.
التجأ
صادق
إلى مفكرته، وقرر أن يتصل ب «ليز». ولم يكن يعرفها، وأعطاه أحد الأصدقاء في
القاهرة
رقمها ليتصل بها مشفوعا بوصفها بأنها مثل قطعة قشدة. وكانت قد زارت
مصر
في رفقة وفد صحفي كمترجمة؛ لأنها تعرف العربية.
تلفن لها وتواعدا على اللقاء، ودعاها إلى أحد المطاعم القريبة من الوكالة. وتعرف عليها على الفور؛ لأنها فعلا قشدة. ووجد معها شابا ألمانيا وسيما، قالت: إنه زوجها. وتحدثا بالإنجليزية؛ لأن عربيتها تكشفت عن مكسرة. ولم يتمخض اللقاء ولو عن وعد بلقاء ثان.
لم ييأس أو يمل، وكما في الأفلام جاء الفرج.
ففي أمسية قضاها في المنزل يراجع دروس اللغة الألمانية ويتمنى أن يحدث شيء (كما هو مألوف في
مصر )؛ تهبط جارة طالبة بعضا من الملح أو تأتي بائعة زبدة أو فاكهة أو لبن. وكأنما استجيب إلى طلبه؛ فقد دق جرس الباب ولم ترد
الفراو ، السيدة أو المدام، على الطارق، واكتشف أنها ليست بالمنزل، ففتح الباب الذي يقع إلى جوار غرفته مباشرة. وجد أمامه عجوزا قصيرة باسمة سبعينية متبرجة بمكياج ثقيل. سألت عن
الفراو ، فقال لها: إنها غير موجودة، ودعاها للانتظار في غرفته، ثم عرض عليها كأسا من زجاجة النبيذ الأبيض التي أعدها لهذه المناسبات. وبدأ يتحدث معها بألمانية مكسرة، وهي تجاريه في الشراب حتى أوشكا على الانتهاء من الزجاجة.
ما حدث بعد ذلك يحتاج إلى تفسير؛ فإما أن العجوز أثارت فيه مشاعر الطفولة أو أن النبيذ الرديء «لأنه محلي» قد أدار رأسه، المهم أنه وجد نفسه يحتضن العجوز ويحاول تقبيلها وهي تدفعه عنها. أكد لها أنه أحبها من أول نظرة، واتفق معها على أن يذهبا إلى
الزوو ، حديقة الحيوان، في يوم الأحد، وأعطاها رقم تليفونه في الوكالة.
وقبل أن يحل يوم الأحد دق تليفون الوكالة. وكان هو المطلوب، فتناول السماعة ليأتيه صوت ضعيف. - أنا
فراو إيلين .
قال مرحبا: ماذا أفعل لك؟
قالت: أنسيت؟ ألم تعدني بأن نذهب سويا إلى
الزوو
يوم الأحد؟
لأنه كان في كامل وعيه اعتذر بارتباطه بموعد سابق. ولم يذهب إلى
الزوو . وإنما هبط إلى الكانتين حيث كانت فتاة بميني جيب من قماش قطيفة بني اللون وساقين رائعتين، تأتي كل يوم في نفس الموعد مع شاب بدين كالخنزير لا يكف عن الكلام بجدية وهي تنصت إليه في اهتمام، بينما يتفحص صاحبنا -
صادق - ساقيها وفخذيها المكشوفتين. وما يلبث بقية رفاق القسم أن يلحقوا به.
أحاديث الكانتين كانت تدور حول المعلومات المتوافرة عن الفتيات (فعرف أن
كاتيا ، قطة القسم ذات الشعر الأسود العاملة على
التليبرينتر
متحفظة وبعيدة المنال، لا تستسلم للمداعبات أو الدعوات، وخاصة لأنها متزوجة من مدير أمن المبنى الذي تحتم عليه وظيفته المرور بأنحائه، وخاصة القسم الذي يوجد به عدد من الذئاب العربية)، وعن مشاكل التعامل مع الألمان، وخلاصة تجارب سنين طويلة قضاها أصحابها طلبة أو لاجئين ثم محررين في الوكالة. ولم تكن أولى المشاكل التي واجهها مع الألمان وإنما مع الأكراد.
4
في بادرة تعبير عن حسن النية أخذه
فخري
الكردي في إحدى الأمسيات إلى مرقص التليفونات، قرب نهاية الطرف الثاني من
فريدريش ستراشه . مبنى قديم من طابقين يعود إلى بداية القرن، شأنه شأن المرقص ذاته. موائد عليها أجهزة تليفون متصلة ببعضها بعضا. ترفع السماعة وتطلب رقم إحدى الجالسات إلى أي مائدة وتعرف هي على الفور الرقم الذي يطلبها، فتتطلع إلى صاحبه وإذا أعجبها أعلنت موافقتها، فيتقدم إليها وينتقلان إلى حلبة الرقص.
قضى وقتا طويلا في استعراض الموجودات. وعندما استقر على واحدة شقراء بالطبع ذات رداء قصير للغاية تظهر منه ساقان بديعتان خاطبها. ويبدو أنه لم يعجبها أو كانت مرتبطة بالرقصة التالية فقد اعتذرت. اختار واحدة ثانية كانت أطول منه قليلا وقام يرقص معها، ولأنه لا يجيد الرقص داس على قدمها فطلبت منه غاضبة أن ينتبه، فأكمل الرقصة بغير حماس وعاد إلى مقعده كسيف البال.
كانت هذه هي اللحظة التي قرر فيها أن يتعلم الرقص على الأصول. عاونه
فخري
في اختيار مدرسة للرقص من إعلانات الصحف. وكانت قريبة من منزله. ذهب في موعد الدرس. قاعة واسعة في منزل قديم، وبار في جانب، وحوالي عشرين شابا نصفهم فتيات ويجمع بينهم جميعا أنهم يصغرونه بعشر سنوات على الأقل. وبدأ المدرس، صاحب المدرسة، وهو كهل ذو عوينات مقعرة، حديثا قصيرا عن قواعد السلوك عند الرقص، ثم باع لهم كتيبا صغيرا في حجم الكف من 46 صفحة يحمل تحذيرا بعدم النقل، أصدره الاتحاد المركزي لمعلمي الرقص في جمهورية
ألمانيا الديمقراطية ، وغلافا عليه رسم بدائي لشاب ينحني أمام فتاة بسطت جوبتها حولها وانحنت بدورها استعدادا للرقص معه.
أقبل على الكتيب يدرسه بمعونة
فخري ؛ قواعد التحضر والتهذيب: كن مضبوطا لكن طبيعيا. كن مستعدا للمساعدة. كن دقيقا في مواعيدك. احترم المرأة والكبار. كيف تتعرف بالآخرين، السلوك المهذب عند الرقص، كيف تخاطب النادل، أصول الشراب والتدخين، والملابس وكتابة الخطابات وقواعد السلوك في قاعات الموسيقى والمسرح.
وقبل أن يبدأ الدرس أخرج المدرب صندوقا من زجاجات البيرة الخفيفة، وبدأ يبيعها للشبان الذين كانوا في الغالبية خجولين، ويحتاجون إلى رافع للمعنويات مثله تماما، ثم بدأ الدرس ورافقته فيه فتاة قصيرة ممتلئة في السابعة عشرة.
تردد على المدرسة بعض الوقت وتلقى دروسا في
التانجو
و
الفالس
والرقصات الحديثة زاملته فيها نفس الفتاة. وبعد فترة شعر بأنه أصبح قادرا على المجازفة، واشتاق إلى تطبيق ما تعلمه. لم تكن فتيات الدرس يفين بمطلبه؛ لأنه كان يتطلع إلى النساء الناضجات.
وجد بغيته في القسم الإنجليزي الذي يقع خلف الفاصل الخشبي مباشرة. كان العاملون به ثلاثة «يتقنون الإنجليزية بالطبع» أحدهم رجل. اتجه إلى
إيزولدا ، الشقراء الطويلة الرقيقة الرشيقة، وعرض عليها أن يدعوها للعشاء والرقص في عطلة الأسبوع، فاحمر وجهها وقالت: هذا الأسبوع عندي عمل، والأسبوع القادم ستأتي أختي من
برلين الغربية ، والأسبوع الذي بعده سيأتي عمي، والأسبوع التالي سأسافر إلى أمي في
درسدن . لا بأس إذن بعد شهر ونصف!
لم يكن التخطيط طويل الأمد من طبيعته الشرقية التي تتعجل النتائج، فشكرها ولم يقترب منها بعد ذلك ولا بعد شهر ونصف.
لكنه وجد في القسم الإنجليزي شيئا آخر؛ فلأن الصحف العربية والإنجليزية لم تكن متوافرة إلا في
برلين
الغربية، دفعته الرغبة في معرفة أنباء العالم الخارجي إلى الاعتماد على الصحيفة الإنجليزية الوحيدة المسموح بها وهي
مورنينج ستار
الصادرة عن الحزب الشيوعي الإنجليزي؛ ولهذا السبب لم تلحقها المصادرة، رغم أنها كانت تعارض التدخل السوفييتي في
تشيكوسلوفاكيا . كل ما لحقها هو منع تداولها وقصر قراءتها على دائرة ضيقة من الموثوق بهم، والذين تتطلب مهنهم ذلك، ومنهم العاملون في القسم الإنجليزي فقط. اختار منهم الفتاة الثانية،
أولريكا ، وهي متوسطة الطول والجمال ذات شعر أسود قصير «ألا جرسون»، وخاتم زواج في إصبعها. طلب منها أن يستعير الصحيفة، فذكرت له أن قراءة الصحيفة الإنجليزية ممنوعة لغير العاملين الثلاثة في القسم. لمس حرجها فوعد بألا يقول لأحد. وطوى الصحيفة وأخفاها خلف ظهره وعاد بها إلى مقعده.
قرأ التعليقات المستمرة عن الإصلاحات التي اقترحها الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي بزعامة
دوبتشيك ، ثم لفت نظره تعليق نقلا عن
الصنداي تايمز
يتحدث عن بزوغ نجم المنظمات الفلسطينية التي أصبحت منذ حرب الأيام الستة عاملا يحسب حسابه.
تكرر اقتراضه للصحيفة في اليوم الثاني والذي بعده، إلى أن تشجع ذات يوم وعرض عليها أن يلتقيا خارج العمل. لم يبد عليها أي انفعال، وإنما اكتسحت القاعة ببصرها في حذر لترى إذا كانت هناك عيون ترقبهما، ثم سألت: لماذا؟
قال: لنتبادل الحديث.
قالت: لا أظن أن الحديث معي مهم.
لم يفل الرد البارد عزيمته.
قال: لا أجد من أتحدث معه؛ فلا أحد يعرف الإنجليزية.
قالت: عندك رفاقك العرب.
قال: لكني أريد أن أتحدث معك أنت.
قالت في حسم: ليس عندي وقت.
انسحب يلعق جراحه كما يحدث في الغابات، وعاد إلى رفاقه العرب وإلى موقعة الاثني عشر (لا الأمعاء وإنما الأرقام).
5
صحبه
فخري
أيضا إلى
برلين
الغربية بعد تردد كبير من جانب
صادق ؛ فقد كان الألمان العاديون محرومين من الانتقال إلى هناك على عكس الأجانب. ولم يشأ
صادق ، أمينا لبرنامجه الملتزم، أن يتمتع بما يحرم منه الألماني العادي. رغم هذا فإن الإغراء كان قاهرا، فذهب بعد أن استبدل ماركات شرقية بالغربية، من
فخري
بالطبع، الذي لم يمنعه انتماؤه إلى حزب يساري - على علاقة وطيدة بمثيله الألماني - من تحقيق بعض المكاسب الجانبية.
عبرا من نقطة الحدود في محطة
فريدريش ستراسه ، واستقلا قطار
ألاس بان ، المترو العلوي، وغادراه بعد محطات معدودة في محطة
الزوو ، وخرجا إلى شارع
كورفستردام
الشهير، وإلى حشود هائلة من الشباب، ترفع الأعلام الحمراء.
وجدا نفسيهما وسط مظاهرة كثيفة من أجل
فيتنام
يقودها شاب بشارب ضخم يردد في ميكروفون محمول: «هو هو هو»، إشارة إلى
هوشي منه . تأمل
صادق
الفتيات اللاتي ارتدين معاطف سوداء طويلة،
ماكسي ، وأحطن جبهاتهن بعصابات بيضاء عريضة، والشبان مرسلي الشعور في بنطلونات ضيقة وبلوفرات بياقات مطوية حول الرقبة (الذين لم تمر سنوات قليلة إلا وكانوا قد قصروا شعورهم وارتدوا ملابس كاملة على أحدث موضة، وأمسكوا بحقائب السامسونايت، بعد أن نجحت المؤسسة في استيعابهم).
تابع بعينيه فتاة طويلة بدت في منتهى الأناقة بمعطف أسود
ماكسي
وبوت، وتمسك بمسدس أطفال، وتمشي بخطوات عسكرية بجوار شاب طويل الشعر يلتحف ببطانية. كانا يرفعان لافتة تقول: «لنمارس الحب لا الحرب»، ويطلقان فقاعات الصابون من دائرتين بلاستيكيتين صغيرتين. وخلفهما جماعة رفعت راية سوداء موشاة بالمطرقة والمنجل، شعار الفوضويين من أتباع
باكونين . وعلى جوانب الطريق وقف كبار السن وأصحاب الحوانيت يهزون رءوسهم في استنكار.
التقت عينا
صادق
بعيني صاحب أحد هذه الحوانيت الذي لوح له صائحا: عد إلى بلادك.
استجاب
صادق
للنداء وجذب
فخري
بعيدا عن المظاهرة، ليقعا فريسة مظاهرة أخرى قليلة العدد من شبان وفتيات حليقي الرءوس يلتحفون بملاءات بيضاء ويدقون دفوفا صغيرة على وقع نداءات إيقاعية تبين منها
صادق
لفظة
كريشنا . دفع أحدهم في يده بورقة مطبوعة معنونة: «إعلان الجمعية الدولية لمريدي
كريشنا . وتضمن الإعلان حديثا عن «الحقيقة المطلقة» التي ينشدها المريدون المذكورون.
انفصلا عن أصحاب الحقيقة المطلقة، وجذب
صادق
صاحبه إلى حانوت لبيع الكتب لمح فيه جانبا باللغة الإنجليزية. قلب طويلا بين أحدث المطبوعات واختار رواية
نورمان ميلر
الجديدة بعنوان «جيوش الليل»، ثم خرجا من جديد إلى الشارع الحافل، وإلى الكنيسة المزدوجة.
فالكنيسة الأصلية التي بناها القيصر
فيلهلم
على الطراز القوطي دمرتها غارات الحلفاء، ورأت الحكومة الألمانية الغربية بعد الحرب أن تبقيها على حالها المدمر تذكرة لمن يتفهمون، وألصقت بالبقايا كنيسة جديدة من الرخام والزجاج. وانتصر الزجاج مرة أخرى، مصحوبا بالصلب هذه المرة ، في ناطحة سحاب تعلوها عبارة
أوروبا
سنتر» وتكللها نجمة دوارة ؛ شعار
مرسيدس بنز .
اتجها إلى جامعة
برلين
الحرة. ووجدا مدخلها مكتظا بحشود الطلبة. ومن مكبرات الصوت ترددت أغاني
البيتلز
و
بوب ديلان . وتعرف
صادق
على أغنية الأخير؛ لم أحصل على شيء بالمرة يا أمي/إني أعيش متعبا خائر القوى.
كانت القاعة الرئيسية للجامعة ممتلئة عن آخرها. وإلى منصة صغيرة في صدرها أحاط ثلاثة من الشبان ذوي الشعور الطويلة بفتاة ضئيلة الحجم في ملابس من الجلد الأسود انطلقت تتحدث في حماس. وأعلنت في ثقة (والعهدة على الترجمة التي قام بها
فخري ) أن عصر المؤلفات الأدبية والفلسفة قد انتهى، وأن العمل السياسي هو الفن الوحيد.
وضح أن العنصر النسائي هو المسيطر على الموقف؛ فلم تكد الفتاة تنتهي وتعهد بقضيب الميكروفون إلى أحد الشابين حتى انتزعته فتاة أخرى أكبر سنا وأقوى عضلا وانطلقت تبث جوانحها: كنت أدهن جدران منزلي فعنفتني إحدى اليساريات، مستنكرة لامبالاتي بالآلاف الذين تقتلهم قنابل
النابالم
في
فيتنام
وملايين الجياع والمعذبين في معتقلات الدول النامية. ودعتني إلى الكفاح من أجل تقويض النظام المتحجر والسلطوية اللاعقلانية للدولة والجامعة والمدرسة، وهوس الاستهلاك. هكذا قررت أن أنهي الحياة البورجوازية الزائفة، وأتحمل كل تبعات الكفاح المستمر.
توقفت لحظة وجالت بعينيها بين الوجوه المشرئبة، ثم أعلنت القول الفصل: هذه المراوغة التي يتبعها يساريو الصالونات لن تفضي إلى شيء. ما نحتاج إليه هو العنف الثوري المضاد.
تردد صوت من بين الحاضرين يوجه سؤالا ويستوضح شيئا، فصاحت الفتاة: شعارنا نحن النسوة هو النعومة في السرير والعنف ضد رجال الشرطة.
سأل
صادق : أتشهد
برلين
الشرقية مظاهرات مماثلة؟
ضحك
فخري : أنت تمزح ولا شك. ألم تكتشف بعد أن التظاهر محظور؟ ثم إنهم أدانوا الحركة الطلابية في الغرب على أساس أنها فوضوية، لا تغري سوى أبناء البورجوازية الصغيرة.
غادرا الجامعة وسارا مع آلاف من سيارات
المرسيدس
و
البيجو
و
الفولكس
بموازاة الحوانيت العامرة باللحوم والأسماك والخضراوات والفواكه والملابس، وأخرى عامرة باللحوم البشرية، تصدرتها لافتة عريضة بمؤخرة عارية لفتاة شقراء تعلو إعلانا عن «الأفلام الزرقاء»، إياها، ومجموعات من الشبان والفتيات في ملابس سوداء، زينت أنوفهم وآذانهم بالخواتم وشعورهم بالألوان الخضراء والحمراء، بصحبة كلاب ضخمة، يفترشون صناديق من الكرتون فوق الأرصفة.
علق
فخري : إنهم يعيشون في الشارع، ولن تجد مثلهم في
ألمانيا
الشرقية؛ فكل واحد من مواطنيها له مسكن.
فكر
صادق
أن هؤلاء الشبان ملتزمون بشعار «ممارسة الحب لا الحرب». ولم يتصور صعوبة الأمر والتعقيدات المحفوفة به إلا عندما بلغا
دار أوزي .
كان حانوتا كبير الحجم يحتل ناصيتي شارع بواجهات زجاجية، حفلت بصور عارية لشبان وفتيات في أوضاع مغرية، وادعاءات بأن الطلبات عليه ترد مرة كل 6 ثوان، وأن له فروعا في عشرين مدينة ألمانية. اتجه
صادق
إلى المدخل في فضول وحماس، وتبعه
فخري
متظاهرا بعدم المبالاة. ولجا كهفا بإضاءة حمراء خافتة أعطت الجو المناسب. مرا من أمام صناديق زجاجية تعلوها لافتات توضيحية لخصائص المنتجات الواعدة بالسعادة؛ سوتيان يبرز الثديين، ومايوهات ساخنة، وكيلوتات بفتحات أمامية. ثم الأهم؛ حبوب تجلب ذكورة مؤكدة. مشروبات توقظ الرغبة في الرجل والمرأة. رشاش يعطر الجو من خلال رائحة تثير الحواس. أنواع من الواقي الذكري بغلاف داخلي يمنع القذف السريع. أجهزة تساعد المرأة على بلوغ نشوتها، وأخرى تمثل أعضاء صناعية، بعضها في أحجام تناسب الجياد والحمير، تساعدها على قهر البرودة. دهان يضاعف نشاط الرجل ويزيد انتصابه وحساسيته حتى يصبح أكثر حماسا ويمكنه أن يشبع أكثر النساء مطالبة. دهان آخر من
الصين
يقوي الانتصاب ويؤخر القذف. أجهزة مساعدة تسرع الإثارة الجنسية لدى المرأة، ولها تأثير مباشر على منطقة البظر. هزاز حديث للمرأة العصرية دون وصلة كهربائية، بحيث يمكنها أن تحمله معها - في حقيبة يدها - إلى أي مكان.
لم يشتر أحدهما شيئا بالطبع (سواء لعدم الاحتياج أو لاستحالة العودة إلى
برلين
الشرقية بإحدى هذه المواد المتفجرة). لكن قلب
صادق
لم يطاوعه على مغادرة الحانوت دون تذكار ما، فاشترى علبة صغيرة من الفول السوداني المملح لزوم البيرة، وقصافة أظافر معدنية جلبت تعليقا من
فخري ، مبطنا بسخرية عن عدم توافرها في «مصر»، وباقتراح خبيث: يمكنك الحصول على سيارة مستعملة في حالة جيدة في حدود
400 مارك ، غربي بالطبع.
ولأنه كان عليما بأن
صادق
لا يملك مصدرا للعملة الصعبة، أبدى استعداده لأن يقرضه المبلغ ويسترده بالماركات الشرقية على دفعات من الراتب الشهري. وأبدى
صادق (الملتزم بأن يعيش مثل غالبية الألمان) رفضا قاطعا للفكرتين؛ السيارة والقرض.
اكتملت الرحلة الثقافية بسندوتش
براد فورست
مع بيرة وكيتش أب من كشك نظيف، ثم فيلم عن فتاة تعاني من الاكتئاب فتذهب إلى طبيب نفسي. وبعد أن تخلع ملابسها ويفحص استجابتها الجنسية ينصحها بأن تستمتع بحياتها. هكذا فعلت طوال الفيلم مع كل من قابلتهم من رجال ونساء.
غادرا المدينة بشعور من الإحباط لم يدرك
صادق
سببه. وقررا تكرار الزيارة في موعد حالت التطورات السياسية دونه؛ ففي تحد واضح قررت
ألمانيا
الغربية إجراء انتخابات رئاستها في
برلين
الغربية، مما جلب وعيدا من الجانب الشرقي بفرض الحصار على المدينة، دعمته مناورات عسكرية شارك فيها نصف مليون جندي من السوفييت والألمان الشرقيين. هكذا انفسح المجال للصراع العربي الكردي.
6
كانت معرفة الأكراد باللغة العربية تشوبها اللكنة العراقية فضلا عن الكردية. كما كانوا يكرهونها بسبب ما تعرضوا له من اضطهاد على أيدي المتعصبين من أبنائها كالبعثيين، ومن تجاهل الحركات الوطنية العربية عموما لقضيتهم وتركيزها على القضية الفلسطينية. وأوشكت إقامتهم الطويلة في
ألمانيا
ودراستهم بها ثم زواجهم بألمانيات أن تمحو معرفتهم بقواعدها. وكانوا على عكس
صادق
بلا خبرة صحفية؛ إذ التحقوا ب «أ. د. ن» لكسب العيش والحصول على الإقامة؛ لهذا صارت مهمة
صادق
اليومية عند مراجعة ترجماتهم هي تصحيح رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المجرور، فضلا عن إدخال الأساليب الحديثة في الكتابة الصحفية؛ الأمر الذي كان يثير امتعاضهم. وبلغ الامتعاض ذروته عندما أشارت إحدى التعليقات الصحفية إلى مرور 19 عاما على ثورة
يوليو
المصرية وكتبها
فخري
بالحروف: «تسع عشرة عاما».
رغم كراهية
صادق
للقواعد المعقدة لكتابة الأعداد بالحروف وخاصة تلك المركبة من شطرين، ولجوئه دائما إلى كتابتها بالأرقام، فإنه كان يحفظ عن ظهر قلب القواعد الأساسية. ووجد أمامه فرصة لسحق المعارضة.
القاعدة في البداية تبدو بسيطة للغاية ؛ فالعددان 1 و2 يوافقان المعدود تذكيرا وتأنيثا، سواء أكانا مفردين أو مركبين مع 10، مثل: «كان هناك اثنا عشر طبيبا واثنتا عشرة مريضة». وبالتالي لا توجد مشكلة.
تبدأ المشكلة من العدد 3 حتى 9. هنا تخالف الأعداد المعدود تذكيرا وتأنيثا، فإذا كان العدد مؤنثا كان المعدود مذكرا: «حضر تسعة أطباء وسبع مريضات».
تتعقد المشكلة مع العدد 10، فإذا كان مفردا خالف المعدود تذكيرا وتأنيثا «عشرة أطباء وعشر مريضات». أما إذا ركب مع غيره فيوافق المعدود: «عشر مريضات وأحد عشر طبيبا».
شطب
صادق
أعوام
فخري
وكتب بثقة: «تسعة عشر عاما».
لم يقبل
فخري
التشكيك في درجة إتقانه للعربية، كما رفض
صادق
التراجع عن موقفه وتضامن معه الكردي الآخر (استنادا لرؤيته الحزبية المعادية لحزب رفيقه الكردي) بينما عارضه العراقي الضئيل الحجم (كان
صدام حسين
حاكم العراق الدموي - من موقعه كالرجل الثاني إلى جوار الرئيس
حسن البكر - قد عقد تحالفا مؤقتا مع الحزب الكردي الذي ينتمي إليه
فخري ). ونهض الأخير في عصبية ومزق الورقة التي جللها
صادق
بتصحيحاته. نشبت مشادة تابعها الخبير الألماني في حيرة. وحسم الأمر اتصال تليفوني بمؤلف القاموس الألماني العربي، دكتور
شولتز ، الذي انتصر ل
صادق .
لم يستسلم
فخري
تماما؛ فقد غمغم بشيء عن هزيمة
جمال عبد الناصر
في 1967م. هنا اندفعت الدماء في عروق
صادق ، وأعلن أن الزعيم المصري قدم للشعوب العربية ما لم يقدمه أحد لها من قبل. أدرك أنه استبعد الأكراد من المديونية، فاستدرك قائلا: إن شعوب العالم كلها وفي مقدمتها الشعوب المستعمرة ستظل مدينة له إلى الأبد.
دخل الكردي الآخر
ماجد ، على الخط ليؤكد ثوابته؛ ف
عبد الناصر
في رأيه هو الداعم لحزب البعث المجرم في
العراق . تفجر الصراع الكردي/الكردي. وتابع
نويمان
الشجار الناشب في حيرة؛ لأنه لم يفهم شيئا من الكلمات المتطايرة حوله. وأخيرا هز رأسه ودفنه في أوراقه وهو يغمغم لنفسه متعجبا، في الغالب، من هذه الشعوب المتخلفة.
هدأ الجو أخيرا، لكنه ظل متوترا حتى حان موعد الغداء ، فهدأ نداء البطون من فوران النفوس. مؤقتا.
تستمر فسحة الغداء ساعة، فيرتدي
صادق
معطفه، ويلف الكوفية حول عنقه ويضع القبعة على رأسه ويدس أصابعه في القفاز. ويخرج العاملون في القسم في طابور يعبر الميدان إلى حيث يوجد مطعم كبير مخصص للعاملين في المؤسسات القريبة، فيخلع المعطف والكوفية والقفاز وغطاء الرأس، ويأكل
الكارتوفيل ، البطاطس، مع قطعة لحم وتفاحة، متجنبا الحساء المصنوع من دماء الخنازير، لا عن عداء للحيوان المحرم في دينين من الأديان السماوية الثلاثة، وإنما عن استبشاع لمنظر الدماء، ثم يرتدي معطفه والكوفية والقفاز وغطاء الرأس. ويعود الجميع في خطوات متمهلة إلى الوكالة حيث يخلع المعطف والقفاز والكوفية وغطاء الرأس، ثم يستأنف العمل في غير حماس، حتى تحين ساعة الانصراف في الخامسة.
تكرر طقس الملابس فارتدى «صادق» من جديد الكوفية والمعطف وغطاء الرأس، وحمل مظلته. وتقدم طابور القسم العربي إلى الخارج. وعند مدخل المبنى اقترح أحدهم الذهاب إلى
أونتر دين ليندن
فاتجهوا إليه. كان الظلام قد خيم وهطل مطر مفاجئ حال دون تبينهم لشريط الأخبار المضيئة أسفل كوبري المحطة. وكانوا يعرفونها على أية حال؛ فلم تتجاوز ما ترجموه وأذاعوه في الصباح.
كان الفندق حديث البناء بديكورات حديثة ذات خطوط بسيطة. خصص بطابقه الأرضي إلى جوار المدخل ركنا زود بفوتيات عصرية وبار صغير، يطل - من وراء حوائط زجاجية - على شارع
فريدريش شتراسه
من جانب، وعلى شارع
أونتر دين ليندن
من الجانب الآخر.
في هذا الوقت من اليوم يبدأ عرب وأكراد وأتراك
برلين الغربية
في التوافد سعيا وراء الثقافة، مسلحين ب
المارك
الغربي. وجدوا منهم ثلاثة في موقع استراتيجي يواجه المدخل. أحدهم رتب شعره في خصلتين على جانبي جبهته ألصقهما برأسه. والثاني تباهى بسترة دون ياقة تحتها قميص أحمر. والثالث ببزة كاملة وربطة عنق ضخمة، لم تنجحا في إخفاء تورم أصابعه وما عليها من آثار المهنة؛ شحم السيارات. كما تواجدت أيضا القطط المحلية.
في مجال بصر
صادق
جلست إحداهن بجوبة قصيرة - وحزام حول وسطها يضاعف من القصر - فاستطاع أن يلمح ملابسها الداخلية . وجهت إليه نظرها ثم تبادلت مع رفيقة لها الضحك. ظن أنهما تسخران منه؛ فلم يكن مدربا بعد على أفانين الاصطياد من قبل العاهرات.
لكن بار الفندق لم يقتصر على النشاط الثقافي؛ فإلى إحدى الموائد القليلة جلست عجوزتان احتفظت إحداهما بقبعة بيضاء اللون فوق رأسها. وإلى مائدة في الجانب الآخر راحت أخرى تتكلم في ثقة كاملة، وبصورة متواصلة، وصوت مرتفع، مع رجل ألماني لم يبد منه غير قفاه وشعره المصفف بعناية.
غطى الصوت العالي للمرأة - بالإضافة إلى أغاني الراديو - على أصواتهم الخافتة التي تداولت المسكوت عنه طول اليوم. هكذا عرف
صادق
أن السفر إلى أي مكان في الغرب غير ممكن بالنسبة للألمان. السفر فقط إلى البلدان الاشتراكية؛ لهذا السبب كان الشباب يحج إلى «براغ» المنفتحة (قبل التدخل السوفييتي)؛ حيث سمحت السياسة الجديدة للحزب بوجود أسطوانات الجاز وأفلام هوليوود والمجلات الغربية وقصائد
فولف بيرمان
المحظورة في
ألمانيا الشرقية .
عرف أيضا أن مثقفين في
ألمانيا الشرقية
تطلعوا إلى إمكانية تجديد الماركسية فوصفتهم الصحف بأنهم طائفة منشقة تنشر الهرطقة بين صفوف الشبيبة. كما تظاهر - منذ شهور - كثير من أعضاء الحزب احتجاجا على قيام حلف
وارسو
بغزو
براغ . وتم تداول منشورات تهتف: عاشت
براغ
الحمراء. وجرى اعتقال عدة مئات بعد سقوط
دوبتشيك ، الزعيم التشيكي المتمرد.
لم تكن أمسيات
الأونتر دن ليندن
تنتهي على خير؛ فبعد ساعة عندما لا يظهر في الأفق ما يبشر بغزو ثقافي يعود الجميع إلى منازلهم، ويأوي العراقيون الثلاثة «الكرديان والعربي» إلى زوجاتهم اللاتي كن السبب غالبا في المحاولة. شيء واحد اختلف هذه المرة؛ فعندما أراد
صادق
أن يدفع حساب البيرة للجميع أصر
فخري
على أن يتولى هو الدفع.
بادرة حسن نية ستتكرر في صورة أخرى في القريب، لكنها أنهت - مؤقتا - الصراع العربي الكردي والصراع الكردي الكردي، وأفسحت المجال للصراع الرئيسي؛ الألماني العربي.
7
بدأت المشاكل مع
نويمان
قبل أن تمتد إلى الألمانيات. صحبه الرجل في أول الشهر إلى اجتماع دوري يعقده الحزب للأجانب المقيمين في
برلين ، بعد انتهاء ساعات العمل بالطبع، لشرح سياساته والاستماع إلى آرائهم وتعليقاتهم. جلسا في الصف الثاني وأنصتا إلى كهل باسم، تناول فيما يبدو غداء وفيرا متأخرا للتو؛ إذ كان يتجشأ بين الحين والآخر. وبعد أن انتهى من الدفاع عن سياسة
ألمانيا الديمقراطية
السلمية، هاجم السياسة العدوانية ل
ألمانيا الغربية
المتحالفة مع
إسرائيل
و
جنوب أفريقيا
العنصريتين.
كان محصول
صادق
من اللغة ما زال ضئيلا لكنه - بخبرته في الوكالة - تمكن من تبين الاتجاه العام للحديث مع تكرار حروف
إزموس ، التي تنتهي بها في الألمانية كلمات الإمبريالية والرأسمالية والاشتراكية والعنصرية وكل الأسماء في القاموس السياسي المعاصر؛ لهذا انصرف إلى تأمل الحاضرين ووقعت عيناه على
مرسي سليمان
في الصف الأول.
كان قد سمع عنه في
مصر
قبل أن يتعرف إليه في بار
أونتر دين ليندن ؛ شيوعي قديم من طلائع شيوعيي الأربعينيات، هاجر بعد أول اعتقال، واستقر في
ألمانيا
الشرقية؛ حيث تزوج - ألمانية بالطبع - وأكمل دراسته، وصار أستاذا في الجامعة، ولم تلمس قدماه أرض
مصر
منذ تركها أول مرة. رآه الآن بقامته القصيرة وجسده الممتلئ يغفو وعلى شفتيه ابتسامة استحسان لما يسرده الخطيب، ثم يفتح عينيه ويهز رأسه مؤمنا، وسرعان ما يعود إلى غفوته محتفظا بابتسامته.
نجح
صادق
في تجنب الاجتماع الشهري التالي بحجة عدم تعمقه في فهم اللغة بما يمكنه من استيعاب الأفكار العميقة للمتحدث. لكن حجته لم تفلح مع
نويمان
في حالة الاجتماع الآخر الذي تعقده اللجنة الحزبية بالوكالة للعاملين مرة كل أسبوع.
عبثا حاول تجنب
نويمان ؛ فقد ألح عليه الرجل في استعطاف، واضعا يده على بطنه، ثم طارده في إصرار من يتوقف مستقبله المهني على إحضار العربي العاصي إلى الاجتماع المقدس. نزل إلى الكانتين، وفكر في الخروج إلى الشارع، لكن درجة البرودة أجبرته على العودة إلى مكتبه لإحضار المعطف والكوفية والقبعة والقفاز. سمع صوت
نويمان
يسأل عنه. فهرع إلى التواليت. اختبأ فيه بعض الوقت حتى مل، ففتح الباب ليجده أمامه. قلده بوضع يده على بطنه وتأوه قائلا: إنه يعاني إسهالا مفاجئا. عندئذ شاهد ما يشبه الظواهر الطبيعية.
التمعت العينان الصفراوان وتقلص الوجه الطفولي الباسم في غضب عنيف مدمر، لم يلبث أن اختفى ثم زفر صاحبه في يأس واستدار مبتعدا.
تكررت هذه المواجهات كلما حان موعد الاجتماع الحزبي حتى يئس منه
نويمان
وتركه في حاله. لكن
صادق
لم يتركه.
كانت جل سياسات جمهورية
ألمانيا الديمقراطية
موجهة إلى إقناع البلدان العربية بالاعتراف بها كجمهورية مستقلة إلى جوار
ألمانيا الغربية . هذا كان السبب في تصريحات التأييد والدعم وتوجيه الدعوات لكل من هب ودب من ممثلي الهيئات والنقابات والبرلمانات في البلدان العربية، ثم إنشاء القسم العربي في الوكالة التي تحتل مديرتها مركزا هاما في قيادة الحزب. وفي كل هذه المساعي كانت
ألمانيا الديمقراطية
تسعى إلى ربط الكيانات العربية المحلية بمثيلاتها الألمانية. ومن الطبيعي أن كان على رأس هذه الكيانات الحزب الاشتراكي الألماني الموحد «الشيوعي»، وهو الحزب القائد (التسمية التي اقتبسها كل من
صدام حسين
و
حافظ الأسد ) لمجموعة الأحزاب الكرتونية التي تألف منها ما سمي بالجبهة الوطنية.
تمتعت جريدة
نويس دويتشلاند (
ألمانيا
الجديدة) بوضع الجريدة القائدة بين الصحف الألمانية الشرقية بصفتها لسان حال الحزب القائد، فمع أي الصحف المصرية تعقد أواصر الصلة؟ بالطبع مع الجريدة المتحدثة بلسان الحزب الحاكم في «مصر»، وهي
الجمهورية ، لسان حال
الاتحاد الاشتراكي العربي .
لم تكن
الجمهورية
هي الجريدة الأولى في
مصر ، بل الثالثة بعد
الأهرام
و
الأخبار . ولعل ذلك كان شأن
نويس دويتشلاند . ولم يكن
الاتحاد الاشتراكي
نفسه في منزلة شعبية أفضل من الحزب الحاكم في
ألمانيا
الشرقية، رغم الملايين المسجلة في عضوية كل منهما.
على أية حال، فإن التعاون بين الصحيفتين شمل دعوات للصحفيين المصريين المتعطشين للثقافة الألمانية للزيارة، وتبادل الأنباء والتقارير الصحفية. وهنا جاء دور وكالة
أ. د. ن .
فإذا نشرت الصحيفة الألمانية تصريحا لأحد قادتها أو نبأ عن التواطؤ الألماني الغربي مع
إسرائيل ، بثته
أ. د. ن ، وسارعت
الجمهورية
إلى نشره نقلا عنها. كل هذا يبدو أمرا طبيعيا. لكن ما يحدث بعد ذلك هو غير الطبيعي، مهنيا على الأقل.
إذ يتلقف مراسل الوكالة في
القاهرة
ما نشرته
الجمهورية
ويرسله إلى المركز الرئيسي في
برلين ، فتبث أن الجريدة المصرية نشرت عن
نويس دويتشلاند
الخبر المعين، وتتلقف الجريدة الألمانية الخبر - الذي تعدل قليلا فأصبح عن قيام الصحيفة المصرية بالنشر نقلا عن الألمانية لا مجرد التواطؤ الإسرائيلي - فتنشره، وتبث الوكالة النبأ الجديد فتتلقفه
الجمهورية
وتنشره، وهكذا دواليك.
أوضح
صادق
لرئيسه أن ما يحدث يفتقر إلى المهنية الصحفية، فوضع هذا يده على بطنه، وابتسم في تبسط قائلا: أنت لا تدرك بعد أبعاد المهنة.
لم يقتصر الأمر على المهنة الحويطة؛ فقد تعداها إلى السياسة العامة للبلاد؛ فقد أسفرت الانتخابات التي جرت في
برلين الغربية
لرئاسة الجمهورية عن فوز الزعيم الاشتراكي الديمقراطي
جوستاف هانيمان
بأغلبية ستة أصوات على خصمه الديمقراطي المسيحي
جيرهارد شرويدر
وزير الدفاع الذي يعتبر من أبرز ممثلي السياسة الرجعية في
ألمانيا الغربية . وبدلا من أن ترحب الميديا الألمانية الشرقية بهذه النتيجة صبت جام غضبها على الرئيس الجديد. وأعرب
صادق
عن عدم منطقية هذا الموقف.
لم تفلح الحفلة التي أقامها
نويمان
في منزله لأعضاء القسم العربي في تخفيف التوتر الناشب، وإن أضافت إلى معرفة
صادق
بكتاب قواعد السلوك إياه، عندما حضر الكرديان دون زوجتيهما الألمانيتين (كي لا يعرضاهما للذئاب العربية)، وعندما تعمد
نويمان
تجنب النظر إلى زوجته الخمسينية الطيبة وهي في رقصة حميمية مع محرر من القسم الاقتصادي، وعندما اعتذرت سكرتيرة شقراء من الإدارة عن عدم مراقصة
صادق
دون أن تخفي تأففها، ثم ألقت بنفسها بين ذراعي
نويمان
الثمل الذي ضمها بعنف، فتبسمت زوجته في طيبة، وربما إدراكا لقدرات زوجها الحقيقية.
استمرت المجادلات بين
صادق
و
نويمان
دون جدوى حتى استسلم الأول ممتعضا. لكنه حمل امتعاضه إلى كفيله الثقافي
لانز .
8
كانت دروس اللغة التي تولاها الخبير الألماني قد توقفت بعد أن عينت الوكالة للمصري مدرسا مخصوصا، ثم عاد البروفيسور إلى قواعده في دار «الطليعة»، إما لانتهاء فترة انتدابه أو لانتفاء الحاجة إليه. لكنه لم يتخل عن مهمته التثقيفية، فوجه الدعوة ل
صادق
كي يتناول معه طعام الغداء يوم أحد في منزله المطل على بحيرة في أطراف المدينة.
حاملا زجاجة
فودكا
روسية مستوردة، لحق
صادق
بال
إس بان
المتجه إلى
إيركنر ، قبل الظهر، في اللحظة التي انتهى فيها السائق من ندائه:
إينشتايجن بيته ، اصعدوا من فضلكم، وقبل أن يعلن في حسم:
تور شليسن ، الباب يتم إغلاقه. وغادره قبل نهاية الخط بمحطتين، ثم استقل الأوتوبيس القديم من موقفه خارج المحطة؛ حيث سجلت مواعيده الدقيقة في لوحة على عمود، بجوار موقف صغير للدراجات. وغادره في نهاية الخط الدائري، ومشى بين الغابات وحدائق المنازل، حتى بلغ المنزل الذي يقيم به
لانز (وظل مقيما به مقابل 150
ماركا
في الشهر حتى تمت الوحدة الألمانية واختفت
ألمانيا الديمقراطية
في 1990م، فارتفع الإيجار البسيط إلى خمسمائة، ثم جاء اليوم الذي ظهرت فيه سيارة
مرسيدس
سوداء أمام باب الحديقة، نزل منها مواطن ألماني غربي يحمل المستندات التي تؤكد أنه كان يملك هذا المنزل قبل أن تستولي عليه الحكومة الشرقية عند إنشاء
ألمانيا
الديمقراطية في نهاية الأربعينيات وتؤجره ل
لانز ).
دفع بوابة صغيرة مائلة، وعبر ممرا وسط حديقة غير معتنى بها إلى مبنى صغير أقرب إلى الكوخ، انتظر
لانز
أمامه في اعتزاز. قاده عدة خطوات وهو ينقل قدمه المعطوبة في حذر إلى شاطئ البحيرة الصغيرة، ليجد نفسه داخل أحد المشاهد التي تصورها لوحات الفنانين التقليديين المعلقة على جدران حجرات الصالون في أنحاء العالم؛ القارب المحتوم والمياه المتجمدة وكوخ الحارس والحسناء الفاتنة.
كان هناك بالفعل كوخ حارس، تجنب
لانز
الحديث عن ساكنه العجوز، وعلم
صادق
فيما
بعد
أنه جار للبروفيسور، استأجر الكوخ من الدولة مثلما فعل
لانز .
لكن السيدة التي انضمت إليهما لم تكن فاتنة بأي حال؛ فهي في عمر زوجها، شعرها أسود لكن حوافه تشي بالصبغة، وصوتها الرفيع يشي بمشكلة في الأنف، وأسنان فكها العلوي بارزة من فمها تشي بهواية الافتراس.
تناولت منه زجاجة
الفودكا
شاكرة، بإنجليزية سليمة تقوم بتدريسها، وحملتها إلى الداخل. ولم يظهر للزجاجة أثر بعد ذلك سوى حديثها المتهور.
حول مائدة الطعام - في غرفة ضيقة وأثاث قديم داكن اللون - التي توسطتها زجاجة من النبيذ المحلي، انطلق
لانز
يتحدث في وقار - غير مبال بتهكم زوجته - عن آخر كتبه الذي تجري طباعته، وهو ترجمة ألمانية لرواية مصرية كلاسيكية «ترجمت من قبل إلى الفرنسية التي يجيدها». وظهرت علامات الامتعاض على وجه زوجته، التي ربما ملت الاستماع، فسارع يغير اتجاه الحديث ويعلن أنه سيحج قريبا. إلى أين؟
موسكو
بالطبع.
لم يحدث هذا الإعلان الأثر المطلوب؛ فأضاف: وبعد ذلك
أفريقيا .
وتمهل قليلا، ثم قال:
طوكيو
أيضا. لكني لا أحبها. وربما
بولندا
بعدها.
انتهزت الفاتنة الفرصة كي تدلي بدلوها. قالت: إنه لن يجد من يقابله؛ لأن المثقفين هناك يعارضون كل ما هو رسمي.
رد البروفيسور في حزم: مشكلة
بولندا
أن شعبها لا يحب العمل، أما المثقفون فقد تم تضليلهم بواسطة الدعاية الإمبريالية، وتأثروا بالاتجاهات العدمية غير المسئولة في الثقافة الغربية؛ الموسيقى الشبابية، الانحطاط الأخلاقي، الروح التشكيكية، الشعور الطويلة، الفوضوية، الفن الداعر المكشوف.
قادت
بولندا
إلى
تشيكوسلوفاكيا
والتدخل العسكري فيها، ووجدت زوجته - المتأثرة غالبا بالدعاية الإمبريالية - الجرأة لتعلن رأيها: الناس في حاجة أيضا إلى الحرية. لماذا لا يسمح بحزب شيوعي آخر؟ بصوت معارض، وجهة نظر أخرى.
انبرى البروفيسور مدافعا عن «أحكام الضرورة» و«الصورة الكلية». وعن الخطر الإمبريالي المتمثل في الإذاعات الموجهة إلى البلدان الاشتراكية، والدعوات الخبيثة إلى «نقابات مستقلة» و«مجتمع التعددية» و«اشتراكية أفضل»، بل و«اشتراكية بلا شيوعيين». احمر وجهه انفعالا. وأراد
صادق
أن يخفف التوتر، فروى نكتة رائجة في كانتين «أ. د. ن» محورها أن
ألمانيا الديمقراطية
هي أعظم
ألمانيا
ديمقراطية في العالم.
لم تترك الزوجة الفرصة. قالت: كان
هتلر
يقول للألمان: إنهم أفضل شعوب الأرض، وهو ما يحدث الآن عندنا.
لم ينخدع
الحلواني
بثورتها، وأرجعها إلى
الفودكا
المختفية - التي انبعثت رائحتها مع كل زفرة من زفراتها - والرفض المتراكم داخلها لا للنظام الشيوعي، وإنما لممثله المحلي، زوجها (وهذا ما جعلها تتحول إلى النقيض بعد سقوط النظام وانتقالهما - بعد استعادة الألماني الغربي لملكيته - إلى غرفة وصالة في بلوك سكني وسط المدينة؛ فبينما انسحب البروفيسور من النشاط السياسي كلية، صارت هي مدافعة نشطة عن الشيوعية).
عرض البروفيسور على
صادق
التمشية بعد الأكل، فارتديا المعاطف والكوفيات والقبعات والقفازات. قال وهما يخترقان الحديقة في الطريق إلى الخارج: بوسعنا أن نمشي الآن فوق جليد البحيرة. لكن ساقي لا تسعفني. عندما تأتينا في الربيع ستسمع صوت تكسر الجليد. ستستمتع أيضا بالزهور والروائح. أنا محظوظ حقا بوجودي في هذا البيت.
أعاده الحظ السعيد إلى بيوت سابقة.
تورينجيا ؛ حيث ولد، وقبله أيضا الشاعر العظيم
جوته ، أيقونة الألمان والبروفيسور بالتبعية. أعفاه شلل الأطفال من الاشتراك في معارك الحرب الهتلرية، وهيأ له عملا في مصنع للآلات الكاتبة تشرف نوافذه على معتقل
بوخنفالد
الشهير. - هل كنت ترى المعتقلين؟ - أحيانا. كان بينهم عدد من أهالي المنطقة قضوا به خمس سنوات ثم خرجوا. لم يفوهوا بكلمة عما جرى لهم إلى أن انتهت الحرب.
ولجا غابة من أشجار الصنوبر. وأقبلت عليهما من الناحية المضادة دراجتان فوقهما سيدة وابنتها. تبادلوا التحية، وتوقف البروفيسور ليفسح الطريق. وهنا وجد
صادق
الفرصة ليعرض شكواه من
نويمان .
استمع إليه البروفيسور مطرق الرأس باسما، ثم ربت على كتفه، وعاد يتحدث عن الضرورات السياسية، و«الصورة الكلية». وأوصاه بالصبر بكلمات مماثلة لما صبر المصريين أربعين عاما بعد ذلك: «كبر دماغك».
هكذا انتقل الحديث إلى المستقبل. وسأله البروفيسور عما ينوي أن يصنع بحياته. أجاب بأنه سيواصل مهنة الصحافة، ويزور أماكن أخرى في العالم ليكتب عنها. اقترح البروفيسور عليه أن يدون ملاحظات عن لقاءاتهما وما يدور خلالها من أحاديث ثقافية، أملا أن تدخل التاريخ ذات يوم. وكأنما ليحذره من مصير الكتاب، ذكر أن أغلب المشهورين منهم أصيبوا بأمراض تناسلية.
شملت القائمة
لورد بايرون
الذي أصيب بالسيلان،
ألكساندر دوماس
الأب الذي مات مصابا بالزهري،
جيمس جويس
الذي أصيب بالزهري في بداية شبابه ونجح في علاج الأعراض بالكي، لكن المرض لم يتلاش نهائيا، ولعله المسئول عن متاعب عينيه المزمنة،
جي دي موباسان ،
ستندال ،
أوسكار وايلد ، ثم لمزيد من التحذير
كازانوفا
الذي أصيب بالسيلان 11 مرة، وفقد قواه الجنسية قبل أن يبلغ الأربعين.
المسافة قصيرة بالطبع بين الإصابة بالمرض والعلاقة بالمرأة؛ فزوجة
جويس
مارست معه دور المسيطرة، ولم تكن تخفي استهزاءها به بعد أن تمتع بشهرة عالمية. وصرحت مرة لأحد أصدقائها بأنه يريدها أن تضاجع غيره «لكي يجد ما يكتبه». و
بلزاك
استمر 15 سنة مع مدام
دي باري
التي كانت تكبره باثنين وعشرين عاما، وخلال ذلك لم تتوقف علاقاته بالعاهرات حتى وفاته في الواحدة والخمسين من العمر. والأيقونة الألمانية
جوهان فولفجانج جوته
عانى من سرعة القذف في شبابه، ولم يعاشر امرأة جنسيا إلا في السادسة والثلاثين من عمره. وغالبا ما كانت النساء اللاتي يحببهن عسيرات؛ إما مخطوبات أو متزوجات بأصدقائه. و
هانز أندرسون ، العملاق الذي لم يتناسب طول ذراعيه وساقيه مع جسده حتى سمي عمود الإنارة، لم يمارس الجنس أبدا مع امرأة أو رجل، وظل مخلصا للاستمناء. و
دستويفسكي
الذي وجد التعويض في المقامرة.
لم تخل القائمة من الكاتبات. وأبرزهن في ثقافة البروفيسور
جورج إليوت . كانت غير جميلة، ورغم ذلك عشقت رجلين - عاشت مع أولهما دون زواج أربعا وعشرين سنة - مستخدمة طريقة ما لمنع الحمل ناقشتها مع أصدقائها. وفي نفس الوقت كانت تكتب لصديقة لها مخاطبة إياها ب «زوجي الحبيب» وتبادلت معها هذه الطريقة في المخاطبة إلى أن استقرت هي في دور الزوج الحبيب.
شحنة ثقافية قوية حملها
صادق
معه في طريق العودة في
الأوبان
الخافت الضوء، الكئيب بالمقاعد الجلدية القديمة ذات اللون الأحمر. وتداعت إلى ذهنه وهو يتأمل العائلات العائدة من يوم العطلة؛ عجوز يبتسم كل دقيقة بصورة طفلة، شقراء ملتهبة البشرة بشفتين طازجتين، وعربي تلتصق به فتاة ألمانية ملولة، بينما ينتظره -
صادق
لا العربي - الفراش البارد في مسكن المرح.
9
مع نفاد صبر جمهورية
ألمانيا الديمقراطية
من تأخر اعتراف الدول العربية بها، تسارعت عملية تعريب القسم العربي في الوكالة، فانضم إليه شاب أردني - تبين أنه
فلسطيني - يدعى
عدنان ، في العشرين من عمره. ومثل
صادق
كانت أول مرة يرى فيها بلدا أوروبيا. ولم يكن مدربا بعد على نفاق الهيئات الدولية والدول الغربية، فاستهول تصريح السكرتير العام للأمم المتحدة
أوثانت ، عن تزايد خطورة الموقف في الشرق الأوسط نتيجة «استمرار عمليات إطلاق النار على القوات الإسرائيلية»، لا العكس. كما لم يكن مدربا أيضا على المزاح المصري.
فعندما استفسر عن مكان لحلاقة شعر الرأس، قال له
صادق : إن الحلاقة تقوم بها النساء، ولا تقتصر على شعر الرأس، وإنما تشمل بقية أجزاء الجسم، فاستهول الكشف عن خصوصياته، وقرر ألا يحلق أبدا. لكنه لم يتردد في الكشف عنها للأغراض الثقافية.
فبينما لم يكلل نشاط
صادق
الثقافي بالنجاح، وشمل ممرضة مغرمة باستفزاز الرجال، علقت على كبر أذنيه في سذاجة مصطنعة (لم تكن خبراته الثقافية تسمح له بأن يتبين ما إذا كانت سحاقية معادية لصنف الرجال أو مازوكية تهوى الضرب)، كان
عدنان
أكثر توفيقا، ربما بسبب صغر سنه، والأغلب بسبب وسامته؛ وجه بدوي، رجولي، وعينان سوداوان واسعتان، وشعر ناعم غزير، وجسد نحيف ممشوق، خصائص كانت تجذب عيون قطط الكانتين وكل مكان يذهب إليه، بما فيه حانوت لأدوات التجميل؛ حيث التقطته بائعة تدعى
ريناتا . وكان ما زال في مرحلة فندق الليلة الأولى، فلم يجرؤ على دعوتها إلى غرفته، ولم تكن هي تقيم في مكان محدد، فتأجل الاحتكاك الثقافي إلى أن وفرته الوكالة.
تضمنت الخطة الألمانية منذ البداية حلا لمشكلة سكن العمالة الوافدة بتخصيص شقة مشتركة لهم. وعندما اكتمل إعدادها صحب
نويمان
الشابين، المصري والفلسطيني الأردني، إليها في سيارة
فارتبورج
تابعة للوكالة، نقلتهما بحاجياتهما القليلة إلى ضاحية
فريدريش فيلده
الجديدة عند نهاية خط
الأوبان ، مترو الأنفاق، ثم شارع
شفارتس مير شتراسه ، البحر الأسود، المؤلف من بلوكات حديثة بيضاء متشابهة في صفوف متوازية تفصل بينها خطوط من الخضرة.
أوضح
نويمان
في زهو أن الضاحية صممت على ضوء التصور الحديث - الاشتراكي بالطبع - للتجمعات السكنية، سواء من حيث تصميم المنازل ومجمع خدمات لها يتكون من عيادة طبية وسوبر ماركت حديث لكل الاحتياجات من طعام وأدوات منزلية ثم مغسلة أتوماتيكية عمومية ومكتبة ومرقص. كل شيء تقريبا، بحيث لا يحتاج المقيم إلى الانتقال إلى وسط المدينة. وانكسر زهو
نويمان
عندما ظهرت مجموعة من الجنود الروس قرب محطة
الأوبان ، وأجاب باقتضاب على استفسار
صادق
بأن هناك حامية روسية بالقرب في
كارلسهورست .
كان المسكن في الطابق الأول، ويتكون من مطبخ على يمين الداخل (مزود ببراد وبوتاجاز بأربع عيون والأواني والأدوات الضرورية) وغرفة صغيرة على اليسار بجوارها غرفة أصغر (للأطفال عندما يفدون)، ثم حمام واسع به سخان كهربائي وبانيو، بجواره غرفة كبيرة ل «الأب والأم» في مواجهة باب المسكن عبر صالة صغيرة تطل عليها مرآة كبيرة. وفي مواجهة الحمام غرفة ثالثة كبيرة للمعيشة ببلكونة تطل على ظهر المنزل.
بنظرات إعجاب وحسد ومصمصة شفاه من
نويمان (الذي يقيم في منزل قديم، ويحلم بالانتقال إلى العلب الحديثة، وبأثاث جديد كل الجدة) تفقدوا الأثاث العصري البسيط والعملي من الخشب على الطراز الاسكندنافي؛ أسرة ومكاتب وخزائن خشبية، يمكن فكها وتركيبها ونقلها من مكان إلى آخر بسهولة، وشوفاج (مدفأة من مواسير غاز مثبتة في الحائط، ومعلق بها الأواني الفخارية التي توضع بها مياه تمتص الرطوبة، والتي سيستخدمها بعد ذلك كمجفف، يعلق فوقها القميص النايلون الشائع بعد غسيله ليلا ليرتديه في الصباح دون كي). وفي غرفة المعيشة أو الصالون أريكة (يمكن بسطها في يسر لتتحول إلى فراش لاثنين)، إلى جوارها مصباح أرضي على حامل في مستوى ارتفاع الأريكة، وفوتيان بينهما طاولة زجاجية، ثم التليفزيون فوق قاعدة خشبية، وسجاد صناعي من الحائط للحائط مثبت في الأرض الخشبية. وكل شيء خارج للتو من مصنعه بما في ذلك الأغطية والألحفة المنفوخة.
اختار
صادق
الغرفة الصغيرة المجاورة للباب الخارجي. واختار
عدنان
الغرفة الأكبر وبقيت الثالثة، الأصغر، فارغة في انتظار المرحلة التالية من التعريب. واستقر كل منهما في عرينه. هكذا تم إعداد المسرح، ودعمه
صادق
بجهاز بيك أب - اشتراه من
ألكسندر بلاتز - لسماع الموسيقى. ولم يتبق سوى الافتتاح.
كانت الوكالة قد دعت أحد محرري وكالة الأنباء العراقية لزيارة مقرها والتعرف إلى أعضاء القسم العربي. وبالأريحية العربية الشهيرة دعاه
صادق
و
عدنان
للعشاء في منزلهما الجديد. وتلقت
ريناتا
دعوة رسمية.
كانت مزوقة على الآخر بشعر طويل أقامته فوق رأسها كبرج التليفزيون، ورموش طويلة وأصابع ذات أظافر طويلة ووجنات محمرة، وصدر ممتلئ؛ مما أثار إعجاب العراقي. كان من قيادات حزب
البعث ، ويتصرف على هذا الأساس، مدعوما بجسده الضخم، فاقترح أن يلعبوا
ستربتيز بوكر . رفضت
ريناتا
بشدة، كما رفضت دعوته إلى فندقه. لم يكن معتادا على الرفض، فانصرف غاضبا.
قضت
ريناتا
الليلة في غرفة
عدنان . وفي الصباح عرف سر رفضها لعرض
الاستربتيز
عندما رآها خارجة من الحمام بغير شعرها الطويل التليفزيوني، وبغير رموشها الطويلة، وأظافرها الطويلة، وبصدر ممسوح تخلى عن امتلائه، وبوجه طفولي بريء عار من كل تجميل.
10
تكرر حج
صادق
أيام الآحاد إلى كوخ البروفيسور قبل أن تنتقل راية التثقيف إلى
إنجمار . وكان قد رآها عدة مرات في مدخل الوكالة، وأعجبته قامتها الممتلئة الطويلة، وعيناها الزرقاوان، وشعرها الأسود الفاحم الذي فرقته من المنتصف وتركته يحيط بوجهها وينسدل على كتفيها؛ الأمر الذي أشعل أمنياته.
تحققت أمنياته بأسرع مما توقع؛ فقد وجد نفسه يحادثها في الكانتين، واكتشف أنها تجيد الإنجليزية، فصار الحوار ممكنا. كما اكتشف أنها أكبر منه بعامين، فزاد احترامه لها. وتضاعف هذا الاحترام - فيما بعد - عندما عرف من زلة للسانها أنها أكبر منه بثلاثة أعوام. دعاها إلى العشاء في مطعم فوافقت في الحال دون أن تتعلل بزيارات الأقارب. وبعد كأس من النبيذ الأبيض - المحلي بالطبع - علم أن لها طفلا صغيرا في الخامسة من عمره من أب أفريقي اختفى. سألته عن معنى لقبه فأجاب بالرد التقليدي: إن جده هو الذي بنى
مصر ، وإنه - أي جده - قدم من
المغرب ؛ حيث يطلق الاسم على أصحاب ميول جنسية معينة، بينما هو أصلا صفة لصانع الحلوى. احتاجت إلى كأس ثانية لتستوعب المعلومة، وتحت رعاية
فرانك سيناترا
وموسيقى «غرباء في الليل»، بدأ التثقيف.
سألته في تردد عما إذا كانت له أسرة في
القاهرة . وأدرك مغزى السؤال، فأجاب بأنه غير متزوج، وإن اعترف بوجود حبيبة، تدعى
لبنى . بدا عليها الانزعاج، فقال: إنهما انفصلا عندما أرادت الزواج.
كان قد عهد إليها بطلب طعامهما كاختبار لها. ولعلها فطنت لذلك، فتأملت قائمة الأطعمة ثم اختارت أقلها سعرا؛ شريحة من اللحم، جاءت مع خضراوات مسلوقة «بطاطس وكرنب»، فوق ورقة من نبات الخس.
يعشق
صادق
هذا النبات ويحتفظ بأجمل ذكريات الطفولة عندما كانت أسرته تجتمع عصر كل يوم - مع بدء الربيع - حول صينية تمتلئ به، فيلتهمونه وهم يثرثرون. مد شوكته بصورة تلقائية وتناول ورقة الخس ودفعها إلى فمه. لم تجاره، بل تأملته في صمت لحظة، ثم قالت: دار نقاش في إحدى المجلات منذ يومين حول هذا الخس.
تعجب من المكانة التي يتمتع بها هذا النبات في بلاد
جوته .
استطردت: قال أحد القراء: إنه في الأصل للديكور وليس للأكل، واضطررنا إلى أكله أثناء الحرب وبعدها، ولم نعد الآن في حاجة إلى ذلك مع ارتفاع مستوى معيشتنا. وتجب إعادته إلى مكانته الديكورية السابقة.
عادت بها الذاكرة إلى سنوات الحرب وما بعدها مباشرة: تبادل السكر عند بوابة
براندنبورج
بالسجائر الأمريكية، ثم تسافر إلى
بوتسدام ، وتبادل السجائر بخبز روسي، تقطعه شرائح وتدهنها بدبس السكر ليباع للمستحمين على شواطئ البحيرات، ثم تشتري الحطب في محطة
هرمان شتراسه ، وفي الشتاء تبادله بالقداحات، ثم تذهب إلى
ماجدبرج
لتبادله بالسكر، وتعود لتبادله بالسجائر الأمريكية، وهلم جرا.
أعادتها ورقة الخس إلى الحاضر المزدهر، ثم فاجأته بأن مدت شوكتها والتقطتها ودفعت بها إلى فمها قائلة: لا يهمني لغو المتبرجزين.
أكبر موقفها، فدعاها في الأسبوع التالي لتناول العشاء في منزله مع
عدنان
وصديقته الجديدة. كانت
ريناتا
قد اختفت سريعا، وظهرت
هيلدا ؛ بائعة أخرى في نفس الحانوت، متوسطة الطول ذات ملامح جميلة، يزيدها المكياج المتقن جمالا. في البداية اكتفت بالزيارة وقضاء الليلة في غرفة
عدنان
ثم استقرت فيها.
استقبلت
إنجمار
المسكن بذات التعبير الذي بدر من
نويمان . وكان المضيفان جاهزين بالنبيذ والبيرة والموسيقى، وعشاء تفنن
عدنان
في إعداده من نبات
القرنبيط
المعروف في المشرق العربي ب
الزهرة ، وهو للغرابة نفس اسمه لدى الألمان. أبدت الألمانيتان إعجابهما بالأكلة العربية المعدة بالصلصة والتقلية على عكس موقفهما من الموسيقى التي استقبلاها بوجوم؛
أم كلثوم
و
عبد الوهاب ، بالإضافة إلى أسطوانة الموسيقى العربية العتيدة (أحد المنجزات الثقافية للعهد الناصري). لكن موقف
هيلدا
تغير عندما أدار
عدنان
أسطوانة حديثة ل
شادية
بأغنية «خدني معاك ياللي انت مسافر». فما إن عرفت معنى كلمات الأغنية حتى طلبتها مرارا وتكرارا، قائلة: إن لها صديقة تزوجت سوريا وتعيش في
دمشق ، في منزل فخم بسيارة، وتشاهد الأفلام الأمريكية.
كان الوقت متأخرا فعرض على
إنجمار
أن تقضي الليلة في حجرته. وأخذ بطانية ووسادة ونام فوق أريكة الصالون (ستقول له فيما بعد إنها تعجبت ليلتها من عدم انضمامه إليها).
وفي الأسبوع التالي كان صبرها قد نفد، فدعته إلى حفل موسيقى في الأوبرا.
رغم أنه سبق أن تردد على «متحف الفن الحديث» ب
القاهرة
عندما كان يقع في ميدان
التحرير (قبل أن يتم هده ويتحول إلى جراج للسيارات)؛ حيث كان المغرمون يستمعون مجانا إلى تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية، إلا أن غرامه اقتصر على مقطوعات تغلب عليها الميلودي، وككل المصريين كان يعرف موسيقى
كورساكوف
التي تستخدم في المسلسل الإذاعي
ألف ليلة وليلة ، وكأغلبهم يعرف السيمفونية الخامسة ل
بيتهوفن . وكانت هذه هي المرة الأولى التي يستمع فيها إلى عرض «حي» ولموسيقى من؟
باخ
دون غيره.
روت له قصة الموسيقار العظيم، أول من كتب كونشرتو للبيانو في التاريخ. لكن موسيقاه بدت غريبة على أذنه، شأنها شأن الغناء الذي أداه مغن شهير وضعت صورته على برنامج الحفل، وصفق له الناس واستعادوه مرة. كما بدا أفراد الكورال الذين ملئوا خشبة المسرح، أكثر غرابة؛ نساء عجفاوات، وواحدة عمياء، وأخرى عرجاء، ورجل بجبهة عريضة جدا وأنف مفلطحة، وآخر بجبهة ضيقة جدا وأنف قصيرة. كأنما أتوا من متحف.
عندما انتهى العرض سارا سويا بعض الوقت. لم يكتم نفوره من الكورال و
باخ
نفسه. انفعلت واتهمته بالجهل. ورد بغطاء ثقافي لموقفه. قال: إن الأرغن آلة من الماضي؛ الأسر الكبيرة العدد والحياة الروتينية الخالية من الراديو والتليفزيون. وعارضته بحمية، فهو يذكرها بطفولتها وحياة الأسرة عندما تجتمع وتغني، فضلا عن رقة الموسيقى وروعتها وطريقة بنائها. أوشكت الأمسية على نهاية مأساوية لولا أن الربيع كان على الأبواب.
كان الجليد قد ذاب وانقطع المطر. وعندما توقف الكلام بينهما فترة قالت فجأة: لماذا تتجنب تقبيلي؟ عندئذ قبلها. ولمست شفتاه شفتين رفيعتين رقيقتين في قبلة أخوية للغاية.
لكنها أدت دورها فقد صحبها إلى منزلها.
لم يكن منزلا بالمعنى الحديث؛ ففي منطقة مهجورة قرب الحائط الفاصل بين شطري المدينة الذي بنته
برلين
الشرقية في 1961م، لتحول بين أبنائها والهرب إلى الشطر الغربي، دلفا من بوابة خشبية ضخمة فتحتها بمفتاح كبير الحجم، إلى فناء واسع تطل عليه ثلاث بنايات، لكل منها أربعة طوابق. وبمفتاح آخر ولجا إحدى هذه البنايات وصعدا سلما خشبيا أن تحت أقدامهما، إلى الطابق الثاني، ومسكن مقتطع من شقة كبيرة (تماما كالمنزل التي قضى به سنوات مراهقته) ويتألف من مطبخ، وصالة واسعة بها مائدة وأريكة ومدفأة من الحجر المغطى بخزف بني اللون، وبوفيه فوقه راديو مستطيل الشكل بادي الجدة، تحيط به سماعتان، ثم غرفة صغيرة بها فراشان ضيقان؛ واحد لها، والثاني لطفلها. وعندما استفسر عنه قالت: إنه سيقضي الليلة عند الجيران (وبذلك خلا لهما الجو). ولم يكن هناك تليفزيون. علق على الظاهرة الغريبة، فقالت: إنه جهاز غبي. على الأقل هنا في
ألمانيا
الشرقية.
استقرا في الصالة، وأدارت الراديو على الفور وهي تقول إنها لا تطيق الأغاني الحديثة المبتذلة؛ لهذا فهي تضع مؤشر الجهاز على محطة دائمة للموسيقى الكلاسيكية. ثم ضحكت؛ فقد تصاعدت من الجهاز موسيقى مألوفة؛
باخ .
أعدت عشاء بسيطا من الجبن والزبد وال
فورست
البارد والنبيذ الأبيض. وجلسا متجاورين فوق الأريكة. قالت وهي ترفع الكأس إلى فمها الصغير: عندما تخرجت من الجامعة في الجنوب جئت إلى
برلين
محملة بالآمال. أراد أن يعقب قائلا: من منا لم يكن. لكنه ترك لها الميكروفون. أقامت في منزل صديقة بالجزء الخاضع للجيش الروسي، والذي صار فيما بعد
برلين الشرقية ، واشترت كلبا منع من دخول غرفتها كي لا يلوث السجادة. وتعودت الصديقة ضربه عندما يختطف الجوارب المعلقة في حبال الغسيل بالمنازل المجاورة. فكانت تصحبه إلى التواليت - هربا من القمع - ويجلس أمامها هازا ذيله وعيناه معلقتان بعينيها. ويتبادلان حديث العيون إلى أن تستعجلهما الصديقة. وأخيرا باعته وصارت تختفي في التواليت وحدها لتبكي.
توالت الإحباطات. كانت عضوة نشطة في الحزب، وعهد إليها بأن تتردد على الأجزاء الأخرى من المدينة التي تديرها جيوش
أمريكا
و
فرنسا
و
إنجلترا ، والتي صارت فيما بعد
برلين الغربية ، لتقرع الأبواب وتدعو للحزب. لكن الأهالي كانوا يطردونها.
مد يده وأخذ يعبث بشعرها مواسيا، ثم أزاحه من فوق وجهها، فتكشف عن ملامح جديدة؛ جبهة عريضة ناتئة على الجانبين. أبعدت يديه وهي تتطلع إليه في قلق قائلة: هكذا أبدو ألمانية تماما.
تراجع إلى الخلف. لا عن اعتراض؛ وإنما لرغبته في التبول. شرحت له أن التواليت خارج الشقة، داخل صندوق خشبي أقيم على البسطة بين الطابقين الثاني والثالث. وعند عودته وجدها اختفت في المطبخ لتغتسل من حوضه. ثم اجتمعا في غرفة النوم الصغيرة.
خلع ملابسه، واندس في الفراش الضيق، وانضمت إليه بعد قليل. قبل فمها الصغير. قالت: إنها تعرف أنه ليس جميلا. سألها: لماذا؟ قالت: الموضة الآن هي الفم الواسع والشفتان الممتلئتان.
لكن جسدها كان على الموضة؛ فعندما تحسسه فوجئ بنعومته الشديدة، وفوجئت هي عندما بادلته الفضول بالتواء عضوه (نتيجة انكسار عضلة أثناء الختان أو الاستمناء بعده). أبدت دهشتها، فزعم لها أنه كان يملك اثنين، ثم فقد واحدا في التعذيب الذي يتعرض له من يشتغل بالسياسة في بلده. استقبلت المعلومة الجديدة في حيرة على عكس استقبالها الحماسي لجسمه.
تحرك على مهل، وسرعان ما تسارعت حركاته بينما يبذل أقصى جهد للسيطرة على نفسه. أن الفراش المتهالك، فقفزت واقفة قائلة: إن العجوزتين المجاورتين ستسمعان الصوت. جذبت لحافا وبسطته على الأرض ثم تمددا فوقه. أمسكها بين ساعديه في قوة، ولأنه كان غير متورط عاطفيا، استطاع التحكم في نفسه إلى أن بدأت تحرك عضلاتها الداخلية حركة دائرية. ورددت:
إيش، إيش . أنا، أنا. إلى أن جاءا سويا .
راضيا بأنه نجح في الامتحان، انتقل إلى الفراش الآخر، واستغرق في النوم.
في الصباح كان عليه أن يغادر الشقة ليزور التواليت، فأوشك أن يصطدم بعجوز خارجة منه. ثم تناولا إفطارهما، وأسرعا يلحقان ب
الأوبان ، إلى أقرب محطة من
فريدريش شتراسه . ومقر الوكالة حيث ينتظره
نويمان ، واضعا يده على بطنه. و
فخري .
11
تغير موقف
فخري
من تدخلات
صادق
في نصوصه بعد ظهور شقة
شفارتس مير شتراسه ؛ فقد تمثل الإمكانيات الثقافية التي تقدمها. استفاض في دردشاتهما حول الأوضاع في الوكالة؛ سر عزوف
قادر
عن الشراب (هو في الأصل مدمن للكحول، وتحت العلاج، ومنفصل عن زوجته الألمانية، وبين الحين والآخر يعود إلى الشراب بجنون، وإلى زوجته، ثم يضربها، ويتركها، ليمتنع عن الشراب من جديد)، ثم الأوضاع العربية عموما؛ في
بغداد
اغتيالات سياسية للشيوعيين والأكراد. في
لبنان
مصادمات دامية بين المتظاهرين اللبنانيين والفلسطينيين من ناحية وقوات الأمن من ناحية أخرى. وفي
الأردن
إعدامات ومحاكمات للفدائيين الفلسطينيين. في
دمشق
انقلابات متتالية عبرت عنها مسرحية لكاتب سوري، بطلها شخص واحد يتغير اسمه في كل انقلاب. في
اليمن
الجمهوريون يقتلون بعضهم بعضا. في
عدن
ثلاثة انقلابات خلال سنتين. في
مصر
آثار الهزيمة الساحقة على يد الإسرائيليين. لم يذكر بالطبع الاعتداءات الإسرائيلية ولا المعارك الدموية بين الحزبين الكرديين، وإنما تطرق إلى معركة - غير دموية - بينه وبين
عدنان . - هل تعرف كيف تعرف
عدنان
ب
هيلدا ؟
بالطبع لم يكن يعرف؛ فلم يتحدث معه
عدنان
عن ذلك بالمرة (فقط شكا في لحظة صفاء أنه سريع في الإنزال، وأن
هيلدا
أحضرت له معجونا له تأثير سحري). قال
فخري
إنهما ذهبا سويا ذات مساء إلى مقهى
إسبريسو
القريب من الوكالة. تعرفا بفتاتين تجلسان بمفردهما. وكانت
هيلدا
إحداهما. تجاوبت معه حتى علمت أنه متزوج فانتقلت إلى
عدنان .
لم تحل هزيمته أمام العربي/الفلسطيني دون التواصل مع الآخر المصري. رافقه إلى حانوت لأسطوانات الموسيقى المنتجة في
تشيكوسلوفاكيا
أمام مسرح
برلينر انسامبل ؛ حيث اشترى مجموعة من معزوفات
باخ ، وإلى آخر حديث بميدان
ألكسندر بلاتز
لشراء كاميرا من إنتاج مصانع
زايس
ذات السمعة العالمية التي جاءت من نصيب
ألمانيا الديمقراطية
بسبب موقعها في مدينة
يينا . وشملت الملحقات التي اشتراها، عدسات ومرشحات وجهازا لقياس الضوء وآخر للطبع التشيكي الصنع، وعلبة للتحميض، وصينيتين من البلاستيك للأحماض، ثم الأحماض نفسها، وورق الطباعة، المصقول والعادي، الرقيق والسميك، ومنبها خاصا لقياس الدقائق والثواني، ولوحا معدنيا للتجفيف، وملقاطا من البلاستيك.
فكر
صادق
في تحويل الغرفة الصغيرة المجاورة لغرفة نومه إلى مكان لتحميض الصور وطباعتها، لكنه لم يتمكن من ذلك بسبب خطة التعريب؛ إذ انضم
نبيل حداد
إلى القسم.
جاء من
سوريا
مباشرة بعد أن أكمل دراسته الثانوية لتوه. كان في حوالي العشرين من عمره، قصيرا بصورة ملحوظة، يرتدي كل شيء على الموضة؛ نظارة طبية بإطار عريض يحتل نصف الوجه، بزة صوفية كاروهات ببنطلون ذي طرفين عريضين، بالإضافة إلى شعر أسود ناعم مفروق من جانب، وسوالف طويلة، وبشرة بيضاء ووسامة واضحة، ومعرفة لا بأس بها باللغة الألمانية. مؤهلات أخرى هامة: الأب من كبار العاملين في وكالة الأنباء السورية (سانا).
وصل من المطار إلى
شفارتس مير شتراسه
في منتصف الليل بصحبة
نويمان . احتل الغرفة الصغيرة بحقائبه وعرفه المدير بزميليه في السكن، فأراهما كتابا حمله معه عن تاريخ الأدب العربي ل
جورجي زيدان (كان غالبا من مواد دراسته الثانوية) فرح به
صادق
المحروم من الكتب العربية.
إذا كان
جورجي زيدان
مفاجأة؛ فإن
نويمان
نفسه تكشف عن مفاجأة أكبر؛ فعندما استعد للانصراف صافحهم واحدا واحدا ثم جذب «خياط» إليه وقبله طويلا في فمه.
بدا الانزعاج على وجه الفتى السوري. لكنه سرعان ما تمالك نفسه، وفكر أنه أمام تقاليد خاصة بالمجتمع الأوروبي والاشتراكي بوجه خاص.
خلال ذلك تواصلت عملية تثقيف
صادق
على يد
إنجمار . وشملت شراء قبعة غربية بدلا من القلنسوة الروسية. ولحاف لفراشها لاستخدامه في ليالي تثقيفه. وبعد انتقاد لملابسه (بنطلون جينز وسترة رمادية وقميص النايلون الذي يغسل قبل النوم ويكون جافا في الصباح ولا يحتاج إلى كي) التي لا تليق بوضعه الاجتماعي الجديد (في رفقتها)، اقتادته إلى حائك في حانوت واسع يخلو من المشترين والباعة على السواء، بشارع
أونتر دين ليندن
حيث اشترى قماشا صوفيا كحلي اللون حاكه له البائع على شكل بزة أقرب إلى أردية حفاري القبور، الحانوتية.
هكذا صار جاهزا للقاء الطفل والعجوزتين. ولجولة من التثقيف المضاد؛ فعندما حل
الأوستر ، عيد الفصح، أهدته أسطوانة ل
باخ
من خمس كونشرتات على
الهاربسكورد (آلة قديمة مثل البيانو)، ودعته إلى تناول البطة التقليدية في منزلها. أهداها بدوره مجموعة من خضراوات الربيع، على رأسها الخس الديكوري، وفرتها الحكومة فجأة في الأسواق على عادتها في الأعياد. وقال لها: إن العيد ابتدعه المصريون القدماء احتفالا بمقدم الربيع، وما زالوا يحتفلون به باسم عيد
شم النسيم ، ثم انتقل مع المسيحية إلى
أوروبا .
أذهلتها هذه المعلومة، ولعلها كانت صادمة، بمثل ما صدمه طفل الستة أعوام عندما لوح في وجهه مهددا بمسدس. ولم يمنعه هذا من انتزاع لوح الشكولاتة (ماركة
مارسي ) الذي أحضره
صادق
خصوصا له من الشطر الغربي، وأقبل يلتهمه بشفتين شهوانيتين، بينما الأم والعجوزتان - ال
فراوتان جيلزر - ترمقنه - لوح الشكولاتة - في لوعة. وتضاعفت اللوعة عندما قدمت
إنجمار
لضيوفها مع القهوة قطعة كبيرة من الكعك الهش المنفوخ الذي وضعت في فمه كمية كبيرة من الكريمة التهمتاها وهما ترددان: يا ... يا ... بصوت من يقول متفلسفا: دنيا .. دنيا.
قالت
إنجمار
وهي توزع الكعكة: هذا النوع اسمه «حقيبة الهواء». وكانت حلم كل الأطفال بعد الحرب مباشرة.
تنهدت العجوزتان، وهما ترددان في نفس واحد: يا ... يا.
اكتمل تثقيف
صادق الحلواني
وبقيت خطوة أخيرة؛
الويك إند .
اقتادته صباح يوم أحد إلى عشة بحديقة صغيرة تستأجرها على شاطئ إحدى البحيرات المحيطة ب
برلين . كانا بمفردهما؛ إذ تركا الطفل مع العجوزتين حسب رغبته. في الطريق حكى لها تعليق جريدة
مورنينج ستار ، التي يحصل عليها خفية من صديقته في القسم الإنجليزي، على إحلال
هوساك
محل
دوبتشيك
في مركز السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي التشيكي.
ذكرت الصحيفة أن هذا التغيير جاء بعد وقوع مظاهرات معادية للسوفييت إثر انتصار الفريق التشيكوسلوفاكي لهوكي الانزلاق على الجليد على الفريق السوفييتي، جرى فيها الاعتداء على مكتب الطيران السوفييتي وإحراق عدد من السيارات السوفييتية. ونسبت الجريدة ل
هوساك
تصريحا بأن قيادة البلاد لينة أكثر مما يجب. وقالت إن خط الحزم الذي سيتبعه
هوساك
استقبل بارتياح في البلدان الاشتراكية.
قالت بعد تردد: إنها حضرت اجتماع لجنة الحزب في الوكالة بالأمس، ولمح رئيس الجلسة إلى أن
هوساك
هو «رجلنا».
اقترب الحديث بذلك من منطقة الخطر، فلزمت الصمت. وانهمكا في تنظيف العشة وتشذيب الحديقة من آثار فصل الشتاء، وإعداد حفرة لدفن الفضلات. ثم حملا غداء بسيطا إلى الغابة المجاورة.
علق على أنها لم تغلق باب العشة بالمفتاح. قالت: لماذا؟ الألمان لا يسرقون؛ فهم مشهورون بالأمانة. استدركت: بالطبع الأمر الآن أقل من ذي قبل مع تقلص الملكية الفردية. انظر إلى المطاعم. سيخدعك النادل بمنتهى البساطة.
انطلقا في طريق يمر بأكواخ متقاربة. صعدا هضبة صغيرة. وامتدت أمامهما الأشجار العالية صفوفا متوازية تتردد في أعلاها أصوات الطيور بقوة؛ البلابل والعصافير ونقار الشجر. استمتع
الحلواني
برائحة الأشجار والحيوانات، وأساسا بغياب أي صوت بشري، إلى أن توقفت وتطلعت عاليا إلى قمم الأشجار بحثا عن شيء ما.
سألها عما تبحث فقالت: طائر
الكوكوك
النادر ذو الصوت الجهوري. أناني جدا وانتهازي. يضع بيضه في عش طائر آخر ليهرب من تربية فراخه.
ذكرها هذا بما حدث معها فتداعت الذكريات. عندما كانت صغيرة طلب منها جدها أن تذهب لإحضار حطب من الغابة، فمنعها حارسها، ثم سمح لها باستكمال حمولتها على ألا تعود إلى ذلك، فوعدته. واستغرب جدها الحمولة الممتلئة التي جاءت بها، فروت له ما فعله الحارس. تهلل وجه الجد، وقال لها إذن تذهبين غدا لإحضار حمولة أخرى. لكنها رفضت احتراما لوعدها.
ذكرى أخرى من الطفولة؛ عندما عاد الجيش النازي ظافرا من «بولندا»، ومر بمدينتها القريبة من الحدود، وتزاحمت الجماهير تحيي المنتصرين وتقذفهم
بباقات
الزهور، فمشوا فوق بساط حقيقي، منها: وقتها كان من الممكن الحصول على خادمة بولندية أو فرنسية مقيمة، بشرط ألا تأكل مع أصحاب البيت ولا تتغطى بلحاف.
لم يكن هناك لحاف في عشة
إنجمار . ولم يكونا في حاجة إليه؛ إذ عادا إلى
برلين
في المساء ليكونا جاهزين في الصباح التالي لمواصلة البناء الاشتراكي.
الفصل الأول
1
انتهيت من تصحيح ترجمة النبأ القادم من مكتب
القاهرة - نقلا عن جريدة
الأهرام - عن قرار الاحتفال بمرور 99 عاما على مولد
لينين . وتصورت ما سيحدث للنبأ بعد أن نذيعه؛ ستنشره جريدة
الجمهورية
المصرية نقلا عنا، ثم نعاود نشره نقلا عنها.
ناولني
ماجد
ترجمته للنبأ التالي: الحكم بالإعدام في
ألمانيا الديمقراطية
على أحد مجرمي النازية، الذي قاد في أبريل 1943م، حملة تصفية
الجيتو
اليهودي في
وارسو
وإبادة أفراده الذين ضموا عددا كبيرا من الأطفال. كان قد اختبأ بعد الحرب في قرية بجنوب
ألمانيا الديمقراطية
طيلة 25 عاما إلى أن وصلت إليه السلطات.
أصابتني دقات
التليبرينتر
بالصداع. تابعت الصفحات التي خرجت منه حاملة السطور المكررة. أزحت مقعدي إلى الخلف ودرت حول طاولة التحرير. تجاهلت نظرات
نويمان
القابع خلف مكتبه، مشرفا على الطاولة، ووقفت في النافذة أتأمل الطريق. مارة قليلون. سيارات
الترابانت
و
الفارتبورج ، المصنوعة في
ألمانيا
الشرقية، والأخرى القليلة العابرة من الغرب؛
فولكس
أو
مرسيدس . وظهرت الشمس فجأة فحزمت أمري.
تسللت خارجا وغادرت مبنى الوكالة دون معطف وكوفية وقبعة وقفاز ومظلة. الشمس! ولسعة برد خفيفة محببة. الأرض جافة تماما ولا أثر لبقعة مبتلة. لا خوف من الانزلاق والسقوط. لا ألم في الأذنين ولا سيولة مستمرة في الأنف.
قمت بجولة حول الوكالة شاعرا بأني خفيف والمارة جميعا بوجوه مشرقة مبتسمة. وقفت تحت أشعة الشمس لحظات ثم اتجهت إلى الفندق العتيد.
قطعت شارع
أونتر دين ليندن
حتى بوابة
براندنبرج . ظهرت بعض المقاعد فوق الرصيف الأوسط. وأخرج مقهى
دين ليندن
مقاعد الصيف مقلوبة فوق الموائد. مشيت حتى نهاية الشارع الذي خلا من المارة، ووقفت أتأمل الجياد المذهبة فوق البوابة والسفارة السوفييتية على الجانب الآخر من الطريق. وللحظة ساد سكون مطلق حطمته سيارة قادمة من الشارع المتقاطع.
عدت على مهل إلى الوكالة. أبرزت بطاقة هويتي للحارس الذي يعرفني جيدا فتأملها وتأملني فيما خلته غضبا أو حسدا. وخلت أنه أدرك ما فعلته من ترك للعمل. صعدت إلى مكتبي وجلست إلى طاولة التحرير. استعدت إحساسي بالشمس وتذكرت الأطفال الفلسطينيين.
كان هناك بالأمس نبأ عن استقبال مجموعة منهم من معسكرات اللاجئين في
الأردن
قدموا لقضاء خمسة أسابيع في معسكرات «الرواد»، التابعة للحزب، بدعوة مشتركة من مجلة
فوخن بوست
ولجنة التضامن الآسيوي الأفريقي وجمعية الصداقة الألمانية العربية. وفي يومهم الأول تفقدوا معالم
برلين ، فزاروا برج التليفزيون الجديد وحديقة الحيوان، وبعد الظهر شهدوا فيلم «التحرير» السوفييتي بعد أن استمعوا إلى شرح واف عن كفاح الشعب السوفييتي ضد الفاشية الهتلرية وانتصاره عليها.
خاطبت
نويمان : عندي فكرة.
تطلع إلي في ارتياب ثم قال: ما هي؟
قلت: ما رأيك في أن نقوم بتغطية خاصة لموضوع الأطفال الفلسطينيين؟
أجاب: كيف؟ - يمكنني القيام بذلك.
فكر لحظة ثم لمعت عيناه وقال: عظيم.
نهضت واقفا وأنا أقول: إذن اطلب لي سيارة تأخذني إليهم.
أشار لي بأن أعود إلى مقعدي قائلا: كل شيء يجب أن يتم بنظام.
ملأ ورقة بعدة عبارات ثم غادر الغرفة وغاب حوالي نصف ساعة. وقال عند عودته: النظام الألماني. كل شيء يتم بدقة وفي موعده. كل شيء الآن مضبوط. نطلب السيارة.
هرعت إلى الخارج، دون معطف وقبعة وقفاز ووشاح. مررت بسيدة خمسينية بيضاء الشعر إلى جوار باب القاعة الخارجية في وضع غريب؛ فبدلا من أن تجلس كالآخرين وظهرها إلى الحائط، واجهته معطية ظهرها للجميع. كنت قد لمحتها من قبل، ولاحظت أنها لا تكلم أحدا، وتحدق دائما إلى الحائط أو الأرض.
حملتني السيارة إلى معسكر الرواد. وجدت الأطفال في ساحة خضراء يستمتعون بالشمس. تعرفت بمرافقاتهم العربيات. كن ثلاث نساء في أعمار متفاوتة. أدفأتني لكنتهن الشامية بعد شهور من سماعها على ألسنة الذكور. أخرجت من جيبي مفكرة صغيرة وبدأت أقوم بمهمة الصحفي.
تحدثن عن ظروف الأطفال، وكيف تعرضوا لإرهاب مزدوج من جانب السلطات الإسرائيلية والسلطات الأردنية. وكيف يقيمون في مخيمات مبنية من الطين ومغطاة بألواح الزنك.
حدثتني أكبرهن سنا وتدعى
رسمية
عما قامت به السلطات الأردنية ضد اللاجئين الفلسطينيين: كنا خارج
عمان
نسمع مدافع القصف. كنت لدى أختي في شارع
المحطة
بين
القصور
و
جبل التاج . وكان رجال الشعبة الخاصة في الجيش الأردني الذين اندسوا بين حركات المقاومة بدعوى أنهم فدائيون هم الذين ضربوا الشعب.
بدا لي صوتها ساحرا في لهجته الشامية. قالت: إنها كانت تقوم بتدريس التاريخ، واصطدمت بالإخوان المسلمين الذين هاجموها على مآذن الجوامع، وعندما اشتكت لوزير التربية نقلها إلى مدرسة ابتدائية في مدينة أخرى تأديبا لها.
لفتت أصغر المرافقات انتباهي. كانت في العشرينيات، سمراء دقيقة الحجم، ذات عينين سوداوين واسعتين، وشعر فاحم السواد تدعى
سعاد ، حاصلة على ليسانس من جامعة
بيروت
العربية، ولها أخ أكبر في بعثة ب
باكستان
وأخ درس الهندسة في
ألمانيا الغربية ، وأخت في
بيروت ، وأخ صاحب مطعم في
دمشق .
قالت: إنها نزحت بعد الحرب إلى الضفة الغربية قرب
أريحا ، ثم إلى مخيم البقعة؛ حيث يحصل كل أربعة أشخاص في الشهر على 3 كيلو دقيق، نصف كيلو سكر، نصف كيلو زيت، 4 قطع صابون.
قدمتني إلى الأطفال؛ عشرين طفلا بينهم 8 بنات، تراوحت أعمارهم بين 11 و13 وأسماؤهم بين
أبو الثأر
و
أبو زياد
و
جيفارا
و
لينين
و
ماو . آباؤهم وأشقاؤهم في السجون؛ الإسرائيلية أو الأردنية، أو قتلوا أثناء العدوان الإسرائيلي في 1967م، وبقية أهاليهم موزعة بين
عمان
و
السعودية
و
لبنان .
سألتها: هل طلبوا شيئا خاصا؟
ضحكت: طلبوا كوتشينة وبذرا وحمصا وعلكة (لبان)، وتليفزيونا، وأحدهم طلب شراء كاميرا. - هل هم راضون؟ - جدا. بالأمس أخذنا المشرفون الألمان إلى حانوت دار الأطفال؛ حيث أخذوا سترات وملابس رياضية وأحذية بلغت قيمتها 25 ألف
مارك ، دفعتها الجهات الداعية.
استكمالا للتقرير كان لا بد من الحديث مع المشرفين الألمان. استمعت من شقراء خمسينية رقيقة الملامح عن الصداقة الألمانية مع الشعوب العربية والتضامن ضد الهمجية الإسرائيلية. وتجنبت السيدة الذكية أية إشارة إلى الهمجية التي تمارسها السلطات الأردنية.
سجلت برنامج تحركاتهم للأيام التالية وأنا أبتسم لنفسي؛ فقد وجدت وسيلة لمغادرة مبنى الوكالة إلى الشمس. وربما تمكنت من مصاحبتهم في جولاتهم. ثم هناك أيضا يوم مغادرتهم.
عدت إلى المكتب وكتبت الخبر، ثم راجعت أخبار النشرة الثانية. وجلست أتطلع إلى النافذة وشمس الغروب، أنتظر موعد الانصراف.
2
هطل المطر بشدة فبسطت مظلتي. مشيت مسرعا إلى حانوت قريب. تذكرت أني لم أتطلع خلفي ولا مرة مثلما كنت أفعل في
القاهرة
بشكل أوتوماتيكي بحثا عن رجال الأمن المتنكرين. وقفت نصف ساعة في طابور مكون من ثلاثة أشخاص. كان الحانوت واسعا كشفت أنواره القوية ضآلة محتوياته من الخضراوات والفواكه الطازجة، وصفوفا من علبها المحفوظة.
وصلت أخيرا أمام البائع فطلبت منه كيلو عنب وكيلو خوخ وفاصوليا صفراء وبقدونسا وفلفلا أخضر وخيارتين كبيرتين. وتعثرت في نطق كلمة
جوركن ، خيار، فأشرت إليه. تطلع البائع إلي في جمود متجاهلا إشارتي ومتظاهرا بعدم الفهم، وانتقل إلى الزبون التالي. ثم عاد إلي بعد أن فرغ منه وكرر مؤنبا:
جوركن .
جوركن . جمعت مشترواتي ودفعت عشر ماركات. ومن حانوت مجاور اشتريت زجاجة نبيذ بلغاري وأخرى من
بونا كامب
الشبيه بالكينا المصرية. وضعتهما في حقيبتي ثم خرجت إلى الباب. بسطت المظلة وسرت إلى موقف الباص.
راقبت ثلاث فتيات صغيرات يتبادلن الحديث مع شابين قدرت من هيئتهما أنهما من عرب أو أتراك أو أكراد
برلين الغربية ، الذين يطلق عليهم جميعا لفظ
أرابا . كانا بسوالف طويلة وبنطلونين ضيقين عند الركبتين وواسعين عند القدمين، ولف أحدهما لفاعة حمراء حول رقبته. وبدا لي أنهما يحاولان إغراء الفتيات لمصاحبتهما.
ابتعدت إحدى الفتيات قليلا ووقفت تتطلع حولها خجلة بينما زميلتاها تناديانها. تلفت حولي في ضجر. على الناحية الأخرى مقهى
بريس كافيه
الذي لم أدخله ولا مرة. وأمامه وقفت سيارة
ستروين
صغيرة، ذات الشكل الغريب الذي قيل: إنه من تصميم
بيكاسو ، قادمة هي الأخرى من الشطر الغربي، وبداخلها شاب بسوالف طويلة مال ناحية النافذة اليمنى يتابع المفاوضات الجارية. وعلى اليمين الجريدة المضيئة. وخلفي صندوق الصحف الذي برزت منه صحيفة
برلينر تسايتونج
المسائية. وألقى كهل متجهم الوجه بعملة معدنية في الصندوق وسحب واحدة. طواها في عناية، ثم وضعها في جيبه، ومضى في طريقه ليقرأها مع طعام العشاء.
جاء الباص بعد نصف ساعة ، فصعدت وتطلع إلي الركاب وإلى السلة التي أحملها، وفي أعينهم تساؤلات عن محتوياتها. نزلت في المحطة القريبة من المنزل. مشيت على مهل متحملا ثقل السلة. فتحت البوابة الخشبية بالمفتاح الحديدي الثقيل الذي أعطتنيه
إنجمار . عبرت الفناء، ووجدت الباب التالي مفتوحا، فصعدت السلم الخشبي. وضعت السلة على الأرض وأنا ألهث. دققت الجرس فلم ترد. تركت السلة بجوار الباب ونزلت. صعدت المبنى الآخر، وطرقت باب العجوزتين. فتحت لي
فراو جيلزر ، ودعتني إلى الدخول فاعتذرت، نادت على
إنجمار :
فراو هرمان (لقب صديقتي). وهتفت
إنجمار
من الداخل: قادمة يا
فراو جيلزر . وعجبت لأنهما تتخاطبان بطريقة رسمية بعد سنوات طويلة من العشرة اللصيقة.
سبقتها إلى أمام شقتها ووقفت أنتظر. سمعتها تهرول في الفناء ثم تلج المبنى والطفل في أعقابها يهمهم بشيء ما. توقفت خطواتها أمام صندوق البريد، وأخرجت الصحيفة المقررة،
نويس دويتشلاند ، وطوتها ثم صعدت وتطلعت إلي بنظرة متسائلة. أشحت بوجهي ووقفت بجانب الباب حتى انفتح ودخلنا.
قالت وهي تقود الطفل إلى المطبخ ليغتسل إنها ستفرغ لي بعد قليل. جلست على أريكة الصالة منحنيا إلى الأمام. أشعلت سيجارة وأنا أسأل نفسي عن السر في ضيقي. خرجا إلى المخدع فقمت ودخلت المطبخ وأعددت طبقا من السلطة. حملته إلى طاولة الصالة وجلست أنتظر. وجاءني صوتها تروي حكاية للطفل.
ظهرت بعد لحظات وأشعلت المدفأة ثم عبرت إلى المطبخ. عادت حاملة طبقا من البطاطس المسلوقة وآخر من
الفورست ، النقانق، وطبقين فارغين لنا.
سألتها: ألن يأكل
جون ؟
أجابت وهي تجلس إلى جواري: تعشى عند العجوزتين.
أضافت: تعتبرانه طفلهما. وكثيرا ما يسبب هذا شجارا بيني وبينهما. - أليس لديهما أبناء؟ - كان للكبرى ابن ثم مات فجأة. - والأخرى؟
شرحت لي أن الأختين تعيشان سويا منذ أمد طويل. إحداهما فقدت زوجها في الحرب ولم تعرف رجلا بعد ذلك، والثانية لم يكن لها رجل. عشرون سنة بلا رجال.
سألت في دهشة: لماذا؟ ترهبنتا؟ - أبدا. لم يكن هناك رجال كثيرون. - كيف كانت حياتهما إذن؟
هزت كتفيها وقالت: نهارا في سكرتارية إدارة حكومية. والمنزل بعد الخامسة، ثم تعدان طعام العشاء. تقرآن قليلا ثم تنامان في السابعة. في حجرة واحدة.
سألت: هل ...؟
ابتسمت وهزت رأسها: أبدا. إنهما تسخران دائما من المثليين. مرة كنا ثلاثتنا في مطعم وشربنا قليلا، وعندما خرجنا أرادت إحداهما أن تضع ذراعها في ذراع الأخرى، لكن هذه رفضت بشدة؛ لأنها لا تريد أن يظنها أحد «عمة دافئة». إنه التعبير الذي يطلق على هذا النوع من النساء.
أضافت بعد لحظة: تغيرت حياتهما قليلا بعد تقاعدهما. اشترتا جهاز تليفزيون. وصارتا تتأخران في النوم.
التفتت نحوي وكأنما تذكرت. قالت: كنا الآن نشاهد في التليفزيون الغربي مظاهرات الاحتجاج على التدخل السوفييتي في
تشيكوسلوفاكيا . - التليفزيون الغربي؟ كيف؟ ألا تخافون من العواقب؟
أشاحت بيدها في استهانة: الجميع يديرون تليفزيوناتهم على الغرب. وفشلت كل محاولات الشوشرة على الإرسال. - وماذا عن
تشيكوسلوفاكيا ؟ -
أولبريشت
نفسه حاول في مطلع الستينيات تطبيق نظام اقتصادي جديد شبيه بالنظام الذي سعى
دوبتشيك
إلى تطبيقه، نظام يستعين بآليات السوق لتنفيذ الخطط المركزية. لكن
بريجنيف
صده عن هذا المسعى. وجرى هجوم شرس على كل من يتبنى موقفا فكريا معارضا للخط العام، مما أدى إلى انتحار
إريش أبل
رئيس لجنة التخطيط، ثم تحول إلى هجوم في جبهة الأدب والفن. هل سمعت عن
راينر كونتسه ؟
هززت رأسي بالنفي. - شاعر كبير. استهزأ بالقيود الأيديولوجية الساذجة، فكتب قصيدة ساخرة عنوانها: «نهاية الفن» يقول فيها: «لا يجوز لك. هذا ما قالته البوم للديك البري، لا يجوز لك أن تتغنى بالشمس؛ فالشمس ليست بالأمر المهم. شطب الديك البري الشمس من قصيدته. قالت له البوم: أنت فنان. وهكذا تحول النور إلى ظلام دامس.» وقد استقال
كونتسه
من الحزب بعد ربيع
براغ .
شردت برهة ثم استطردت: لم أعد أعرف رأسي من قدمي. هناك قدر كبير من الكذب في الدعاية الغربية، ولكن ... ليست لدينا معلومات كافية. دائما ما كان يقال لنا أشياء وبعد سنوات يقال: إنها لم تكن صحيحة. حدث هذا مع
ستالين
ثم الآن
ماو تسي تونج . قيل لنا دائما: إنه ثوري ومنظر عظيم، ثم يقولون الآن: إنه مراجع وفلاح جاهل.
غيرت مجرى الحديث: قولي لي. هل تعرفين امرأة في صالة التحرير تجلس دائما بوجهها إلى الحائط ولا تكلم أحدا؟
قطبت حاجبيها: أجل. أبوها كان من قادة الحزب الشيوعي قبل الحرب، ثم اعتقله الروس، وفقد حياته في معتقلات
ستالين .
نظرت في الساعة فوجدتها تقترب من العاشرة. قلت: لا بد أن ننام الآن.
مضت إلى المطبخ ونهضت واقفا. خلعت ملابسي ورقدت عاريا فوق الأريكة. سمعتها تغسل أسنانها ثم تغتسل في البانيو، ثم ولجت المخدع وعادت عارية تحمل اللحاف؛ ففرشته على الأرض. وانضممت إليها.
قالت: أريد أن أطلب منك شيئا.
قلت: اطلبي. - أن تحلق ذقنك جيدا؛ فهي تلهب بشرتي.
3
ظهر
ويلي
في مدخل القسم العربي؛ خمسيني متوسط القامة بعوينات طبية وفم معوج، يخرج منه الكلام متلعثما. وتأهبت لسماع حديث كل يوم؛ أنه قضى في
القاهرة
بعض الوقت منذ سنوات وقابل فلانا وعلانا. ثم يوجه إلي نفس السؤال: هل تعتقد أن الحرب ستقوم مع
إسرائيل ؟ لكن الطريق اليوم كان ممهدا بصورة طبيعية بعد أنباء الاعتراف الدبلوماسي بجمهورية
ألمانيا
الديمقراطية من جانب
مصر
و
السودان
و
اليمن الجنوبي
و
سوريا
و
العراق .
قال: انتظرنا طويلا. كان المفروض أن يتم ذلك من زمان بعد المساعدات التي قدمناها لكم.
انطلق يعدد هذه المساعدات، وأنا أتأمل فمه المعوج مفكرا: هل الاعوجاج عيب خلقي أم نتيجة لإصابة في الحرب؟ ففي صدر شبابه تم تجنيده في الجيش الهتلري، ووقع في أسر الجيش السوفييتي طوال أربع سنوات. وبعد الإفراج عنه التحق بالعمل الصحفي، وحملته ثقافته الحزبية إلى رئاسة القسم الاقتصادي بالوكالة. قال لي مرة: نحن الألمان مجانين. نعمل بجنون، وعندما نشعر بالملل نشعل حربا نخسرها ثم نكرر الأمر. لماذا؟ لأننا نصل دائما متأخرين إلى السوق العالمية.
كان محبوبا من العاملين بسبب نشاطه الاقتصادي؛ فهو يبيعهم الفراولة التي يزرعها في حديقة منزله. وعندما ينعدم المحصول يبيع أوراق اليانصيب، شأنه شأن العجوز ذي القبعة العالية الذي يقف في مدخل محطة المترو.
اقتربت منا الشقراء الخمسينية التي شفيت بعد علاج مكثف من اكتئاب بالغ إثر وفاة زوجها، وصارت تضحك طول الوقت دون سبب. استفسرت منه عن أوراق اليانصيب ونصحتني بأن أشتري بعضها؛ لأن نجمي ممتاز هذا الأسبوع.
لم أدرك صحة النبوءة إلا بعد انصرافهما. كان
ماجد
قد انتهى من ترجمة نبأ عن مؤتمر صحفي في
برلين
لأحد قادة
الاتحاد الاشتراكي العربي ، التنظيم السياسي الوحيد في
مصر .
قرأت النبأ فوجدته كما توقعت. أشاد الرجل بالتغيرات الاقتصادية الواضحة في
ألمانيا الديمقراطية ؛ زيادة الإنتاج والدخل وزيادة إنتاجية العمل. وقال: إن معدلات النمو في هذه المجالات تعادل أرقى المعدلات العالمية.
سأله مندوب صحيفة
نويس دويتشلاند
السؤال التقليدي: كيف ترون موقف
ج. أ. د (
جمهورية ألمانيا الديمقراطية ) من الصراع في الشرق الأوسط؟
أجاب: هو موقف مبدئي.
تتابعت الأسئلة المتماثلة (وأجوبتها أيضا) من ممثلي الصحف الألمانية الشرقية؛
يونجه فيلت ،
هوريتسونت ،
برلينر تسايتونج : ما رأيكم في مؤتمر دول حلف
وارسو
والقرار الذي اتخذه بتأييد الدول العربية، ما رأيكم في موقف صحف
ألمانيا
الغربية من القضية العربية؟
ابتسمت وأنا أقرأ إحدى إجاباته: العمل الأيديولوجي في
ج. ع. م ،
مصر ، يحظى باهتمام بالغ؛ فنحن ننظم دورات سياسية لقيادات «الاتحاد الاشتراكي» يتم فيها تدريب أكثر من 35 ألف عضو في المعهد العالي للدراسات الاشتراكية. ونرسل إلى
ألمانيا الديمقراطية
120 دارسا لمدرسة الحزب و30 متعاونا كل ثلاثة شهور.
رفعت عيني إلى زجاج النافذة والشمس المشرقة في الخارج. شعرت بالاختناق، فخاطبت «نويمان» دون أن أغادر مقعدي: عندي فكرة.
تطلع إلى عابسا؛ فلم يعد أخيرا يرحب بأفكاري.
أشرت إلى خبر ممثل
الاتحاد الاشتراكي العربي : هذه فرصة لأن أجري معه حوارا مفصلا للقسم. خصوصا بعد الاعتراف الدبلوماسي.
تأملني باستغراق ثم أشرق وجهه بابتسامة عريضة. وبعد ربع ساعة أقلتني سيارة الوكالة إلى طرف شارع
فريدريش شتراسه
القريب من الحدود. وبين أطلال المنازل التي دمرتها الحرب استقرت «دار الصناعة» في مبنى فخم، حيث يقيم الوفد المصري. واصطفت أمامه سيارات
تاترا
التشيكية الرسمية السوداء.
ولجت بهوا امتلأت فوتياته الوثيرة بأعضاء الوفد. تبينتهم من بشراتهم السمراء وكروشهم البارزة وسمات الأهمية على وجوههم .
رافقني شاب ألماني في البزة الرمادية التقليدية التي تزين ياقة سترتها شارة الحزب عبر ممرات مفروشة بالبسط الحمراء. طرقنا بابا من الخشب السميك. سمعنا صوتا حادا: ادخل.
ولجنا غرفة واسعة تصدرها رجل ذو قامة عسكرية في قميص وبنطلون ووجه حليق يجلله شعر لامع مصفوف بعناية. جلس ممسكا بصحيفة اليوم المصرية، وقد انحنى من خلفه شاب مصري يقلب له صفحاتها.
دق جرس التليفون الموضوع فوق منضدة أمامه. رفع السماعة، وقال: شيء عظيم يا بك. هل رأيت الحجرة؟ سويت كامل. حاجة عظيمة.
عرفته بنفسي ووجهت إليه بضع أسئلة تقليدية عن تاريخه الشخصي. وصح ما توقعته؛ فقد كان عقيدا في الجيش قبل أن ينتقل إلى العمل السياسي في الاتحاد الاشتراكي. سألته عن العلاقات الودية بين البلدين، وخاصة بعد الاعتراف الدبلوماسي. وأخيرا السؤال المحتوم؛ انطباعات الزيارة.
قال: هم ناس ممتازون والتجربة الاشتراكية هنا ناجحة للغاية. وكأنما تذكر دوره أو ما ينتظره من تعليقات عند عودته إلى القاهرة، فأضاف على عجل: الرئيس
جمال عبد الناصر
أعلن عزمه على المضي في عملية التحول الاشتراكي، واقترح ألا تزيد الملكية الزراعية عن خمسين فدانا للفرد.
كان من الممكن أن أكتب كل ذلك دون أن أقابله أو أغادر مكتبي. لكني كسبت ساعة من الانعتاق من أسر المكتب. سألني باهتمام: كيف التحقت بالوكالة؟
حكيت له فسأل من جديد: يعني ليس للسلطات المصرية الرسمية علاقة بأمرك؟
أجبت باقتضاب: تمام.
قال: برنامجي مشحون بالاجتماعات. وأريد أن أفلت من كل ذلك.
خمنت ما يريده بالضبط. شيئا من الثقافة. لكنه خيب ظني.
قلت: أنا جديد هنا ولا أعرف اللغة. لن أستطيع مساعدتك.
قال: أريد فقط أن أشتري بضعة أشياء. معي بعض الماركات الغربية. وأريد مبادلتها بالنقود المحلية دون أن يلحظ أحد؛ لهذا لا أريد الاستعانة بسفارتنا في ذلك.
قلت: مفهوم. - كم السعر الآن؟
قلت: رسميا المارك الغربي يساوي المارك الشرقي. - وعمليا؟ - في السوق السوداء المارك الغربي بثلاثة شرقيين.
استخرج حافظة نقوده وسألني: هل تتكرم بتغييرها لي؟
قلت: لدي صديق يعرف هذه الأمر. بالمناسبة هل تنوي الذهاب إلى
برلين الغربية ؟
قال: أجل. أريد أن أشتري بضعة قمصان لأخي الصغير، وماكينة حلاقة كهربية، وملابس نسائية.
قلت: أنصحك ألا تذهب. الناس هنا حساسون لهذا الأمر. يمكنك أن تجد هذه الأشياء هنا في حوانيت
الإنترشوب ، التي تتعامل بالمارك الغربي والدولار. هناك واحد قريب أسفل محطة
فريدريش شتراسه .
أطرق برأسه قائلا: شكرا على النصيحة. أحد أعضاء الوفد يريد شراء سيارة مستعملة من الغرب. أنت تعرف القيود على شراء السيارات الأجنبية لدينا. ويقال: إن السيارات المستعملة رخيصة في
برلين الغربية .
قلت: فعلا. صديقي يمكن أن يساعده.
قال: جيد. متى؟
طلبت استخدام التليفون. وأعطيت عامل الفندق رقم الوكالة. وبعد ثوان كنت أحادث
فخري . ورتبت لقاء بينه وبين ممثل الاتحاد الاشتراكي، ثم استأذنت في الانصراف.
4
غادرت ال
إس بان ، المترو العلوي، في محطة
ألكسندر بلاتز
وانتقلت إلى
الأوبان ، مترو الأنفاق، المتجه إلى
فريدريش فيلده .
وجدت نفسي بين مجموعة من شباب ال «إ
ف دي يوت ، منظمة الشباب التابعة للحزب، بالقمصان الزرقاء التي تميزهم. رأيت بينهم فتاة صغيرة الحجم تقبل شابا آخر بقبلة أقل وصف لها أنها تجريبية. وعندما ركبنا العربة جلست بجوار شاب آخر، ووقف الشاب الأول الذي قبلها إلى جوار فتاة شقراء بشعر قصير تدلت أطرافه المتساوية فوق جبهتها. كان يحاول احتضانها وهي لا تبتعد عنه ولا تنحيه جانبا، لكنها لا تترك نفسها له. جلست في مواجهة فتاة أخرى بشعر أسود غير مرتب ورداء قصير كشف فخذيها، أعطت يدها بعد قليل للشاب الجالس إلى جوارها، وبدا عليها شيء من الوله. ونزلوا جميعا في صخب في آخر محطة.
سرت حوالي مائة خطوة ثم ولجت شارعي. مضيت بين صفين من الشجيرات المزروعة حديثا حتى المنزل.
التقت عيناي بعيني العجوز التي تقطن الشقة المجاورة لي، والتي تابعتني في جمود من خلف زجاج نافذتها. دفعت الباب الزجاجي الخارجي وصعدت الدرجات القليلة وأنا أستخرج مفتاح بابي. وشعرت بها تتلصص علي من خلف باب شقتها.
ولجت المسكن وألقيت نظرة على حوض المطبخ الممتلئ بمخلفات اليوم السابق. شعرت بالغضب لأن زميلي في المسكن،
عدنان
و
نبيل ، لم يلتزما باتفاقنا على توزيع المهام المنزلية والمحافظة على نظافة المطبخ.
مضيت إلى غرفتي وخلعت سترتي. جمعت ملابسي المتسخة، ووضعتها في كيس من القماش، ثم ارتديت سترتي من جديد، وحملت الكيس إلى الباب. تركته هناك ودخلت المطبخ. جمعت زجاجات البيرة الفارغة وحملتها في سلة من الخيوط البلاستيكية المتشابكة، وغادرت المسكن بعد أن التقطت كيس الملابس.
اتجهت إلى مجمع الخدمات القريب. مررت ببناية حديثة من حوالي عشرة طوابق. ولجت المغسلة، وأفرغت محتويات الكيس في إحدى الآلات وشغلتها، ثم مضيت إلى
الكونسوم ، السوبر ماركت التابع للدولة.
أودعت الزجاجات الفارغة في المكان المخصص لها، وأخذت إيصالا ب
فينيجات
قليلة مقابلها، ثم التقطت سلة بلاستيكية. طفت بصفوف الأطعمة المحفوظة، وانتقيت علبتين من الرنجة المدخنة، وأخريين من الجبن المطبوخ، أضفت إليها كارتونة من البيض، وقالبا من الزبد، وبرطمانا من المربى. انتقلت إلى قسم الخضراوات ولم أجد بالطبع طماطم أو خيارا. أخذت حبة
قرنبيط
من الذي يعشقه
عدنان
ويسميه
الزهرة ، وحبة
كرنب
ملون، وبضع حبات من البطاطس، ثم مضيت إلى قسم المشروبات.
كانت هناك أنواع وفيرة من الكحوليات المحلية التي تعلمت تجنبها بسبب رداءتها؛ «ليكيرات» بالبيض والفواكه وغيرها. لم أجد
الفودكا
الروسية التي تتوافر أحيانا. اكتفيت بعدة زجاجات من بيرة
بيلسنر
الألمانية اللذيذة بعد أن بحثت عبثا عن بيرة
بوك
السوداء التي أعشقها. واتجهت إلى الخزينة.
وقفت في طابور طويل تحرك في بطء. وفوجئت ب
إيزابيلا ، إحدى زميلات الوكالة من القسم الإسباني، تتقدمني متأبطة ذراع شاب ألماني فارع القامة مفتول العضلات. كانت أربعينية طويلة القامة سمراء البشرة، عصبية الملامح، من أم ألمانية وأب إسباني شارك في الحرب الأهلية ضد
فرانكو . وبدا الشاب في نصف عمرها.
قلت مرحبا: لم أعرف أنك تقيمين في هذا الحي.
قالت ضاحكة: أنا أقيم بعيدا. لكني هنا لزيارة صديقي.
قدمته لي باسم
رولف . وكان يحمل في يده علبة تحوي نموذجا لطائرة. وحملت هي زجاجة نبيذ.
سألته: أأنت معنا في الوكالة؟
قال: كنت. عملت سائقا خاصا للمديرة. هكذا تعرفت ب
إيزابيلا . - والآن؟
قال باعتداد: أصبحت منذ أسبوع السائق الخاص للسفير العراقي.
بلغنا الخزينة. دفعت حسابها، وقالت لي ضاحكة بينما صديقها يدفع ثمن نموذج الطائرة: الرجال وألعابهم. من القطارات ونماذج الطائرات إلى جمع سدادات زجاجات البيرة وعلب الثقاب. يظلون أطفالا طوال عمرهم.
غادرنا الحانوت سويا. أشارت إلى المبنى المرتفع ذي الطوابق العشرة. وقالت:
رولف
يقيم في هذا المبنى. وهو مبنى حديث للغاية، شيد من ألواح سابقة التجهيز، ومخصص للعازبين من الجنسين؛ فهو مؤلف من شقق صغيرة تتسع كل منها لفرد واحد.
لكزته بمرفقها وأضافت: اللجنة الحزبية للسكان تقيم حفلا أسبوعيا كي يتعارفوا.
تركتهما يتجهان إليه، ومضيت إلى المغسلة. التقطت ملابسي، وواصلت السير حتى المنزل. لم يكن أحد من رفيقي قد وصل. ألقيت الملابس فوق فراشي، وخلعت سترتي وعلقتها على المشجب المثبت في ظهر الباب. شعرت بالراحة لأني تخلصت من ضغط مفتاح بوابة
إنجمار
الحديدي الثقيل في جيبي. وضعت سلة المشتروات في المطبخ، ثم استخرجت زجاجة بيرة من البراد وفتحتها وحملتها إلى الأريكة أمام التليفزيون.
تفرجت على برنامج
ساندمانشان (رجل الرمل الصغير). كان برنامجا جميلا موجها للأطفال، ويأتي دائما في السابعة قبل موعد نومهم. وتلته نشرة الأخبار؛ الحرب في
فيتنام ، والاعتداءات الإسرائيلية على الشعوب العربية، والمظاهرات في
ألمانيا الغربية
ضد نشاط الحزب النازي الجديد ووحشية البوليس في التعامل معها. ثم تعليق أورد مقتطفات من تصريحات زعماء
ألمانيا الغربية
وبرنامج الحزب النازي الجديد. ثم تقرير مصور عن أعمال البناء التي تجري بمناسبة قرب الاحتفال بالذكرى العشرين لمولد جمهورية
ألمانيا الديمقراطية .
انتهت النشرة، وأعقبها تعليق سياسي ل
فون شنيتزلر . كان - كما يوحي اسمه الأرستقراطي - ذا مهابة ووقار. تحدث في سرعة مدركا أن المشاهدين سينتقلون إلى قناة أخرى هربا من حديثه الذي لم يتجاوز ما جاء في نشرة الأخبار. وظهرت المذيعة لتعلن عن برنامج المساء، ثم سكتت لحظة وأعلنت في بطء وهي تشعر أن كل العيون معلقة بها عن فيلم بوليسي في الساعة العاشرة.
حولت إلى قناة
برلين
الغربية. وتجاهلت شحوب الإرسال بسبب عمليات التشويش الفاشلة التي تقوم بها
ألمانيا الشرقية . شاهدت فيلما ممتازا للمخرج الإيطالي
روسيليني
من إنتاج التليفزيون الفرنسي يصور صعود
لويس الرابع عشر
إلى السطوة.
كانت كل لقطة من الفيلم معدة بأسلوب اللوحات الفنية التاريخية. وأعجبني تصوير الفيلم لتطور شعوره بالسلطة من خلال التغيرات التي أحدثها في السلوكيات وخاصة في الأزياء.
فتحت زجاجة بيرة ثانية واسترخيت في مكاني. داعبت فكرة الذهاب إلى
إنجمار
وقضاء الليلة معها. تصورت عملية الذهاب وركوب
الأوبان
ثم الانتقال إلى الآخر القديم ذي النور الضعيف، وكيف يصعد عاليا فوق
شنهاوزر ألليه ، وتبدو من نوافذه حجرات منازل قبل الحرب الواسعة التي تستدعي المقارنة مع الحجرات الحديثة الخانقة، ثم أغادره بعد محطتين وأمشي مسافة حتى منزلها قرب الحائط.
عدلت عن الخروج، وما لبث
عدنان
أن وصل في صحبة
هيلدا . صحبته إلى المطبخ وعاونته في إعداد طعام العشاء من «القرنبيط» المحمر، بينما استرخت
هيلدا
أمام التليفزيون معلنة أنها متعبة للغاية.
وفد
نبيل
في هذه الأثناء في صحبة فتاة شقراء جديدة. كانت أطول منه في ملابس أنيقة وجوبة تتوقف عند منتصف فخذيها. ولحظت نظرة امتعاض على وجه
هيلدا .
قلت له: جئت في وقتك. سيكون العشاء جاهزا بعد دقائق.
قال وهو يسحب فتاته إلى غرفته: شكرا. أكلنا في مطعم.
أكلنا نحن أمام التليفزيون. وعندما انتهينا قمنا أنا و
عدنان
بإزالة أطباقنا وحملناها إلى المطبخ مع طبق
هيلدا
التي استرخت في مكانها تتابع التليفزيون دون أن تعبأ بمساعدتنا.
اغتسلت، ومضيت إلى غرفتي مارا بغرفة
نبيل
المغلقة. تناهت إلى سمعي أصوات حديثهما. ولاحظت أنه يتحدث الألمانية بطلاقة.
ولجت غرفتي وأغلقت بابها بالمفتاح. تناولت الكاميرا وقمت بلف الفيلم داخلها حتى يعود إلى عبوته. أطفأت نور السقف وأضأت المصباح الأحمر، ثم جذبت ظهر الكاميرا وأخرجت عبوة الفيلم. لففته حول الإصبع الحلزوني داخل علبة التحميض وأفرغت فيها نصف لتر ماء من زجاجة ومحتويات الكيس الأول من الحامض، ثم أضفت محتويات الكيس الثاني في جرعات صغيرة، وقلبت المزيج حتى ذاب تماما. كانت عملية صعبة تدربت عليها طويلا.
قصصت لسان الفيلم بصورة مستقيمة. وجعلت الطبقة الحساسة غير اللامعة إلى الخارج، ثم شبكت الثقب الثاني من أسفل في الإصبع الحلزوني. أدرت الفيلم بيدي اليسرى حوله إلى اليسار ببطء، ثم أغلقت العلبة، وأضأت النور، وضبطت المنبه.
أدرت الحلزون ببطء عدة مرات في اتجاه السهم. انتظرت أربع دقائق وعيني على المنبه ثم مضيت إلى الحمام. رميت المحلول من فتحة الإناء وصببت فيه مياه الصنبور. انتظرت خمس دقائق ثم أفرغت المياه، ووضعت سائل التثبيت الذي أعددته من قبل في زجاجة خاصة. بعد عشر دقائق أخرى أفرغت السائل ووضعت العلبة تحت الصنبور وعدت إلى غرفتي.
انتظرت نصف ساعة ثم مضيت إلى الحمام فأفرغت محتويات العلبة وحملتها إلى الغرفة. رفعت الغطاء وأخرجت الفيلم ورفعته في الضوء. كانت الصور السلبية واضحة. تناولت مشبكا معدنيا من درج المكتب وعلقت الفيلم في مقبض النافذة، أعلى الشوفاج، ليجف.
غادرت الغرفة إلى الحمام. كان المسكن غارقا في الظلام يخيم عليه الهدوء التام. غسلت يدي جيدا. ولاحظت أن
هيلدا
قد استحمت ولم تعن بتنظيف الآثار المتخلفة عنها.
لجأت أخيرا إلى فراشي بعد أن ضبطت المنبه على السادسة والنصف. نمت في عمق ثم استيقظت على صوت المنبه. قمت مسرعا إلى الحمام. وسمعت صوت فتح وإغلاق باب الشقة مرتين. وفكرت أن الفتاتين قد انصرفتا لعمليهما. ثم سمعت صراخا مفاجئا فاندفعت خارجا إلى الصالة.
وجدت
نبيل
عاريا وهو يتأمل شعر عانته في المرآة موشكا على البكاء. انضم
عدنان
إلينا ووقف مذهولا مما يجري.
كشف الشاب السوري عن ثقافة واسعة رغم صغر سنه؛ فقد أعلن أنه أصيب بعدوى قمل العانة من «أخت الشرموطة».
اقترح
عدنان
الذهاب إلى طبيب الوكالة، فرفض الشاب تجنبا للفضيحة. واستقر الرأي على الالتجاء إلى المركز الطبي في مجمع الخدمات المجاور.
5
أعد لنا
نويمان
السيارة
الفارتبورج
لتأخذنا - نحن الأعضاء الجدد في القسم العربي - لزيارة معسكر اعتقال
بوخنفالد (غابة أشجار الزان ) الشهير.
انطلقنا في الثانية. وجلست في المقدمة إلى جواره بينما جلس
عدنان
و
نبيل
في الخلف.
أدار راديو السيارة بصوت مرتفع. وأخذ يتكلم طول الطريق قائما بدور المرشد السياحي: هذه حقول بألوان رائعة، وهذه المرأة الضخمة تعمل فوق آلة حصاد.
أعطانا أيضا بعض المعلومات الشخصية؛ فقد قضى عاما في معسكر الأسرى الألمان في
بلجيكا
في نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أنه يملك سيارة
ترابانت ، لكنه سيترقى قريبا؛ إذ حجز سيارة
فارتبورج
سيتسلمها بعد عام.
شعرت بالصداع فمددت يدي إلى الراديو وخفضت صوته. وبعد دقائق قام هو بتعليته من جديد. وتكررت هذه المهزلة حتى بلغنا
جوتا
بعد أربع ساعات، ثم مررنا بقرية بدت ميتة تماما ومنازلها الخشبية المتجاورة متلاصقة وذات واجهات ممسوحة بلا أي بروز. ولم نر أحدا في الشارع.
قبل أن نبلغ
إيرفورت
بخمسة كيلومترات انحرفنا إلى طريق
الأوتو بان
الذي يمتد من
أيزناخ
قرب الحدود إلى
برلين . وهنا انطلق بسرعة. وكان الطريق مزدحما بالسيارات. وجعل همه أن يسبق كل سيارات
الترابانت
المتواضعة التي نصادفها، فكان يضاعف سرعته وينتقل إلى يسار الطريق، ثم يعود إلى يمينه بعد أن يتجاوز السيارة المسكينة التي تبدو كعلبة كبريت متأرجحة وتوشك هبة هواء أن ترفعها وتطوح بها عاليا.
وصلنا
فايمار
بعد ساعة. شوارع مشجرة ببيوت من طراز قديم لها بلكونات بارزة تبدو كمنازل
القاهرة
القديمة. وقال
نويمان
إن المباني الحديثة كانت تبنى دائما ببلكونات بارزة حتى زار
أولبريشت
المدينة مع عدد من رجال الحزب، فأعلن أنه لا يفهم جدوى البلكونات؛ لأن
ألمانيا
ليست مثل
إيطاليا ، ولا تعرف الشمس إلا شهرين فقط في السنة، وبذلك تكون البلكونات تبذيرا لأموال الشعب. وفي اليوم التالي دعت الصحف إلى إلغاء البلكونات البارزة، وخلت منها البلوكات السكنية بعد ذلك.
بسرعة عبرنا الطريق الذي يقوم فيه منزلا
جوته
و
شيلر
المتجاوران. ثم انطلقنا في طريق مرتفع تطل عليه بلوكات سكنية، قديمة بعض الشيء، لها شرفات ملونة بارزة.
قال
نويمان : هذه منازل الضباط الروس؛ فلهم حامية قريبة. الضباط فقط هم الذين يسمح لهم بإحضار عائلاتهم، أما الجنود فلا.
بلغنا نصبا تذكاريا من الرخام الوردي عليه كلمة
بوخنفالد . انطلقنا في طريق جميل بين صفوف من الأشجار الكثيفة العالية، وأشجار الزان الرشيقة الملساء ذات الرءوس المدببة. دار الطريق عدة مرات وحاولت أن أتمثل شعور المعتقلين الذين كانوا يعبرونه كل يوم ذاهبين إلى المعتقل بلا عودة، وشعور ضباط المعتقل الذين كانوا يقطعونه في الموتوسيكلات الشهيرة ذات المقاعد الجانبية.
عبرنا مدخل المعسكر المحاط بالأسلاك الشائكة. ومررنا أسفل لافتة تحمل هذا الشعار الساخر: «لكل ما يستحق».
استقبلنا مرشد شاب يحمل شارة الحزب الدقيقة في ياقة سترته. واجهنا معطيا ظهره للمعسكر وقال: أقيم هذا المعسكر في عام 1937م، ليضم معارضي
النازي ، ويجري تحطيمهم معنويا بالمعاملة الوحشية. تعرض 18 مليون فرد هنا للتعذيب. آلاف من الألمان والبولنديين. ولم يعد 11 مليونا منهم إلى الحرية؛ إذ ضربوا حتى الموت، ثم أحرقوا في أفران الغاز.
أشار إلى الطريق الممتد وسط المعسكر، وقال: السجناء أطلقوا على هذا الطريق «شارع الدماء».
تقدمنا إلى ساحة واسعة، كان يجري بها تعداد المساجين والنداء عليهم، وكانوا يجبرون على الوقوف ساعات كل صباح ومساء من أجل ذلك تحت الثلج والمطر. وغالبا ما كان البعض يسقطون موتى أثناء الانتظار الذي يستمر أحيانا 18 ساعة. ولا ينتهي الأمر عند ذلك؛ إذ يقادون إلى المحجر لتصفيتهم، فيرغمون على السير وسط صفين من الحراس الذين يضربونهم بالهراوات أو يطلقون عليهم الرصاص، ثم يعملون حفاة في تكسير الأحجار ونقلها، تماما كما حدث للشيوعيين في معتقل
أبي زعبل
شرق القاهرة منذ سنوات قليلة.
فكرت: ترى، هل أشرف خبراء ألمان على ذلك أم تفتقت عنه عبقرية رجال
جمال عبد الناصر
بمفردهم؟
احتوت الساحة أيضا على عامود خشبي يعلق السجين فوقه ليجلد بالسياط والأحزمة الجلدية. لدينا في
مصر
أيضا منذ القدم «العروسة» التي تقوم بنفس المهمة.
دخلنا أحد العنابر التي ضمت عند نهاية الحرب قرابة أربعين ألف معتقل وضعوا في فجوات خشبية، تضم كل واحدة 3 أو 4 مساجين يلتحفون ببطانية واحدة. التقطت لها صورة وأنا أتخيلها بقاطنيها السابقين .
أخذنا المرشد إلى مبنى يدعى «المعزل»، استخدمه النازيون لانتزاع الاعترافات بالجلد بالسياط والوطء بالأقدام والشنق والتسميم، ثم ولجنا العنبر رقم 8 الذي خصص للأطفال. تصدرته صورة لجموع من الأطفال في ملابس رثة خلف الأسلاك الشائكة وأخرى لهياكل عظمية لهم.
مررنا بالمحرقة. كانت الأدخنة تنطلق منها كل ليلة، فيراها
برينبك ، كما ذكر لي، من المصنع الذي يعمل به.
عدنا إلى المدخل، وولجنا مكتبا إداريا علقت بجدرانه عدة لوحات لأصحاب الاحتكارات التي ساندت
هتلر ، وهي
فليك
و
كروب
و
ثيزين
و
سيمنس
وغيرها، وكيف كوفئوا بعقود التسليح وعمالة السخرة من معتقلي المعسكرات. وعلى سبيل المثال بلغت أرباح
آي جي فاربن
عام 1943م، 822 مليون مارك.
سألت: ماذا حدث لهم؟
أجاب المرشد مبتسما: أدينوا بهذه الجرائم بعد الحرب، ورغم ذلك ما زالت شركاتهم تمارس نشاطها وهم على رأسها.
حملت لوحة أخرى صورا زنكوغرافية من رسائل متبادلة، منها واحدة بتاريخ 29 ديسمبر 1941م، تقول: «لما كانت التجارب على الحيوانات لا تعطي تقييما مناسبا يجب أن تجرى هذه التجارب على البشر». ورسالة ثانية بتاريخ 13 أبريل 1943م، بعنوان: «التجربة الأولية» وبتوقيع دكتور
دينج
من المعهد الصحي التابع لقوات
الجستابو : «... أبدى الأفراد الستة الذين حقنوا في الأوردة مرة أخرى أعراض حمى عنيفة، ومات منهم خمسة.»
علق المرشد: أجريت التجارب لمصلحة شركة
آي جي فاربن
لإنتاج أمصال ضد الحميات.
قادنا إلى ركن به صندوق زجاجي ضم قفازا وأباجورة وسوطا جلديا مزركشا. ابتسم بطريقة الحاوي الذي ينوي الكشف عن آخر غرائبه، وقال: كان قائد المعسكر
مولر
مع طبيبه الدكتور
واجنر
ينتقيان من يحمل وشما من السجناء ثم يسلخان جلده. وصنعت
فراو كوخ ، زوجة
مولر ، هذه الأشياء من الجلود البشرية.
شعرت برغبة في التقيؤ. وغادرنا المكان في صمت. ركبنا السيارة عائدين، وأكلنا في مطعم صغير على جانب الطريق. أكل
نويمان
بشهية كبيرة كما فعل
نبيل . أما
عدنان
فاكتفى مثلي ببضع لقيمات.
6
تقدمتني بجسمها الكبير في الطريق المحفوف بالأشجار. وتبعتها مثقلا بحقيبتين من احتياجات
الويك إند
والكاميرا المعلقة في رقبتي تتأرجح مع كل خطوة وتلطمني في صدري. وهرول الطفل خلفنا مترنما بأغنية ما. استمعت إلى حديثها بنصف انتباه، وأنا أتأمل شمس العصاري فوق أوراق الشجر. روت كيف رافقت الطفل أمس إلى المدرسة وراقبته ينضم إلى طابور الصباح. وكيف هرع إلى جوار طفل آخر أكبر منه. مد إليه يده. لكن الأخير تركه إلى صديق له، فظل واقفا بلا حراك ويده ممدودة في الهواء وقد اندفعت الدماء إلى وجهه. توقفت عن الحديث، فقلت: يحدث هذا مع الكبار أيضا. قالت: فعلا. معي كان الأمر دائما هكذا.
وصلنا العشة أخيرا، فتخلصت من حملي، وتمددت على الفراش بملابسي، منهكا. استغرقت في النوم على الفور.
أيقظتني قرصات البعوض في العاشرة ليلا. أعددت كوبا من الشاي في الظلام. وسمعتها تناديني فذهبت إليها. انحنيت فوقها وقبلتها في شفتيها. ثم مددت يدي إلى ما بين ساقيها وتحسستها. قالت: إنها
ميودة ، متعبة. رفعت يدي إلى ثديها، وداعبته من فوق قميص النوم، ثم انسحبت قائلا: أنا أيضا متعب. الكلمة التي تتردد كثيرا على لسان الألمان.
اجتمعنا في الصباح حول مائدة بلاستيكية نصبناها في الحديقة الصغيرة. وانضم إلينا سكان العشة الملاصقة؛
هر
و
فراو تسان ، وأطفالهما الثلاثة. كان
الهر
نجارا مفتول العضلات، معتدا بقوته وشبابه. أما زوجته، فمدرسة أطفال، مليحة ورشيقة بنظرة دائمة الشرود. كانت ترتدي بلوزة بلا أكمام وشورتا أزرق كشف عن انسياب ساقيها. وكان هو عاري الصدر في شورت مماثل يبرز من جيبه مقياس النجارة. بسط أمامنا خريطة للمنطقة، ومضى يتتبع المجرى الذي سيتخذه بقاربه في البحيرة والبحيرات المتصلة بها.
قدمت
إنجمار
الشاي وأردفته بطبق من الشطائر مخاطبة زوجته:
فراو تسان ، هل لك في فطيرة جبن؟
أجابت
الفراو : شكرا لك
فراو هرمان .
دار حديث متكلف حول الفاكهة المتوافرة في أسواق
برلين
والأماكن التي يوجد بها الخوخ. ولحظت أن
إنجمار
لا تكاد ترفع عينيها عن صدر
الهر تسان
المشعر.
أحضرت الكاميرا والتقطت بعض الصور للمجموعة. وتضرج وجه
فراو تسان
عندما صوبت الكاميرا إلى ساقيها.
انسحبت عائلة
تسان
لتقوم بجولتها النهرية، مصطحبة معها الطفل
جون . واقترحت
إنجمار
أن نقوم بجولة على الأقدام ثم نزور صديقة لها. أعددنا شرائح الخبز الأسود بالزبد والفورست وترمس من القهوة وزجاجة مياه. ارتدت مايوه أسفل فستانها واكتفيت أنا بشورت وقميص خفيف. وضعت الكاميرا حول رقبتي وغادرنا العشة. سرنا أمام صف من الأكواخ المتلاصقة، كان أصحابها يروحون ويجيئون من أبوابها المفتوحة. وفوق فراش أمام باب استلقت امرأة بمايوه من قطعتين تستمتع بأشعة الشمس بوجه جامد حاد القسمات. وفي حديقة الكوخ المجاور راح عجوز عاري الصدر يرتب حوضا للزهور تحت إشراف امرأة بدينة في مايوه. وانشغل كهل آخر بتصيد ذبابة. وتوزع سكان الكوخ التالي بين استخدام أرجوحة للأطفال ونفخ فراش من الكاوتشوك.
عبرنا جسرا فوق جدول. وقفنا فوقه نطل على الزوارق المارة، بعضها بمجاديف والآخر بموتورات. تابعت رجلا يجلس مسترخيا أمام المقود وهو مستغرق في تتبع الطريق. وخلفه امرأة بالمايوه. وبين الحين والآخر يعتدل في جلسته ويلقي نظرة على الأجهزة ويرتب شيئا في الركن. ثم يعود للقيادة مستمتعا.
واصلنا السير وهبطنا على الناحية الأخرى؛ حيث تبدأ الغابة. استمتعت برائحة الجو النقي وأصوات البلابل والعصافير. وتمهلت نظراتي عند شاب وفتاة تمددا ملتصقين فوق العشب إلى جوار دراجتهما، واختفت يده أسفل بلوزتها. أردت أن أصورهما؛ فمنعتني
إنجمار
كي لا نعتدي على خصوصيتهما.
قالت متفكهة: في منتصف الخمسينيات كان محظورا علينا ارتداء ملابس الجينز في المدارس والرقص على أنغام الروك في الحفلات المدرسية، وتدخين السجائر وتبادل القبلات جهارا. وفي مطلع الستينيات كنا أول جيل تعاطى حبوب منع الحمل.
تأملت قليلا ثم استرسلت: لكن مشاكل المرأة لم تحل؛ فما زال الحصول على الرجل المناسب صعبا. خذ مثلا
إيزولدا .
كنت قد حكيت لها تجربتي مع شقراء القسم الإنجليزي. - إنها الآن تقترب من منتصف الثلاثينيات ولم تتزوج أو تنجب إلى الآن. في صباها ارتبطت بقريب لها ارتباطا قويا، ثم فرقهما الحائط، ولم تتمكن من تجاوز هذه التجربة. كنت أتحدث معها من أسبوع، فقالت إنها تفكر في اصطياد رجل في صحة جيدة لتقضي معه ليلة واحدة كي تنجب.
صعدنا شبه هضبة، ألقينا منها نظرة على المكان كله. وبدت الشوارع بالغة النظافة والبيوت متلاصقة في نظام. هبطنا منخفضا ينحدر إلى شاطئ البحيرة. وفجأة وجدنا أنفسنا أمام أكوام من الزبالة وكل أنواع المخلفات.
قالت: خلف الواجهة البراقة نظهر على حقيقتنا.
سألتها: لماذا لا ينظمون الأمر؟
أجابت: لا توجد اعتمادات كافية.
تضررت
إنجمار
من تأثير أشعة الشمس القوية على بشرتها الحساسة، فالتجأنا إلى منطقة مظللة بالأشجار ازدحمت باللاجئين. واحتلت أسرة جانبا بأغراض عديدة؛ فراشان من المطاط المنفوخ أقيما على جوانبهما، بحيث شكلا جدارين واطئين، مائدة معدنية فوقها أكواب من البلاستيك وخزانة بيض وجبن وخبز وسكين، جلس إليها منتصبا كتمثال عجوز عاري الصدر بنظارة سوداء يتابع مجموعة من الشبان يلعبون الكرة الطائرة.
اقتعدنا الأرض إلى جوار عجوز مضطجعة فوق مقعد واطئ، بينما يستمع رفيقها إلى الراديو. وأمامنا استلقت فتاة في بكيني أسود على بطنها فوق بطانية واعتمدت على مرفقيها تقرأ. تأملت بشرتها التي لوحتها الشمس والزغب الأصفر المنتشر فوقها، ثم استدارة مؤخرتها المرتفعة. وكان شعرها أسود طويلا وبدا مغبرا لم يغسل من مدة.
اجتذبت
إنجمار
اهتمامي قائلة: انظر إلى السماء الصافية. لا توجد سحابة واحدة. إنه أمر نادر.
نزعت فستانها وهتفت لي: دعنا نعوم. سأسابقك إلى الشاطئ الآخر.
قلت: لم أحضر مايوه. ثم إني لا أجيد السباحة.
هرعت إلى الشاطئ وقفزت إلى البحيرة. مضت تضرب المياه بقوة. راقبتها تعوم ببراعة. وسرعان ما اقتربت من الشاطئ الآخر. استدارت وعامت عائدة بنفس القوة والبراعة. قالت عندما انضمت إلي وشرعت تجفف جسدها بمنشفة:
هيرليش ، المياه رائعة.
تناولنا شطائر الجبن. وقمنا بعد قليل لنزور صديقتها
زيجريد
التي تعمل محررة في دار للنشر وتعود علاقتهما إلى أيام الدراسة الجامعية. عدنا من حيث جئنا. ولم نجد عائلة
تسان
والطفل فواصلنا السير. وبعد ربع ساعة بلغنا عشة الصديقة. كانت أكبر من عشتنا وبها عدة غرف.
استقبلتنا أربعينية سوداء الشعر ذات ملامح شرق أوسطية، وشفتين حسيتين، تبدو علامات الإرهاق على وجهها. وكان لها ابن بدين في الخامسة عشرة من عمره. وقدمتنا إلى
سوكارنو .
لم يكن هذا هو اسمه المؤلف من حروف عديدة صعبة النطق. أطلقت عليه هذا الاسم بيني وبين نفسي عندما علمت أنه إندونيسي، ورأيت أنه يشبه الزعيم الشهير. كان في طول قامتي وأكبر مني بعدة سنوات، أسمر البشرة، متين البنية، مليئا بالحيوية.
سألتنا
زيجريد
وهي تقدم لنا الكعك والقهوة: أين ستقضيان
الأورلاوب ، العطلة الصيفية؟
قالت
إنجمار : سأذهب إلى
بلغاريا .
رفعت
زيجريد
حاجبيها: وحدك؟
اندفعت الدماء إلى وجه
إنجمار ، وقالت: مع أصدقاء.
تدخلت في الحديث قائلا: أنا حجزت مكانا لي لدى نقابة العاملين في الوكالة.
أوضحت
إنجمار : لم نكن قد تعارفنا بعد. وحجز الأماكن يتم دائما في أول العام.
علق
سوكارنو
ساخرا: هذا هو دور النقابات في المجتمعات الشيوعية؛ الرحلات والعطلات.
لم يبد على وجهي المرأتين الانزعاج من تعليقه كأنما ألفتاه.
سألته: ما المفروض أن تفعله؟
قال في حدة: الدفاع عن مصالح العاملين. هناك دائما تناقض بينهم وبين الإدارة والدولة. لكن الحزب يقول: إنه المدافع عن مصالح العاملين والدولة تمثلها، إذن فلا حاجة لمدافع آخر.
سألته: هل تقيم هنا أم أنت في زيارة؟
كان يتحدث إنجليزية جيدة. وكانت
زيجريد
تجيدها بالمثل.
قال: أنا أعيش في
برلين الغربية
وآتي هنا كل أسبوع لأرى
زيجريد .
قلت: وماذا تفعل هناك؟
ابتسم وقال: أكتب. - ماذا تكتب؟
قال: قصصا.
علقت
زيجريد : قصص بوليسية ممتازة. - وأين تنشرها؟ - هنا.
سألته: هل تجيد الألمانية؟ - لا. أنا أكتب بالإنجليزية. و
زيجريد
تترجم إلى الألمانية. - ولماذا بوليسية؟ - إنها الأقرب إلى القراء. ثم ماذا أكتب غيرها؟ أعمالا ساذجة عن أبطال مجردين من الحياة ومملين مثل الذي ينشر هنا؟ القصة البوليسية تعطيني الفرصة لتقديم بطل واقعي يبحث عن الحقيقة بذكاء.
سألته بخبث: طالما تنشر هنا، فلماذا تقيم في
برلين الغربية ؟
قالت
زيجريد : قلت له هذا أكثر من مرة.
قال: خصوصا أني أتعرض للسرقة عندما أعبر من الغربية إلى الشرقية. كل من يعبر يجب أن يستبدل 25
ماركا
غربيا بمثلها شرقية. لكن الجو هنا خانق. تسع ساعات من العمل. وغياب المتطلبات الأساسية يستهلك طاقة الناس ويتركهم عاجزين عن أي نشاط فكري أو ثقافي. - في الغرب يعملون كثيرا أيضا إلى حد الإنهاك الشديد. وغالبا من غير الضمانات المتوافرة هنا. - ألم تسأل نفسك مرة: لماذا يقتصر الازدهار الفكري والثقافي على الغرب؟ هل سمعت عن
بيتر هاكس
الذي لجأ من
ألمانيا الغربية
ويكتب مسرحيات تعرض مرة واحدة ثم تسحب من العرض على أساس «إعادة كتابتها» ولا تعرض مرة أخرى على الإطلاق؟ أو عن قصيدة الجاز للشاعر
فولكر براون
التي استنكرها النقاد الرسميون على أساس أن الجاز ليس الصورة المجازية المناسبة للمجتمع الاشتراكي، وأن أبياته تخلو من إشارة إلى النوتة الموسيقية وقائد الأوركسترا على وجه الخصوص؟
تدخلت
زيجريد
لوقف الجدال قائلة: لماذا لا تريه بعض قصصك؟
جذبني من ذراعي إلى غرفة صغيرة اكتظت بالكتب والمجلات تصدرتها صورة كبيرة له على الحائط وهو يكتب، وإلى جوارها صورة أخرى له بمعطف المطر الثمين وفي يده الحقيبة الجلدية الفاخرة وهو يخطو بثقة نحو محطة المترو، في طريقه إلى
برلين الغربية
حاملا قصصه. استخرج أربعة أعداد من مجلة شهرية تصدر في
ألمانيا الشرقية . وفتحها على صفحات مطوية ضمت قصصه القصيرة.
سألني: ألم تفكر في الكتابة؟
أجبت: هي مهنتي.
قال: أقصد الكتابة الأدبية.
قلت: فكرت. أنا الآن مهتم بالتصوير. يمكنك أن تعبر به عن نفسك بصرف النظر عن البلد الذي تقيم به واللغة السائدة. - جرب القصص البوليسية. إنها سهلة النشر هنا. - لكني لا أعرف الألمانية. - اكتبها بالإنجليزية. و
إنجمار
تترجمها لك. كما أفعل. - كم لك من مدة خارج
إندونيسيا ؟
قال: أنا هربت منها عندما قام
سوهارتو
بذبح الشيوعيين، وتلوثت مياه الأنهار بدمائهم. كانت لي علاقة بهم وخفت أن ينالني القمع. ومن ساعتها لم أعد. - ألا تشعر بالحنين إليها؟
قال: بعد هذه السنوات أصبحت غريبة بالنسبة لي. لم أعد أشعر بالانتماء إلى أي بلد.
قلبت بين الكتب ووجدتها عن أشهر الجرائم وإجراءات تحقيقها والوسائل الحديثة المستخدمة في ذلك. وكانت هناك عدة مجلدات ضخمة تحتوي على أرقام التليفون في بلدان وسط
أوروبا
وأسماء أصحابها وأخرى لمواعيد القطارات والطائرات.
قال: كاتب الروايات البوليسية لا يستغني عن هذه المراجع.
لمحت رواية ل
جورج سيمنون
عن المفتش
ميجريه . طلبت أن أقترضها فأعطانيها.
عدنا إلى مقعدينا بجوار السيدتين. ومضى يتحدث عن تعليقات الألمان على قصصه وإعجابهم بها. وبدأت أشعر بالصداع. غمزت ل
إنجمار
بعيني فأعلنت رغبتنا في الانصراف.
قالت عندما ابتعدنا عن الكوخ: إنه لا يكف عن الكلام.
قلت: لعله السبب فيما يبدو على
زيجريد
من إرهاق.
ضحكت وقالت: لا. هناك سبب آخر. اشتكت لي من كثرة مطالبه الجنسية.
كان
جون
ما زال مع عائلة
تسان
عندما وصلنا العشة. نادت عليه ليتناول طعام العشاء، وقالت: سأعد فاصوليا بالطماطم وأرزا بالكاري وكوتليت.
قلت: سأساعدك ثم أقرأ قليلا.
7
قال
نويمان
متأففا: الحرارة لا تطاق. لم تشهد
برلين
صيفا كهذا من قبل.
كان وجهه متضرجا بالحمرة من الكحول أو الحرارة. سارع
نبيل
إلى التأمين - كعادته - على ملاحظة الرئيس. وبدا الإرهاق على وجوه الجالسين حول المائدة المستطيلة التي هي مكتبنا المشترك. وكنا ما زلنا في بداية اليوم.
دق جرس التليفون خلف
نويمان ، فمد ذراعه خلفه ورفع السماعة، ثم تطلع إلي: لك.
غادرت مقعدي ودرت حول المائدة. وشعرت بالآذان ترهف السمع لتتبين المتحدث. وتوقعت أن تكون
إنجمار .
تناولت السماعة التي تركها
نويمان
فوق قاعدة النافذة، وسرحت ببصري إلى الشارع والناس التي خرجت إليه متخففة من ملابسها.
سمعت صوتا عربيا باللهجة المصرية: آلو. الأستاذ
صادق ؟ أنا
حازم النجدي
وأحمل لك رسالة من صديقك
كمال .
رحبت به قائلا: أين أنت؟
قال: في مدخل المبنى.
قلت: سأنزل إليك حالا.
وضعت السماعة وقلت ل
نويمان : سأنزل دقيقة. عندي زائر.
بدا الضيق على وجهه وتطلع إلى موقعي من المائدة. لم تكن هناك أية أوراق تنتظر التصحيح وبيننا وبين الإرسال التالي ساعة من الزمن.
غادرت القسم دون أن أنتظر موافقته. وهبطت إلى المدخل.
وجدت شابا نحيفا أسمر في سني أمام الحارس. صافحته واقتدته إلى الكانتين في الطابق الأرضي بعد أن ترك بطاقة هويته لدى الحارس.
قال لي إنه يدرس هنا للدكتوراه في الاقتصاد. وكان في
القاهرة
منذ أسبوع حيث تعرف بصديقي. وأعطاني خطابه.
أحضرت كوبين من القهوة لنا. وجلسنا متقابلين.
سألته: كيف الجو في
القاهرة ؟
أجاب: كئيب. الناس فقدت ثقتها في كل شيء. والاتحاد الاشتراكي شبه مجمد. والناس أصبحت تعادي كل ما له علاقة بكلمة اشتراكية. - لهذه الدرجة؟ - أجهزة الأمن في كل مكان. كل إنسان يتلفت حوله خوفا من أجهزة التسجيل. هل تعرف
لطفي ؟ سجلوا له حوارا حميميا مع زوجته أثناء نومهما. و
خالد
لا ينام مع زوجته في منزلهما. يأخذ سيارة بها إلى مدينة أخرى لينام معها.
تعلقت عيناه بساقي فتاة البوفيه اللتين كشفت عنهما جوبة قصيرة للغاية. ارتشف قهوته وسألني: أين تسكن؟
ذكرت له اسم الشارع والضاحية. قال متعجبا: بالقرب مني. أنا أقيم في مساكن المدرسة ب
كارلسهورست . هل تعرف
زينب ؟
هززت رأسي نفيا.
قال: إنها تسكن على بعد أمتار منك في بناية عالية مخصصة للعازبين.
قلت: أعرف البناية. ماذا تفعل؟ - قصتها غريبة. هي في جامعة
الأزهر ، وأعدت رسالة دكتوراه عن الصوتيات في القرآن، فثار عليها بعض الشيوخ مهددين بتكفيرها. ووجدت الحكومة الحل في إبعادها عن المشهد، فحصلوا لها على منحة دراسية شكلية في
ألمانيا الشرقية . - كم عمرها؟ - حوالي الثلاثين. - هل تعرف الألمانية؟ - أبدا. لكننا نحن المصريين في
كارلسهورست
لا نتركها لحظة واحدة. اسمع. سأزورها اليوم. تعال معي أعرفك بها.
فكرت قليلا ثم سألت: متى؟
قال: أي وقت. يمكن أن نذهب الآن. - لا أستطيع الخروج قبل الخامسة.
قال: يمكنني الانتظار. سأقضي الوقت في ميدان
ألكسندر بلاتز
أتفرج على الأفخاذ العارية.
قلت: يمكن أن نلتقي أمام البناية في السادسة إلا الربع بالضبط.
نهض واقفا وهو يقول: اتفقنا. ابتسم ثم أضاف:
أوف فيدرزيهين .
أوصلته إلى المدخل ثم صعدت إلى مكتبي. استقبلني
نويمان
بوجه لائم سرعان ما انفرجت أساريره.
جلست في مقعدي، وفتحت خطاب
كمال . كان يشكو من الاكتئاب وعجزه عن استكمال رواية بدأ كتابتها، وفشله في إقامة علاقة مع زميلة له في الجريدة التي يعمل بها. وألمح إلى رغبته في الحصول على عمل في
ألمانيا .
قرأت الخطاب عدة مرات كعادتي مع الرسائل القليلة التي تصلني من
مصر . شعرت بعيني
نويمان
مسلطتين علي فنظرت إليه.
تجنب التقاء نظراتنا، وحول عينيه إلى ورقة وضعها
ماجد
أمامي. التقطتها وراجعتها دون تركيز. مقترحات أمريكية لحل ما يسمى بمشكلة الشرق الأوسط، تتضمن توقيع الصلح بين العرب وإسرائيل وحرية الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة وقناة السويس.
قفز إلى ذهني نبأ قرأته بالأمس في الصحيفة الإنجليزية عن فيلم جديد يعده
فسكونتي
باسم
ليلة السكاكين الطويلة ، يدور حول السلطة ونزاعاتها وتداعياتها. فكرت في الليالي التي يمكن أن تندرج تحت هذا العنوان؛ ليلة
الكريستال
التي ذبح فيها
هتلر
اليهود، و
سان بارثلوميو
التي ذبح فيها الكاثوليك البروتستانت، وليلة ذبح
البرامكة
على يد هارون الرشيد، و
عثمان بن عفان
على يد المتمردين، والمماليك على يد
محمد علي .
استرخيت في مقعدي وأنا أتأمل الفكرة. ماذا عن الليالي العصرية؟ هناك ليلة
كفر قاسم
التي ذبح فيها اليهود الفلسطينيين. وليلة ذبح الشيوعيين الأندونيسيين على يد
سوهارتو . ابتسمت عندما تذكرت
سوكارنو . كانت القائمة طويلة؛
لومومبا ،
بريا ،
تروتسكي ،
عبد الكريم قاسم ،
شهدي عطية . وابتسمت مرة أخرى، وأنا أفكر في إضافة اسم
نويمان .
عدت إلى العمل مع حلول الإرسال الأخير لليوم. وقبل الخامسة بعشر دقائق كنا نتدافع إلى الخارج دون معاطف أو قبعات أو قفازات. انفصل
عدنان
و
نبيل
عني ليتجها إلى فندق
الأونتر دين ليندن . ومشيت خفيفا بالقميص والبنطلون حتى محطة
فريدريش شتراسه . أخذت المترو العلوي وبعد محطتين لاحت المباني الحديثة المرتفعة، المصنوعة من ألواح أسمنتية سابقة التجهيز، والملونة باللون الأصفر، حول ميدان
ألكسندر بلاتز . انتقلت إلى
الأوبان ، المترو الأرضي، وواصلت حتى نهاية الخط.
غادرت المحطة ومضيت في الطريق إلى منزلي. مررت من أمامه ثم انحرفت يمينا. وظهرت أمامي بناية العزاب بواجهتها الملونة. وفي السادسة إلا الربع بالضبط كنت أمام مدخلها.
وجدت
حازم النجدي
في انتظاري. ضغط أحد أزرار لوحة الديكتافون. وانفتح الباب الزجاجي بعد لحظة فارتقينا المصعد إلى الطابق السادس. سرنا في ردهة طويلة انتشرت أبواب الشقق المغلقة بها. ووجدنا واحدة مفتوحة وأمامها فتاة سمراء تميل إلى البدانة، ذات وجه مليح وشعر أسود غطته بشال حريري.
رحبت بنا وقادتنا إلى صالة صغيرة بها عدة فوتيات حديثة ومائدة، وتطل عليها غرفة النوم المغلقة. قالت دون أن تجلس: ماذا تشربان؟ شاي؟ عندي أيضا
كركديه
أحضرته معي من
مصر .
قلت: أي شيء. شاي معقول.
قالت ل
حازم : وأنت طبعا
كركديه ؟
كانت ملتفة برداء سابغ ملون غطت أكمامه ساعديها حتى المرفقين، ووصل ذيله إلى فوق قدميها بسنتيمترات. اتجهت إلى باب في الصالة يؤدي إلى مطبخ صغير. ورأيتها تملأ غلاية مياه من الصنبور وتوصلها بالكهرباء. ثم أعدت ثلاثة أكواب، وسألتنا عن احتياجنا من السكر.
لاحظت أن أثاث الشقة بادي الجدة ويماثل أثاث شقتي، كأنما خرجا من نفس المصنع.
انتهت من إعداد الشاي وجلبته للمائدة. ولم تكد تجلس أمامنا حتى رن جرس الديكتافون.
وجمت وقامت إلى فتحة الديكتافون. سمعنا صوتا يقول: نحن هنا.
ردت بغير حماس: تفضلوا.
فتحت الباب بعد قليل لثلاثة شبان مصريين؛ أحدهم طويل القامة، والثاني قصيرها، بدين، والثالث شديد القصر يعاني عطبا ما في ذراعه. وكانوا جميعا بعوينات طبية. كانوا في سن
حازم
ويعرفونه. وما لبثت أن أدركت أنهم يحضرون للدكتوراه بنفس المدرسة. وأحدهم موفد من معهد التخطيط القومي في
القاهرة .
جلس ذو الذراع المعطوبة على فوتي خال، واقتعد الآخران الأرض. سألتهم
زينب :
كركديه
طبعا؟
أومئوا بالموافقة، وقامت تعد الشراب. عرفهم
حازم
بي وشعرت بأني غير مرحب بي. واشتبكوا في حديث صاخب عن الأساتذة والألمان وآخر الأخبار من
مصر .
نهضت واقفا، وانضممت إلى
زينب
في المطبخ. سألتها إذا كان من الممكن مساعدتها في تحضير الشراب. ناولتني ثلاثة أكواب زجاجية قائلة: ثلاث ملاعق من السكر لكل واحد.
قلت: تعرفين رغباتهم.
قالت: إنهم هنا كل يوم.
سألتها: هل تعرفت على المدينة؟
قالت: لأ. لي هنا شهران ولم أر شيئا بعد. - لماذا؟ - لا يمكنني التحرك وحدي. ألمانيتي صفر. - اخرجي مع واحد منهم. وأشرت إلى الجالسين في الصالة.
قالت منفعلة: لا يتركوني أخرج مع أي واحد منهم؛ فلا بد أن نتحرك جماعة كأننا في رحلة مدرسية. وأنا لا أحب ذلك.
سألتها متعجبا: لماذا يتصرفون هكذا؟ - في البداية ظننت أنهم يبالغون في رعايتي. أفهمتهم أني لست طفلة، وأني أستطيع العناية بنفسي. - وبعد ذلك؟
خفضت صوتها إلى درجة الهمس: إنهم يغارون بعضهم من بعض، ولا يريدون لأحد منهم أن ينفرد بي.
أدهشتني صراحتها وخلتها تبالغ. وفكرت أن الأمر قد لا يتعدى حرص أبناء القبيلة على ألا تقع إحدى بناتها في يد غريبة.
أعددنا
الكركديه
وحملته إلى المائدة. وتواصل الحديث الصاخب دون أن تشارك
زينب
فيه ودون أن يعبأ أحد من الشبان بمحاولة إشراكها.
كان أحدهم يقول: إن
مصر
لا تعترف حتى الآن بأي شهادات دكتوراه من
ألمانيا الديمقراطية .
قال
حازم : الدكتور
رحمي
يقول: إن شهادات
ألمانيا الديمقراطية
منخفضة المستوى.
سألت: من هو؟
قال: حاصل على دكتوراه من أمريكا، وفكر في وسيلة للحصول على سيارة جديدة؛ فسعى حتى قدم هنا في تبادل للأساتذة، وهو يأخذ 1800
مارك
في الشهر دون إيجار السكن. ولأن والد زوجته يعمل في شركة الطيران المصرية، فهي تسافر مجانا؛ ولذلك يرسلها كل شهرين إلى أمها في
مصر
حتى يوفر نفقاتها. ويستبدل النقود بعملة صعبة ليشتري السيارة في نهاية مدته.
قال مبعوث معهد التخطيط القومي: أنا اشتريت سيارة لأختي، وقادتها صديقتي الألمانية إلى
روستوك
لتحميلها على سفينة إلى
مصر . كانت مستعملة بالطبع، واكتشفنا في الطريق أن ماسورة عادمها مخرومة. لكم أن تتصوروا منظرنا ونحن ندخل المدن الصغيرة ظهر يوم الأحد والسيارة تطلق زئيرا كزئير الأسود، فيهرع السكان إلى النوافذ المغلقة بالطبع.
شعرت بالضجر بعد قليل، فاستأذنت في الانصراف متحججا بموعد سابق في منزلي. أوصلني
حازم
حتى المصعد وعاد بسرعة واعدا بفتح الباب الخارجي.
غادرت المصعد في الطابق الأرضي واتجهت إلى الباب، وقبل أن أمد يدي لجذبه، فوجئت بمفتاح يندس فيه من الخارج. وانفرج عن
إيزابيلا .
كانت متأنقة بصورة واضحة يفوح منها عطر باريسي. هتفت: ماذا جاء بك هنا؟
قلت: أزور أصدقاء. وأنت؟
قالت : لأرى
رولف .
قلت: تبدين رائعة.
ضحكت: المنافسة قوية. إنها زيارة مفاجئة فهو لا يتوقعني. اصعد معي.
اتجهت نحو المصعد فتبعتها مترددا ثم حسمت أمري قائلا: في مرة أخرى. لا بد من ذهابي الآن.
لم تلح وضغطت زر المصعد. وانتظرت معها وصوله.
كان اليوم مليئا بالمفاجآت المتعاقبة؛ فعندما وصل المصعد انفرج بابه عن
إيزولدا
شقراء القسم الإنجليزي، ممسكة برغيف طويل من الخبز الأبيض.
بدا عليها الارتباك الشديد عندما رأتنا. أما
إيزابيلا
فقد شحب وجهها وصاحت: ماذا تفعلين هنا؟
أجابت
إيزولدا
متلعثمة: لم أجد خبزا أبيض في المخبز، فجئت أقترض واحدا من
رولف .
قالت
إيزابيلا
في صوت كالثلج: تأتين من
شونهاوزر ألليه
إلى هنا من أجل رغيف خبز؟
اغتصبت
إيزولدا
ضحكة قائلة بالفرنسية: هكذا الحياة.
تنحت جانبا عن باب المصعد لتسمح ل
إيزابيلا
بولوجه، واتجهت نحو باب المبنى قائلة: أراك غدا.
تبعتها قائلا: سأرافقك حتى محطة
الأوبان .
قالت:
دانكه ، شكرا.
الفصل الثاني
1
كان الزحام شديدا في المحطة رغم أننا كنا في الفجر. وكان الجو يميل إلى الحرارة، فخلعت سترتي وألقيتها فوق ذراعي. ووقفت إلى جوار طفلة معها عدة حقائب مغلقة في عناية وتتدلى من كل واحدة بطاقة تحمل الاسم والعنوان.
صعدنا إلى القطار. وسمعت المفتش يقول في أول العربة إن القطار سيتأخر عشرين دقيقة. أخرجت تذكرتي الذهاب والإياب ليراها. وأخرجت امرأة أربعينية تجلس أمامي تذكرتها ومعها ورقة مختومة. لعلها البطاقة المخفضة التي تمنحها النقابات.
خاطبني وهو يقرض تذكرتي قائلا:
جوتا ؟» ستغير في
إيرفورت . وأضاف كلمة أخرى لم أتبين منها غير رقم 2 وكلمة تأخير. كانت عيناه شديدتي الزرقة في وجه باسم. ويوجه لكل شخص تعليقا ضاحكا. وخطر ببالي أنه سلوك غريب، غير مألوف.
تأملت المرأة الجالسة أمامي. كانت أربعينية ممتلئة في سترة حمراء اللون ولها يدان جميلتان بأظافر مشذبة في عناية. ولم يكن بإصبعها خاتم. وكان حذاؤها أبيض اللون فوقه جورب به خط خفيف من التمزق، خصصته في الغالب للسفر وستبدله عند الوصول. ومعها طفل، لعله ابنها أو حفيدها، يمسك بمجلة مصورة على غلافها
ميكي ماوس
في رداء رعاة البقر، وفي حجره ترانزستور صغير الحجم (لعلها حصلت عليه من قريب لها في الغرب) طلبت منه أن يخفض صوته. ثم نشب بينهما خلاف عندما أرادت أن يظل المؤشر على محطة تأتي منها أغنية عن
برلين . ناولته سندوتشا صغيرا، التهمه بسرعة، وتبقى غلافه الورقي في يده، فأرشدته إلى سلة المهملات المعدنية المعلقة بيننا تحت النافذة. رفع غطاءها وألقى داخلها بالغلاف. ومدت المرأة يدها إلى ركن معين في حقيبتها فأخرجت كيسا من النايلون بداخله منشفة مبللة في حجم اليد مسحت بها يديه. وأعادت المنشفة إلى الكيس، ثم طوته بعناية ووضعته في نفس الركن من الحقيبة التي برز منها رأس أرنب ذي عينين زجاجيتين ووبر أصفر.
فكرت في الاستفسار من المفتش عما إذا كان هناك تغيير ما في خط السير، ثم عدلت عن ذلك عندما تصورت الصعوبات التي ستعترضني في اللغة.
حولت اهتمامي إلى الأسرة التي تجلس على المقاعد الموازية في الناحية الأخرى. تألفت من شقراء انهمكت في طلاء أظافرها بلون أحمر فاقع، ثم تحولت إلى طفلة كبيرة في العاشرة من عمرها فقبلتها وجذبت رأسها إلى حجرها. أما رفيقها فقد أمسك بكتاب قديم الغلاف وقرأ فيه صفحتين ثم وضعه جانبا.
كان وجه الشقراء جميلا ذا بشرة ناعمة بلا تجعيدة واحدة. ومع ذلك كان في عينيها نظرة حادة وربما قاسية. وكان رفيقها ممتلئا بلا ترهل، يرتدي قميصا جديدا وبزة من القماش الاصطناعي اللامع.
تحرك القطار ونهض الثلاثة واقفين. قالت المرأة للأخرى ذات السترة الحمراء إنهم ذاهبون إلى عربة الأكل ورجتها أن تأخذ بالها من المقاعد. رحبت المرأة بهذه المهمة وأخذت تستعرض حقائب الأسرة والكتب التي تركوها على مسند النافذة.
في المحطة التالية صعدت امرأة شابة خلفها عجوز نشطة، يشبه وجهها الأسمر وجه فلاح من الريف المصري مليئا بالتجاعيد والغضون. وعلى الرصيف وقفت شابة تعيد عليها بصوت مرتفع قائمة توصيات وتشكرها على زيارتها. توقفت العجوز أمام المقاعد الخالية فخاطبتها ذات السترة الحمراء في صرامة: المقاعد محجوزة وأصحابها في عربة الطعام.
اعتذرت العجوز قائلة:
إنتشولديجونج ، «آسفة». ونغمتها كما تفعل سيدات
باب الشعرية
في
القاهرة
عندما يقلن: «لا مؤاخذة يا أختي». وظلت المرأة تكرر هذه العبارة كلما اقترب أحد من المكان.
بعد عدة محطات وصلنا
إيرفورت ، وتركنا القطار إلى آخر ذاهب إلى مدينة
جوتا . وتجمع الركاب في زحام شديد. كأن الجميع قرروا الذهاب إلى
جوتا ، أو إلى نهاية الخط في
أيزناخ .
وقفنا ننتظر ومرت عشر دقائق، ثم أعلن ميكروفون شيئا ما لم أتبينه. وأسرع الواقفون بالجري إلى رصيف رقم واحد. وجاء القطار فركبناه، لكنه ظل في المحطة نصف ساعة أخرى.
لمحت على الجدار المقابل ملصقين في مستطيلين خشبيين صغيرين؛ الأول تتصدره ساعة وتحتها عبارة: عقد مع الزمن. والثاني لطاه يحمل طبقا مليئا بالبطاطس وفوقه عبارة: ساعدوا
فيتنام .
تحرك القطار أخيرا، وظهر نفس المفتش الذي قرض تذكرتي في القطار السابق. كان ما زال باسما. وحدقت هذه المرة في عينيه عميقتي الزرقة. كانتا تبرقان في شيء من الخبل. طلب من عجوزتين جلستا بجواري أن ترشداني عندما نبلغ
جوتا . وجاذبتهما عجوز أخرى تجلس أمامي الحديث بصوت عال سمعته العربة كلها، قائلة إن
الأوستزي ، بحر
البلطيق ، لا يضارعه مكان آخر لقضاء العطلات. وإنها ذهبت إلى هناك عدة مرات. لكنها هذه المرة ذاهبة إلى
أيزناخ . وفتحت كيسا تحمله وأخرجت تفاحة أخذت تقضمها، ثم سألت المرأة الجالسة أمامها عما إذا كانت من
درسدن
وأجابت هذه بالنفي، فقالت الأولى إنها نفسها من مكان بجوار
دانزيج
يتبع
بولندا
الآن. وأكدت:
داس إيست ماين هايمات ، ذاك هو موطني. وكررت هذه العبارة عدة مرات.
من النافذة تخلت المصانع والطرق والغابات عن مكانها لحقول خالية إلا من بضع بقرات سوداء مبقعة ببقع بيضاء. كنا في قلب
ألمانيا
الأخضر. وتأملت حقلا من القمح الأصفر المتوهج تحت الشمس، وبجواره آخر يميل لونه إلى الدكنة، مثل لون وبر الجمال ثم حقل أخضر زاه تصطف خلفه أشجار داكنة الخضرة.
نزلت في مدينة
جوتا ، ووقفت حائرا أمام باب المحطة في ميدان صغير شديد الازدحام. لمحت شابا أصلع الرأس يقف جانبا يتابع القادمين والرائحين. ووقعت عيناه علي فشملتاني بدقة من أعلى إلى أسفل، ومرتا على حقيبتي، ثم عادت مرة أخرى إلى شعري وملابسي قبل أن تتحولا عني إلى غيري. كانت مهنته واضحة.
أجلت النظر حولي. لم يكن هناك غير سيارات الأجرة. وكان مسئول النقابة في الوكالة قد ذكر أن باصا سيأخذني من محطة القطار إلى دار العطلات. وقعت عيناي على باص كبير من سيارات الرحلات ممتلئ بالجالسين. تحركت نحوه في تردد. واقترب مني شاب باسم سألني عما إذا كنت ذاهبا إلى
تامباخ ديتار . أجبت بالإيجاب. قال في أدب:
بيتاشين ، تفضل.
صعدت إلى السيارة وجلست بجوار طفلة أخذت تتأملني طوال الوقت، وفي مقدمة السيارة وقف رجل طويل عريض ضاحك الوجه. قال مخاطبا الجالسين عندما تحرك الباص: الحرارة شديدة في
برلين .
نيشت ظو؟
أليس كذلك؟
كانت المدينة الصغيرة تقع على سفح جبل فيما يبدو، وشوارعها صاعدة هابطة مثل شوارع
بيروت ، لكنها ليست في مثل زحامها، ولا تسمع فيها صوتا لسائقي سيارة التاكسي أو السرفيس المسرعين.
خرجنا بعد قليل من المدينة وما زال الطريق يصعد عاليا ثم يهبط فجأة ثم يعاود الصعود. وامتد القلب الأخضر على جانبي الطريق حتى الأفق. وبين الحين والآخر ظهرت مجموعة من السقوف المائلة المتجاورة لقرية احتمت بالأشجار.
وقفنا أخيرا في مدخل منزل صغير مكون من طابقين أشبه بفندق متواضع في مدخله لافتة تعلن عن: «دار السلام التابعة لهيئة السكة الحديد». تجمعنا في الردهة؛ وقدم لنا الرجل ذو الوجه الضاحك نفسه على أنه مدير الدار ويدعى
هاينر . عين لنا غرفنا ثم قال إن طعام الغداء في الثانية عشرة. ولمحت شارة الحزب فوق ياقة سترته.
صعدت إلى حجرتي في الطابق الأول. نظيفة مريحة بسرير ومائدة ودولاب وحوض مياه ونافذتين متجاورتين تطلان على فناء صغير منحدر، أشبه بحديقة، تتناثر في أرجائه الأشجار والزهور وأرجوحة للأطفال وأريكة خشبية ثم بضع سيارات. وفي نهايته يبدو السقف الأحمر لمنزل آخر.
2
كانت الساعة الثانية عشرة إلا ربعا، أو ثلاثة أرباع الاثني عشر كما يقول الألمان! لم أكن جائعا، لكني هبطت إلى صالة الطعام وأرشدني «الهر»
هاينر
إلى مائدتي. كانت في نهاية الصالة بجوار حائط يحمل لوحة بالفحم لشخص أصلع يتحدث مع مجموعة من الفلاحين. خلتها من صور
لينين
المعهودة. وتكرر نفس الشخص في لوحات مماثلة، مرة مع البحارة ومرة في حجرة أمام مكتب. وعندما اقتربت من اللوحة تبينت أن الشخص ليس إلا
أرنست تالمان
الزعيم العمالي الشيوعي الذي أعدمه
هتلر . وصورته لوحة أخرى أمام مائدة في زنزانة وقد تحول برأس غاضب تجاه الباب الذي وقف الحارس أمامه وبجواره شخص آخر يرتدي معطفا وقبعة وهو يمسك بصحيفة في يده. وفي لوحة ثالثة واجه
تالمان
محققا بوجه شرير الملامح جالسا خلف مكتبه، بينما وقف في الطريق بعض العمال يتابعون زعيمهم في أمل واضح، وتحت اللوحة عبارة «الكفاح الطبقي».
جلست إلى المائدة وتطلعت حولي. كان رفاق الباص يجلسون إلى الموائد الأخرى. ولاحظت أن أغلبهم متقدمون في العمر ويبدو عليهم الإرهاق. فكرت أن الدار لم تكن مغرية بالنسبة للشبان.
انضم إلى مائدتي رجل طويل القامة وامرأة عجوز خجول. كان يتكلم بصوت جهوري وبلهجة عمال
برلين
فيقول
إيك
بدلا من
إيش . أثنى على طبق من الخوخ وسط المائدة وقال إن
برلين
لم تعرفه منذ شهور. وكانت الأطباق المرصوصة معدة لخمسة أشخاص بينما كنا ثلاثة فقط.
شرعت العجوز توزع الحساء الذي تألف من الأرز والبازلاء والجزر وخضراوات أخرى منها البطاطس بالطبع. راقبت يدها المعروقة وشفتيها الجافتين. وبدأ الجميع يحتسون في صمت، ومصمص الرجل بشفتيه قائلا:
جشمكت ، طيب المذاق. نهرته أمه بلطف ليخفض صوته الجهوري. وما لبث صوت الملاعق وهو يصطدم بالأطباق أن تردد متلاحقا في سرعة متزايدة مع تلاشي الحساء.
قدم لي الرجل طبقا من شرائح الخبز فتناولت واحدة. وكانت المائدة المجاورة لنا خالية رغم أن الطعام فوقها معد. ولاحظت أنه لا يكاد يرفع نظره عن ساعتي الرقمية، النادرة هنا رغم رخص ثمنها.
انتهينا من أطباقنا فتبادلت العجوز مع الرجل حديثا هامسا عن بقية الحساء والمقعدين الخاليين، ثم شرعت تملأ طبقها في تردد، وعرضت علي طبقا آخر فوافقت، بينما قال الرجل شيئا عن أن الآخرين لن يأتيا.
خاطبتني العجوز متسائلة عن البلد الذي جئت منه. قلت:
مصر . بدت مشدوهة وسألتني: هل أنت سائح؟ قلت: إني أعمل في
برلين . قالت بصوت امتزجت فيه الدهشة بالزهو: عندنا؟ أومأت برأسي. وقدم لي رفيقها نفسه باسم
هانز ، وقال: إنه ميكانيكي في السكة الحديد من
برلين
والمرأة أمه.
سألتني عن رأيي في الألمان، ودون أن تنتظره أضافت: الألمان
شلشت ، سيئون. ثم قالت: إنهم أجلاف خشنون، صخابون، متعصبون، لا يعرفون التسامح.
ظهر الهر
هاينر
مرة أخرى ومعه امرأة متوسطة العمر في رداء أبيض، وقف وسط القاعة وأشار إلى المرأة قائلا إنها زوجته، وإنها تشرف على الطعام. كانت قصيرة تتكلف الوقار. وفي حاجبيها المرسومين بدقة شيء من الاحمرار. وقال: إنه يتمنى لنا جميعا إقامة طيبة. وإن العشاء في السادسة مساء، والباب الخارجي يغلق في الثامنة، ومن شاء أن يتأخر يأخذ مفتاحا من لوحة المفاتيح.
شعرت بالامتلاء، فلم أنتظر الأطباق التالية، وصعدت إلى غرفتي ونمت حتى الخامسة، ثم هبطت في السادسة تماما. وجدت القاعة حاشدة بالآكلين والموائد بأطباق العشاء التي تتألف من شرائح الخبز والزبد والجبن و
الليبر فورست ، نقانق مسحوق الكبد. وشغل المائدة التي كانت خالية عند الغداء ستة أشخاص.
كان بينهم رجل يرتدي عوينات ملونة وتهبط سوالفه حتى منتصف وجنتيه، وله لحية قصيرة من طراز
كارل ماركس . وجلس بجوار فتاة رشيقة ذات شعر أسود ووجه شاحب وبشرة لبنية. وكان أمامه شاب آخر أسمر بعوينات قاتمة وطفل وامرأة ممتلئة، وتصورت الرجل البدين فنانا والفتاة عشيقته، وعندما قامت لتحضر شيئا وجدتها ترتدي رداء قصيرا للغاية ينتهي عند بداية فخذيها، بل وتعترضه فتحة جانبية.
اكتشفت بعد قليل أنهم مجموعتان منفصلتان. وتأكد الاكتشاف عندما ظهرت مشكلة اللغة بينهم؛ إذ أخرج الشاب قاموسا واستعان به في حديث متعثر مع البدين. وسمعت الأخير يسأله عما إذا كان يتكلم الإنجليزية. وقلت إنه لا بد مصري أو عربي على أكثر تقدير. وكان هذا آخر ما أبغيه كي لا أتورط في أحاديث تقليدية بلا معنى. لكنه تكشف عن مجري مع زوجته القصيرة والبدينة المرحة، وابنهما.
كان
هانز
يجلس إلى جواري. ورأيته يربت على بطنه قائلا إنه لا يفكر في مغادرة هذا المكان لأن الأكل جيد. أمنت أمه على كلامه وقالت: أهم شيء هنا أن الطعام جيد، ولا نبذل جهدا في إعداده أو في غسيل الأواني والمشاغل الأخرى كافة.
فرغت من الأكل فغادرت القاعة والتقيت الهر
هاينر
فسألني عن جواز سفري. أعطيته بطاقة هويتي، وتبعته إلى حجرته. سألته عما إذا كان لديه بيرة فأومأ بالإيجاب. وأشار إلى ركن مكتبه حيث تراصت صناديق البيرة. أعطاني زجاجة من النوع القديم الذي تغطيه سدادة خزفية مثبتة بحلقة حديدية.
دفعت ثمنها، وأراني من النافذة موتوسيكل بمقعد جانبي قائلا إنه ملكه. وقال إن له هنا ستة أسابيع فقط وقبل ذلك كان يعمل في
برلين . وأدركت سر الحيوية والابتسام الدائم لشخص مقبل على مرحلة جديدة من حياته - بعد فشل السابقة ربما - في مكان وعمل جديدين.
قال إنه درس في الكلية الحربية، ثم عمل ضابطا لمدة ثلاث سنوات، لكن قلبه وقدمه أخرجاه من العمل، فاشتغل في مصنع لحام لمدة عشر سنوات، وهي تكفي كي لا يصاب في صدره أو عينيه. أما زوجته فكانت تعمل سائقة ترام وعملت بعض الوقت في مطعم.
ولج الغرفة طفل قدمه إلي على أنه ابنه. وتتابع وصول أطفاله، فقدمهم إلي في فخر مالك قطيع جيد.
قال: أنصحك بعدم الخروج لأننا سنقيم حفلا راقصا.
سألته: كم نبعد عن معسكر اعتقال
بوخنفالد ؟
أجاب: ليس أكثر من ساعة. يمكن أن ننظم زيارة له.
قلت: شكرا. زرته بالفعل.
كدت أصطدم بالبدين وفتاته عندما غادرت الغرفة. وقدم لي نفسه على أنه طبيب من مدينة
كارل ماركس شتات
يدعى
ميتز ، وأن الفتاة ابنته وتدعى
هايدي .
خرجت إلى الحديقة وجلست فوق الأريكة وأشعلت سيجارة. وقمت بعد قليل إلى الداخل فوجدت الموائد قد وضعت في صف واحد بحيث تركت مساحة واسعة من القاعة خالية.
جلس الجميع متقابلين على جانبي الموائد. وفي ركن القاعة جلس رجل قصير بعوينات طبية بجوار طبلة وأكورديون. قلب صفحات نوتة موسيقية قديمة. ثم بدأ يعزف الأكورديون وهو يضرب الطبلة بقدمه.
جلس الطبيب إلى جواري بينما جلست ابنته أمامي إلى جوار
هانز
الميكانيكي. وكانت في رداء أسود من جاكت وسروال فضفاض. وبدأ المجري الرقص بفراو
هاينر
ثم ثناها برفيقته، ثم بألمانية بدينة.
سألني الطبيب عن عملي، وما كنت أعمله في بلدي، وعن المدة التي أنوي قضاءها في
ألمانيا . وقام وأحضر عدة زجاجات من البيرة وزجاجة نبيذ روماني.
أخذ يشرب ويلقي النكات ويمثلها. وضحكت المجرية، ثم خلعت حذاءها ورقصت حافية القدمين.
فرغ العازف الوحيد من كأسه فملأناه له مرة ثانية. وأخذته نوبة حماس فجأة؛ فانطلق يغني مع الموسيقى بصوت أجش ثم سكت. ولم أكن أرفع عيني عن
هايدي
والميكانيكي إلا بصعوبة، وتابعتهما يرقصان معا وقد تعلقت بكتفه المرتفعة بينما يهمس لها.
عندما عادا إلى مقعديهما تشجعت وقمت واقفا وطلبتها للرقص. نهضت على الفور والتصقت بي ودفعت فخذها بين ساقي.
تولت هي القيادة وتحركنا سويا في بطء. سألتها عن مهنتها فضحكت وقالت: أنا ما زلت في المدرسة.
بدت علي الدهشة فقالت: ماذا كنت تظن؟ أنا عندي 18 سنة.
قلت: ظننتك في البداية عشيقة الطبيب.
ضحكت، فسألتها: لديك
بوي فريند
طبعا؟
قالت: ليس هناك واحد مخصوص.
أضافت: أنا أومن بعدم الزواج، وبألا تقتصر علاقاتي على رجل واحد.
التصق خدي بخدها بينما ضمتنا جدائل شعرها الطويل. أبعدت وجهها وتطلعت إلي. سألتني: ما لون عيني؟
تأملت عينيها، فدفعت رأسها إلى الوراء، وحدقت في باسمة.
قلت: مزيج من اللونين الأخضر والبني. واستقرت عيناي على شفتها السفلى الممتلئة.
انتهت الرقصة، فعدنا إلى مقعدينا. وبدأت الرقصة التالية، فنهضت واقفا لأطلبها من جديد. لكن
هانز
سبقني إليها. وفي المرة الثالثة اعتذرت بأنها شربت كثيرا وبدأ رأسها يدور. جلست أرقبها وهي منهمكة في الحديث مع
هانز . سمعته يذكر لها رقم حجرته وهي تذكر رقم حجرتها ورقم حجرة أبيها، وكان أبوها يرقص الآن مع إحدى الطاهيات الشابات، التي زينت شعرها خصوصا للمناسبة. وجلست فراو
هاينر
بمفردها منتصبة القامة راسمة ابتسامة على شفتيها، ثم قامت وطلبتنى لأرقص معها . درت معها في القاعة وأنا أتطلع إلى وجهها. وقلت لها معتذرا إني لا أجيد الرقص؛ ولهذا لم أطلبها.
صاح العازف الوحيد فجأة قائلا بضع كلمات كأنما يخطب، ثم شرع يعزف ويغني في نفس الوقت وعقدنا جميعا سواعدنا ووقفنا نتمايل ونحن نغني معه. كانت فراو
هاينر
على يميني وبجوارها أم
هانز ، ثم المجري وزوجته ثم
هانز
و
هايدي . وإلى يساري كان أبوها. وكانت الأغنية جميلة وكنا نتمايل ضاحكين، وامتلأ وجه العجوز بالدماء، ولمعت عيناها، واشتقت أن أقبل الجميع.
3
في الصباح استيقظت في السادسة على ضجة الأطفال. وجاءني صوت
هانز
الجهوري الذي كانت غرفته فوقي مباشرة. وفي الثامنة نزلت إلى المطعم فوجدت
هانز
مع الطبيب. سمعته يقول للطبيب: إن لديه ثلاث تذاكر لحفلة راقصة في نادي البلدة. سأله: هل يمكن أن آخذ
هايدي
معي لأن زوجتي لم تأت بعد.
التفت الطبيب إليها قائلا: لا أعرف إذا كانت ترغب في الذهاب.
قالت: لا أظن أني سأذهب.
أشار الطبيب إلي قائلا: لماذا لا تأخذه معك؟
ضحكت. قال
هانز : على العموم هناك فيلم بوليسي في التليفزيون الساعة العاشرة ليلا.
بعد الإفطار جلست أقرأ في الحديقة، اقتربت مني طفلة وطلبت أن أضعها فوق المرجيحة وأهزها، وفعلت عدة مرات ثم قلت: هذا يكفي. فوقفت واجمة.
أقبل الطبيب مع ابنته و
هانز . واقترح الأخير أن نقوم بجولة في عربة جياد لمدة خمس ساعات. قالت
هايدي
إنها لا تريد. وأيدتها في الرفض. كانت قد جلست إلى جواري وأرتني صورا لها في غابة، وفي
برلين . وكانت في نفس الرداء القصير، وفي أعلى فخذها ظهر جرح صغير غطته بشريط لاصق. وقالت: عندي صورة عارية لي.
عرض علي أبوها أن أرافقها إلى حمام السباحة بعد الغداء، لكني اعتذرت مفضلا نوم القيلولة.
استقل الطبيب وابنته سيارته
الفارتبورج
الواجن البيضاء. وغادر
هانز
الحديقة إلى الشارع. وبقيت بمفردي.
صعدت بعد قليل إلى غرفتي ، ووقفت في النافذة. أحضرت الكاميرا وجهاز قياس الضوء. كان المجري يتشمس. واقترب منه الهر
هاينر
مهرولا وبطنه يهتز أمامه. شكا له من شيء فعله ابنه. وعنف المجري طفله ثم قال إن اسم الطفل
أندروش ، واسمه هو
أندروش
واسم أبيه
أندروش
أيضا. التقطت لهم صورة ثم أعدت الكاميرا مكانها.
نزلت مرة أخرى حاملا الكاميرا. انتحيت جانبا قصيا من الحديقة. وعلى مقعد هزاز جلست امرأة بدينة ذات عوينات بجوار زوجها الذي كان يقرأ. وأخذت تداعبه حائلة بينه وبين القراءة، فصاح فيها ضاحكا أن تتركه. لمحتني من بعيد أنظر إليها وأرفع الكاميرا نحوها فغطت ساقيها.
تطلعت إلى الساعة. عشر دقائق على موعد الغداء.
دق جرس الطعام فغادرت الحديقة إلى المطعم في غير حماس. كان هناك طبق من الطماطم، بدأت بها بينما تركها زملاء المائدة إلى النهاية باعتبارها - بسبب ندرتها - من الفواكه.
اقترح
هانز
بعد الأكل أن نخرج إلى الغابة، فوافق الطبيب و
هايدي . وخرجت معهم. هبطنا الطريق المنحدر ثم اتجهنا يمينا. المنازل متلاصقة ومن نفس الطراز، ولا أحد في نوافذها غير عجوز تطلع إلى شعر رأسي المجعد بدهشة شديدة.
امتد الطريق صاعدا إلى هضبة انتشرت فوقها أشجار البلوط الكثيفة. شققنا طريقنا بين أشجار التوت البري. انتقيت ثمرة تلاصقت فصوصها الدقيقة في قلب دائري مجوف ومدبب الطرف. فتحتها فانبثق منها سائل أحمر اللون كالدم.
أصبحنا وسط غابة من الأشجار الإبرية التي تنتصب في رشاقة، قوية سمراء، مستقيمة الساق، عارية من الأوراق، تنطلق منها الفروع القصيرة الجرداء. كانت قاعدة كل شجرة متشبثة بالأرض في قوة كقبضة يد هائلة. التقطت لها عدة صور.
وقفنا على حافة الهضبة وتحتنا جرى جدول صغير في هدوء ولم يكن هناك أحد غيرنا. وصاح الطبيب: «إيهوووه». وجاء رجع الصدى. قال
هانز : إن الأطفال يلعبون الهنود الحمر هنا. واقترح أن نصعد الهضبة الثانية، وكانت أقدامنا تتلمس فروع الأشجار الميتة التي دفنت في الأرض وتحولت إلى ما يشبه الدرج.
عندما عدنا توقفنا أمام حانوت صغير، واشتريت بطاقتي بريد وأنا أفكر في
برينبك
و
إنجمار
اللذين طلبا أن أكتب لهما. في الغرفة كتبت الاسمين والعنوانين، ثم تركت البطاقتين على الطاولة دون أن أكتب شيئا. تمددت على الفراش وأغمضت عيني.
قمت بعد قليل وغادرت الغرفة. خرجت إلى الطريق ومررت ب
الكونسوم ، مجمع البقالة والخضراوات التعاوني، ثم سرت في الشارع الرئيسي المرصوف. شاهدت تجمعا من الشباب أمام النادي، حيث يعرض فيلم تاريخي من إنتاج فرنسي إيطالي إسباني مشترك.
درت عائدا من طريق آخر أسفل نظرات فاحصة من الشبان والعواجيز. وسمعت واحدة تقول شيئا عن شعري المجعد. صعدت الطريق إلى الدار. وكان المجري وزوجته قادمين في اتجاهي مع عامل شاب مليء بالحيوية؛ ذكرني بالشبان الصغار الذين يلعبون الكرة ويتشاجرون ويقودون مجموعاتهم. قالوا إنهم ذاهبون لشراء آيس كريم، ودعوني للذهاب معهم فاعتذرت. مشيت أتساءل إذا لم يكن من الأفضل الذهاب معهم، لكني واصلت السير حتى الدار.
صعدت إلى غرفتي، ثم نزلت مرة أخرى، ودخلت قاعة الطعام. تناولت طعام العشاء ثم انتقل الجميع إلى حجرة التليفزيون.
كان الإرسال مقتصرا بالطبع على تليفزيون
ألمانيا الشرقية . تفرجت قليلا على نشرة أخبار، تبعها برنامج لمشروعات العطلة الصيفية، ثم غادرت القاعة إلى غرفتي. أشعلت الضوء وجلست أمام المائدة في مواجهة الحائط.
سمعت بعد لحظات صوت المجري في الحديقة أسفل النافذة مع
هانز . وكان يردد في بطء الأرقام وأسماء الأيام بالألمانية.
أخذت كأسا من زجاجة البراندي التي جلبتها معي ثم أشعلت سيجارة. وبعد قليل أطفأت النور وغادرت الحجرة إلى أسفل.
كان المجري يقف مع آخرين عند المدخل، وجذبني من ذراعي لأقف معهم. وكانوا يتحدثون عن
تشيكوسلوفاكيا . أراد المجري أن يقول شيئا لكنه لم يجد الكلمات، فأخرج قاموسا وكان يحاول أن يصف ما فعله المتمردون في
بودابست
سنة 1956، ثم حاول أن يذكر شيئا عن دخول قوات حلف «وارسو» إليها، فوصف بيده مجيء السيارات والدبابات من كل الجهات، ثم قال:
تشيكوسلوفاكيا شلشت ، سيئة.
لم أفهم ماذا يعني. العهد الاشتراكي القديم أم حركة
دوبشيك
الإصلاحية، أم العهد الحالي و
هوساك ؟ لكن
هانز
شرح بالألمانية لزوجته ولمهندس بدين أنه يعني
دوبشيك . وعلت وجه المهندس ابتسامة راضية وهز رأسه في اعتداد؛ فكل شيء الآن تمام، وما حدث من تدخل كان صوابا . وهزت المرأة رأسها قائلة:
ناتورليش ، «بالطبع». وقال
هانز
إن الطلبة هم السبب؛ فهم في
موسكو
و
براغ
و
بودابست
و
وارسو
و
برلين
متخلفون لا يقرءون. وهز المهندس رأسه مؤمنا.
تركتهم وولجت الردهة الخالية. ثم عبرت قاعة الطعام إلى حجرة التليفزيون. جلست خلف الطبيب و
هايدي . وجعلنا نتحرك في مقاعدنا قلقين حتى بدأت نشرة الأخبار في العاشرة إلا الربع. وكانت هي نفسها التي سمعتها من قبل مع تغيير بسيط.
بدأ برنامج السهرة عن عائلتين في الاستوديو تمران بسلسلة من الاختبارات وتستمعان إلى مقطوعة موسيقية ثم تتلقيان جوائز. قدمت إحداهما تمثيلية عما يجري في مكاتب السفر بين امرأة عصبية ملحاحة وموظف مرهق. ضحك الجميع عندما هددته بأن تحضر زوجها الذي يشغل منصبا مهما؛ بائع في
كونسوم .
ومثلت العائلة الثانية الاستعداد لسفر العطلة، فأخذت تعد الحقائب وتشحنها بكل الأشياء؛ أوزة كبيرة ومرتبة، ريكوردر وقناع غطس وملابس وكتب وأوراق. وضعها رب الأسرة بصعوبة في مؤخرة سيارة
ترابانت . وعندما انطلق أخيرا بالسيارة تطايرت من النوافذ. انتهت الأخبار في العاشرة والنصف واستعددنا للفيلم، وإذ بالمذيعة تعلن عن التعليق السياسي المحتوم ل
فون شنيتزلر
فتصاعدت صيحات استنكار من
هانز
والعمال الشبان. وتحدث المعلق بسرعة كي يخفف من وقع المفاجأة، وردد نفس المقتطفات من تصريحات زعماء
ألمانيا الغربية
التي سمعناها من قبل مرتين. وعندما قال: إننا نكافح ونعمل. أكمل معه
هانز
في سخرية: «ونبني الاشتراكية».
استمر التعليق مدة ربع ساعة، ثم ظهرت المذيعة، وفي هدوء وبطء أعلنت عن الفيلم البوليسي وتمنت للمشاهدين سهرة لطيفة، ثم تنحت ليبدأ الفيلم.
كان الفيلم بلغاريا شديد السذاجة، فغادرت القاعة بعد قليل وصعدت إلى غرفتي.
4
دقت أجراس الكنائس وظهر الجميع بملابس زاهية احتفاء بيوم الأحد. وكانت الصحف تحمل في صفحاتها الأولى نص خطاب أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب، في اجتماع عقد في مدينة
أيزناخ
القريبة، بمناسبة مرور مائة سنة على تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي بها.
انتابني ألم في معدتي بعد الإفطار فبقيت في غرفتي. قرأت قليلا، ثم وقفت في النافذة. ظهرت
هايدي
في ثوب استحمام بكيني واستلقت على العشب معرضة جسمها للشمس وأغلقت عينيها. كانت في مواجهتي تماما. طافت عيناي بجسدها الرخص الذي بدا خاليا من العظام.
أسرعت بإحضار الكاميرا. ضبطتها على درجة الضوء. التقطت لها صورة وانتظرت.
رأيتها تفتح عينيها ثم تنظر مباشرة إلى نافذتي فابتعدت عنها بسرعة.
دق جرس الطعام الساعة 12 ونصف، وجاءني صوت
هانز
الجهوري من خلف الباب يسألني: ستأتي؟
فتحت الباب وأنا أقول: لا. أنا متعب قليلا.
قال: الطعام رائع.
بلوم كوله ، قرنبيط، ونبيذ.
أصررت على الرفض متذرعا بمعدتي.
انصرف ونمت ثم استيقظت وهبطت إلى الردهة. لمحني الهر
هاينر
من غرفته فصاح بي: أين كنت؟ ضاعت عليك كعكة الأحد.
جلست في الحديقة بعض الوقت حتى حان موعد العشاء. وبدا
هانز
مكتئبا على مائدة العشاء وهو يحدق أمامه في شرود.
استعلمت عن زوجته. قال: إنها لم تأت بعد. وقال: إنها تعمل في مختبر كيميائي.
أكلت قليلا ثم غادرت المطعم. ودعاني الهر إلى مكتبه. جلست أمامه أستمع إلى أغنية من الراديو. وأخرج قداحة غاز سوداء في حجم الإصبع وسيجارا أشعله وهو يقول: قداحة غربية، هدية من المجري. وهز القداحة في يده وقربها من أذنه، ثم وضعها أمامه على المكتب وواصل النظر إليها.
كانت الأغنية تدعى «ذات ليلة طويلة قبلتني». وكنت أحب هذه الأغنية. أطرقت برأسي مستغرقا في الإنصات. ولاحظ ذلك فقال: أغنية جميلة. وطلب مني أن أرفع من صوت الراديو فرفعته قليلا، فطلب أن أرفعه أكثر، فرفعته إلى الدرجة القصوى. صاح وهو يعلي صوته على صوت الراديو لأسمعه: أنا أبحث الآن عن
سيستم ، نظام لهذه البطاقات.
أشار إلى بطاقات عديدة أمامه وهز رأسه قائلا: لا بد من التفكير. كل شيء يجب أن يكون بسيستم. قلت: ربما أوحت له الموسيقى بالفكرة. فأمن ضاحكا وهو يتراجع إلى الخلف ويربت بيده على كرشه. ولاحظت أن قسمات وجهه تتقارب عند العينين والفم عندما يضحك فيبدو مثل
هاردي ، أحد ثنائي
لوريل
و
هاردي .
خرجت إلى الردهة فالتقيت زوجته على السلم. سألتني عن معدتي. وجاء
هانز
خلفها في قميص جديد ملون. دعاني إلى مرافقته إلى حفل موسيقي فأخذت البلوفر وغادرنا الدار. هبطنا إلى الطريق، أشار إلى فتاة في نافذة وغمز لها بعينه وصاح:
كومست ميت؟
تأتين معنا؟ ضحكت الفتاة وواصلنا السير إلى الميدان.
التقينا المجري وزوجته فسألناهما عن مكان الحفل الموسيقي، أشارا إلى نهاية الشارع.
وجدنا المكان في
الرات هاوس ، دار البلدية. وهو مبنى حديث. دخلنا إلى قاعة واسعة جيدة الإضاءة. جلسنا فوق مقاعد خشبية خلف صف من البولنديين لوحت الشمس وجوههم. قال
هانز : إن الفرقة التي ستعزف ممتازة رغم أنها من فرق الأقاليم.
ظهرت الفرقة مكونة من فتاتين وأربعة شبان. بدءوا يعزفون مارشات موسيقية، ثم غنت فتاة مع شاب أغاني من نوع: «غابة
تورينجيا
كم هي جميلة!» ثم قدما فاصلا من النكات.
كان العازفون أربعة؛ الفتاة الأخرى على جيتار، وشاب وسيم أحمر الوجه على ماندولين، وآخر بدين أسمر على آلة كالقانون، ورابع على الأكورديون. وكان عازف الماندولين يقف في الخلف ويحاور عازف القانون. وبينما كانت فتاة الجيتار تغني بصوت جاف تحاول أن تجعله عاطفيا أغنية عن مزايا السفر، ضحك عازف الماندولين فجأة بصوت عال. واستعاد العازف الشاب جمود وجهه وجعل يعزف بهدوء كأن شيئا لم يحدث. ثم فجأة غمز بعينه وضحك أحد الجالسين وسرعان ما ضحك الجميع.
ومنذ هذه اللحظة أصبح انتباهنا كله مركزا على عازف الماندولين، الذي كانت تعابير وجهه تسخر من الأغاني ومن الموسيقى ومن الجالسين الذين استمتعوا بالأمر.
غادرنا القاعة في التاسعة والنصف. واقترح
هانز
أن نشرب بيرة. وجدنا
جاست شتيته ، مطعم صغير، في نفس مبنى القاعة، لكنها مزدحمة إلى أقصاها. فغادرنا المبنى وعبرنا من أمام فندق واتجهنا إلى اليسار، وقال إنه شهد هذا الصباح امرأة رائعة الجمال في المنزل رقم 45 بنفس الشارع. جعلنا نعد أرقام المنازل حتى وصلنا إليه. وكانت نافذته مضاءة والستائر مسدلة، وواجهة المنزل تغطيها قشور خشبية متلاصقة. مررنا من أمامه وعثرنا على مشرب قديم بعض الشيء فدخلناه، ولم نجد مكانا خاليا. لكن النادلة قالت إننا نستطيع أن نشرب واقفين. شربنا دورين من بيرة
سيمبول . وعدنا إلى الدار لنتفرج على التليفزيون. لكننا وجدناها غارقة في الظلام الذي شمل غرفة التليفزيون. قال: نذهب لنشرب كوبين من البيرة وسأدفع أنا. أخذنا مفتاح الباب الخارجي من جديد وخرجنا.
سألني عما إذا كنت متزوجا فقلت: لا.
قال ضاحكا: عندك صديقة ألمانية في
برلين
طبعا.
قلت: طبعا. - ولماذا لم تأت معك؟
قلت: تعارفنا بعد أن حجز كل منا للعطلة ولم نتمكن من التغيير.
قال: وكيف هي المرأة المصرية؟ أعتقد أنها تنضج بسرعة وتنتهي أيضا بسرعة. شرد لحظة ثم قال: إن نساء
براغ
رائعات، وإنه ذهب إلى هناك عدة مرات، واقترح أن نذهب سويا في نهاية أسبوع.
هبطنا الشارع من جديد وولجنا الفندق. كانت هناك عدة قاعات مليئة بالجالسين. اتجهنا إلى اليسار وكانت هناك مائدة حولها ستة رجال في قمصان بيضاء بأكمام قصيرة وأمامهم عشرات من أكواب البيرة. وإلى مائدة أخرى جلس عدة شبان يشربون في صخب. وكان أحدهم يحاول أن يثبت أنه يستطيع بحركة من إصبعه أن يرفع صندوق الثقاب في الهواء ويتركه يهبط على ناحية معينة.
جلسنا إلى مائدة بجوار رجل وامرأة متقدمين في السن. وكان الرجل يدخن سيجارا رخيصا، والمرأة تدير كوبا من البيرة في يدها صامتة. وكانت النادلة ممتلئة لوحت الشمس بشرتها وارتفع شعرها عاليا فوق رأسها وتتحرك بنشاط، وقد قطبت حاجبيها، وتتطلع كل لحظة في ضيق إلى ساعة الحائط التي أشارت إلى العاشرة والربع.
أحضرت لنا كوبين كبيرين من البيرة. وشعرت بالبرد فلبست البلوفر. وضعت علبة سجائري على المائدة وقدمت
لهانز
سيجارة. شربنا ونحن نردد:
بروسيت ، صحتك.
تطلع حوله وقال: هذا المكان لا ينفعنا. وسأل جيراننا عما إذا كان هناك مشرب آخر في الناحية. وقال الرجل إنه لا يعرف لأنه ليس من هنا وإنما يقضي العطلة مثلنا. كان يبدو عاملا والمرأة بدينة بعينين صغيرتين وترتدي فستانا ملونا وأصابع يدها منتفخة تكاد تغطي خاتم الزواج. وثبت الرجل نظراته على وجهي. توقعت أن يسألني عن بلدي لكنه لم يفعل. أخرجت امرأته من حقيبة قش مفتوحة خارطة لدور العطلات ومحلات الشراب والطعام بالبلدة. واكتشفنا أننا رأينا كل الأماكن عدا مكان في نهاية الشارع الذي به الفندق يبعد نصف ساعة من السير.
غادرنا الفندق وانطلقنا في الشارع. مررنا ب
الراتهاوس ؛ فاقترح أن نلقي نظرة على المشرب، فربما وجدنا مكانا. صعدنا الدرج الخارجي ثم دفعنا باب المشرب وكانت أغلب مقاعده الآن خالية، فاتجهنا إلى مائدة في الوسط وجلسنا. ولمح آلة الأسطوانات فقام وأخرج عملتين، ومر بإصبعه على أسماء الأغاني الموجودة، ثم اختار واحدة ووضع العملتين. وضغط زرين ثم زرا أخضر وجلس. تابعت صف الأسطوانات وهي تتحرك في بطء حتى نهاية المجرى ثم تعود وتتوقف، ثم ترتفع منها الأسطوانة التي طلبناها.
طلبنا بيرة. وكان هناك زوجان شابان رأيناهما في الحفل الموسيقي. وإلى مائدة أخرى جلس ثلاثة شبان. ما لبث اثنان منهما أن قاما وتركا الثالث الذي كان في كامل ملابسه. وقام الزوجان بعد أن ظلا مدة طويلة صامتين. وكانت المرأة جميلة بأسنان بارزة وبشرة مشمسة ورداء أحمر وتواليت كامل. وظل خلفنا شاب أحاط فتاة شقراء كالحمامة بذراعه.
تطلع
هانز
إلى الفتاة، ثم قام واختار أغنية اسمها «خسارة أنك متزوجة». وعندما بدأت الأغنية أنصتت الفتاة في اهتمام لتتبينها. وقام صديقها إلى الآلة، واختار أغنية اسمها: «قل لي كم عمرك». وعاد إلى مقعده وأحاط الفتاة بذراعه.
سألت
هانز
عن عمره فقال ست وثلاثين. كنا نحن الأربعة بمفردنا في القاعة، فضلا عن الشاب الوحيد الذي جلس بعيدا يهز رأسه مخمورا. ودخل رجل يشبه الأوزة بقميص وبنطلون، وامرأة تبدو أكبر منه في السن بكثير، شاحبة البشرة، بعينين زائغتين من تأثير الشراب، وجلسا إلى المائدة المجاورة.
مال علي
هانز
قائلا: يجب أن نلتقي في
برلين .
قلت:
بيشتمت ، أكيد.
قال: نستطيع أن نذهب سويا إلى أماكن كثيرة.
سألني إن كنت ذهبت إلى
هاوس برلين ، دار
برلين .
أجبت بالنفي.
مصمص بشفتيه وقال: النساء هناك رائعات.
سألني عن أماكن شارع
فريدريش شتراسه : الكازينو ومرقص التليفونات. قلت إني ذهبت هناك مرة، وتوجد نساء كثيرات يجرين وراء النقود.
قال: بالطبع عندما يرون أنك أجنبي.
ومال علي وهمس: في
براغ
دفعت خمسين
ماركا ؛ أي مائتي
كورونا . يا لنساء
براغ !
ثم ارتفع صوته: يجب أن نلتقي في
برلين . يمكنك أن تخرج مع زوجتي.
قلت: زوجتك؟
رسم بيديه في الهواء الصدر والأرداف، وقال: إنها جميلة. للأسف لن تنضم إلينا هنا.
سألت: لماذا؟
قال: إنها تذهب مع البروفيسور الذي تعمل معه. ربما عندما أعود آخذ حقائبي وأتركها.
فكر قليلا ثم قال: لكن المشكلة في النقود. إذا انفصلنا فسأدفع مائة وثمانين
ماركا
كل شهر نفقة لطفلينا.
قامت المرأة الشاحبة البشرة، وحاولت أن تطلب أغنية، وكانت تتمايل عاجزة عن استخدام الآلة، والتفتت نحونا طالبة مساعدتها. هب
هانز
بقامته الطويلة وانحنى على الآلة، وقالت المرأة شيئا عن طفليها.
سأل
هانز : طفلان؟ ممن؟
أشارت إلى الرجل الأوزة، وقالت: منه.
صاح الرجل: هذا ما تزعمه. وانفجر ضاحكا وهو يخبط المائدة بقبضته.
سأله
هانز : من أين؟ ذكر الرجل اسم مدينة، فقال
هانز : لم أسمع عنها قط.
ثار الرجل ومضى يذكر أسماء عدة مدن، و
هانز
يهز رأسه في كل مرة، والرجل يقول إن مدينته زهرة هذه المدن وجميعها تقع في محافظة
نوية براندنبورج .
قلد
هانز
لهجته في الكلام قائلا: هؤلاء الناس لا يمكن فهم كلامهم. وأخرج من جيبه عملتين وضعهما فوق المائدة. ثم قام فاختار أغنية وضغط أزرار الآلة عدة مرات دون أن تستجيب. وأشارت الفتاة الحمامة إلى سطح مائدتنا، حيث استقرت العملتان ونسي
هانز
أن يأخذهما.
ضحك فتاها وضحكت أنا أيضا. وجه إلي الحديث متسائلا:
يو سبيك إنجليش؟
تتكلم الإنجليزية؟
سألته بدوري: تعرفها؟
قال: قليلا.
سألته بالألمانية عما يفعل، فأصر أن يرد بالإنجليزية، ولم أفهم سوى أنه يعمل في مؤسسة ما في
لايبزيج . وقالت الفتاة إنها من
برلين .
سألها
هانز
من أي مكان، قالت:
فايزنسيه .
قال لي هامسا: ثلاث دقائق بالموتوسيكل بيني وبينها .
صمت لحظات ثم قال: العرب نشطون. هل تفضل الشقراوات أم السمراوات؟
تذكرت شعر
هايدي
الأسود فقلت: الشقراوات بالطبع.
قال:
هايدي هبشة فراولين ، آنسة جميلة.
قلت:
فراو ، سيدة.
مال علي وسألني شيئا فلم أفهم. وكرر: أتعتقد هذا؟ ووضع إبهام يده اليمنى بين إبهام اليسرى وسبابتها وقبض يده.
تطلعت إلى ظفر إبهامه الذي كان يطل من يده الأخرى. وفهمت أخيرا.
قلت:
ناتورليش ، بالطبع. في الثامنة عشرة وليست امرأة بعد؟ لا يمكن في
أوروبا .
هز رأسه: ممكن. في
ألمانيا
ممكن.
قلت بخبث إني لاحظت أن عينيها عليك.
قال: فعلا؟
قلت: أجل. لقد اعتقدت أنك نمت معها في ليلة الحفلة.
قال: أبدا.
قلت: لم تتكلم مع أحد غيرك طوال الوقت.
قال: إنها لا تفهم لهجة
برلين
جيدا. ولا بد أن يتكلم المرء معها ببطء حتى تفهم. ولم أدرك ذلك إلا متأخرا.
طلبت بيرة جديدة وقلت له: ما رأيك أن نشرب
شنابس ؟ قال: لا بأس. طلبت كأسين من
الكورن ،
الفودكا
الشعبية.
جرعنا كأسينا، ثم ألحقناهما بالبيرة.
قلت: يجب أن تتكلم معها وتدعوها إلى جولة في الغابة.
قال: إنها لا تريد أن تفعل شيئا، فقط تقضي الوقت كله بالبكيني في الشمس.
كانت الساعة قد أصبحت الثانية عشرة ودارت النادلة تجمع الحساب. وقامت الفتاة الحمامة وأعانها صديقها على ارتداء معطف خفيف. ورددا لنا:
جوتن ناخت ، ليلة طيبة. وصاح بهما الرجل الأوزة:
فيل شباس ، وقتا سعيدا. وغمز بعينه. والتفت الشاب نحونا وهو عند الباب وابتسم باسطا كتفيه.
اقترحت أن ننصرف، فابتلع
هانز
ما تبقى بكوبه وغادرنا القاعة. قال: غدا نقوم بجولة ونرى المنزل رقم 45.
صعدنا الطريق إلى الدار، وأشار إلى منزل مظلم وقال: هنا تسكن
هبشة فراو ، امرأة جميلة. وقال إنه من غرفته في الطابق الأعلى يرى المنازل المجاورة، وهناك ثلاث نساء رائعات خلف المنزل المقابل.
فتحنا الباب في هدوء ودخلنا ومضينا نتحسس طريقنا في الظلام في حذر وصمت، وسبقته صاعدا بعد أن همست:
جوت ناخت ،
بيس مورجان . ليلة طيبة، حتى الصباح.
5
في السابعة صباحا فتحت طفلة في الحجرة المجاورة جعورتها، وظلت تصرخ حتى الثامنة وفشلت في استئناف النوم، فنزلت مع دقات جرس الإفطار. كان
هانز
جالسا بجوار أمه. وظهرت
هايدي
متأخرة في رداء مشجر ينتهي كالعادة فوق ركبتيها. وقال الأب إنهما ذهبا أمس مع المجريين إلى الفندق ورقصوا.
شحب وجه
هانز
وقال: كنا هناك ولم نركم.
قال الطبيب: كنا في الداخل.
قال
هانز
بصوته الجهوري وهو ينظر إلى الفتاة: قابلنا نساء رائعات.
لحظت كهلا يجلس عن قرب يدقق النظر إلى فخذي
هايدي
عندما وقفت تجلب منفضة سجائر لأبيها، ثم تنهد وانهمك في وضع الزبد على الخبز.
سمعت المجري يقول: قهوة
شلشت ، سيئة.
فاسر ، ماء. استقرت عيناي على خصلة الشعر الأسود تحت إبط
هايدي ، ثم على ركبتيها. التفتت ناحيتي ووجدتني أنظر إليها فابتسمت وابتسمت بدوري.
دخنت سيجارة وكان
هانز
يوزع نظراته بين
هايدي
والنافذة خلفي حيث لا يوجد شيء. ودعاني إلى جولة معه فاعتذرت.
صعدت إلى غرفتي، ودخنت سيجارة أخرى، ثم أمسكت ببطاقة البريد وقررت أن أكتب شيئا ل
إنجمار
بالإنجليزية: «عزيزتي
إنجي ، لا بد أن تكوني قد عدت من الإجازة. في الصورة المنزل الذي أقيم به. أفتقد كثيرا أحلى وأرق إنسان عرفته.» كتبت التاريخ ثم أضفت في آخر الكارت: قبلة ل
الهر
الصغير (ابنها).
وكتبت بطاقة ل
بيرينبك : «تحياتي لك وللعائلة من المنزل الذي ترى صورته. أستمتع للغاية بالطبيعة هنا. وأحاول طوال الوقت أن أتذكر ما قلته لي عن المنطقة وتاريخها. بالتأكيد سنلتقي قريبا.»
وقفت في النافذة حاملا الكاميرا. استقرت عيناي على فخذي
هايدي
التي تمددت بالبكيني فوق منشفة على العشب. كانت في نفس مكان الأمس الذي يواجه نافذتي. رأيتها تفرج ساقيها لتسمح لأشعة الشمس بالتسلل بينهما.
تناولت مقياس الضوء وجعلته في موقع الكاميرا ثم وجهته إلى الفتاة. حسبت المسافة بينهما بالتقريب وحددت زاوية القياس. وضعت المقياس جانبا ورفعت الكاميرا إلى عيني. ركزت النظر على الدائرتين اللتين ظهرتا داخل العدسة واللتين تحددان درجة وضوح الصورة. اعتبرت الفتاة هدفا ثابتا، فاخترت الدائرة الداخلية. ضغطت بخفة تدريجيا على زر الكاميرا حريصا على ثباتها. التقطت عدة صور لفخذيها المنفرجين.
ضمت فخذيها فجأة واستدارت على جانبها معطية ظهرها لناحيتي. التقطت صورة لجسمها وصورة أخرى لمؤخرتها.
شعرت بوجود
هانز
في نافذته بالطابق العلوي. لم نكن وحدنا اللذين لاحظاها؛ فقرب مدخل الحديقة جلس كهل وسيم ينقل بصره بين الطريق وبينها. كان يكلم نفسه ويهم بتوجيه الحديث لمن يمر به ثم يتراجع.
ابتعدت عن النافذة، وغادرت غرفتي ثم المنزل، وخرجت إلى
الكونسوم . كانت هناك لافتة على مدخله عن مبادرات للعاملين بمناسبة العيد العشرين القادم للجمهورية. ابتعت فرشاة لياقة القميص ودهانا للحذاء وقطعة شكولاتة بالبندق مستوردة من
ألمانيا الغربية
لم أشاهد مثلها في
برلين . كانت لذيذة الطعم وبأربعة
ماركات ؛ أي أربعة أضعاف ثمنها الأصلي ب
المارك
الغربي، وتقريبا نفس السعر طبقا لسعر التبادل في السوق السوداء.
شعرت بالبرد في الطريق. والتقيت شبانا وتلاميذ مدارس ثم عدة عائلات لوحت الشمس وجوه أفرادها الذين حملوا الكاميرات وعصي تسلق الجبال.
قضيت بعد الظهر في الحديقة بعد أن ارتديت بلوفر. وكانت
هايدي
في ثوبها القصير تتأرجح كاشفة عن فخذيها.
ظهر
هانز
فاقترحت عليه أن نذهب للفيلم الإسباني الإيطالي الفرنسي فرحب وعرضت على
هايدي
أن تأتي معنا فوافقت.
مشت بجواري، فطلب منها أن تمشي بيننا قائلا إن هناك كتابا مطبوعا عن هذه القواعد. وعبرت فتاتان أمامنا فتطلع إليهما. قالت
هايدي
إنه في الكتاب المطبوع يجب ألا ينظر رجل إلى فتاة أخرى حينما يكون مع واحدة. وقالت: في الغرب عندما يريد شاب أن يرقص مع فتاة يشير لها بإصبعه من مقعده. أما هنا فإنه يقوم ويذهب إليها وينحني أمامها.
حدثتهم عن الطفلة التي تفتح جعورتها بالصباح في الغرفة المجاورة في السادسة والنصف صباحا، وقالت
هايدي
إن
هانز
يدق باب حجرتها كل يوم في نفس الموعد ليسأل مرة عن عود كبريت ومرة عن معجون أسنان.
لحق بنا الطبيب في دار السينما. وكان الفيلم عن قصة
سكاراموش
المعروفة، ومليئا بالمبارزات. وبدأ الطبيب يتململ أثناء المبارزة الختامية، وعندما أضيء النور هب واقفا وهو يقول : هيا نشرب.
جلسنا في مشرب مجاور للسينما. وخلفنا صفت عدة موائد متجاورة، والتف حولها عدد من الشبان والفتيات يصخبون. أخذت أتأملهم. وقالت لي
هايدي : أنت دائما تبحث بعينيك عن الفتيات.
شربنا بيرة وبراندي، ثم عدنا أدراجنا إلى الدار لنلحق العشاء، ثم خرجت
هايدي
إلى الحديقة. وتبعتها فوجدتها تلعب الراكيت مع فتاة صغيرة سمينة تدعى
ميريام . جلست على مقعد أرقبها عندما تقفز في الهواء ويرتفع رداؤها القصير إلى أعلى. وكان فستانها ورديا مرتفع الخصر تحت الثديين مباشرة.
رآنا
هانز
من نافذته فجاء مسرعا وجلس إلى جواري. كانت
هايدي
قد تجنبت النظر ناحيتي وفجأة فعلت وسألتني: تحب أن تلعب؟
قلت: ربما يحب هو.
قالت: تلعب معه.
قلت: لا. يلعب هو معك.
تناول المضرب من الفتاة ووقف ناحيتي. طوحت
هايدي
بالكرة وعجز عن التقاطها بمضربه وجرى، ثم أحنى قامته الطويلة ليأخذها، فاحتك حذاؤه بالأرض في صوت عال. قالت بعد قليل إنها متعبة. وأعطت المضرب للطفلة وجاءت وجلست بجواري. أعطيتها سيجارة. وقلت لها بعد قليل إني قرأت في الصحيفة المحلية اليوم عن عرض لفيلم «رجل وامرأة» الفرنسي.
قالت: شهدت جزءا منه في برنامج تليفزيوني.
ترنمت بلحن الفيلم الرئيسي، ثم طلبت مني أن أحكي لها عن الأفلام التي رأيتها. وتحدثنا عن الممثلين وقالت إنها تعجب ب
جريجوري بيك
و
مارلون براندو
و
يول براينر
و
رود شتايجر ، لكن معبودها هو
سيدني بواتييه .
فرغ
هانز
من اللعب وجاء وجلس بجوارنا. سألته
هايدي
إذا كان يعرف الممثل
سيدني بواتييه . قال إنه لم يسمع عنه قط، فصاحت مستنكرة. وقالت بعد قليل إنها تشعر بالبرد.
مد
هانز
يده، وأمسك بقدمها وتحسسها، وقال: إنها باردة. ثم قال: يبدو أن نساء
كارل ماركس شتات
باردات.
قربت رأسها من رأسه في تحد قائلة: كيف عرفت؟
قال: الأمر واضح.
هزت رأسها متسائلة: هل نمت مرة مع واحدة منهن؟
قال: لا.
قالت: إذن لا تتكلم.
سألها بدوره: هل رجال
كارل ماركس شتات
ساخنون؟
أجابت: أجل.
قال: كيف عرفت؟
أجابت في جدية: نمت مع كثيرين منهم.
بدأ الظلام في الانتشار؛ فاقترح
هانز
أن نتمشى، وقال لها: تعالي معنا.
قالت: لا أريد.
مضت إلى الداخل بينما غادرنا الدار إلى الطريق. مشينا قليلا صامتين، وفجأة سمعت صفيرا ونظرنا خلفنا، ولمحنا شخصا يجري مسرعا ناحيتنا ثم همس
هانز
غير مصدق:
هايدي .
هبطت الطريق المنحدر جريا ففتح لها ذراعيه. وصلت إلينا لاهثة واستقرت بين ساعديه ضاحكة.
كانت تحمل بلوفر على كتفها فارتدته قائلة: الدنيا برد. سارت بيننا ثم سألتني عن
برلين الغربية
وكيف تبدو. استمعت مبهورة إلى مشاهداتي؛ الزحام. السيارات الأمريكية الحديثة. الباصات الأنيقة. الطلبة والشبان بملابس مهملة وشعور طويلة. الجامعة. إعلانات الطلبة؛ شراء أو بيع وطلب عمل عدة ساعات لتغطية نفقات التعليم. المظاهرات. المباني العالية والسينمات الكثيرة بمختلف الأفلام والصحف اليمينية واليسارية والفنون وحوانيت الجنس.
قالت: أمنيتي أن أعيش في
برلين .
هطل المطر فجأة بشدة، فعدنا جريا إلى الدار.
6
طرق الطبيب بابي صباحا في السابعة والنصف. وظهرت
هايدي
خلفه وبرفقتها
ميريام . قال إنه اتفق مع المدير على أن يعطينا سيارة بسائق لنذهب إلى مغارة تاريخية، وسألني إن كنت أرغب في الذهاب معهم. وافقت واغتسلت بسرعة ثم هبطت لتناول طعام الإفطار، ووجدت
هايدي
بمفردها إلى المائدة.
قلت: هناك من سيغضب إذا ذهبت معكم. ضحكت وقالت: أجل.
هانز .
احتل الطبيب المقعد المجاور لسائق
الفارتبورج
بعد أن طلب مني أن أجلس بين الفتاتين. جلست الصغرى على يميني و
هايدي
على يساري. وانطلقنا في الطريق إلى
جوتا
ومنها إلى
إيرفورت
وقبل أن نصلها انحرفنا إلى اليمين.
تبادلت الفتاتان الغناء طول الطريق؛
أزنافور
و
الخنافس
و
هاري بالافونت . وغنينا معا «لايلا»، و«غرباء في الليل»، وأغنية عن
فيتنام ، ثم
مصطفى يا مصطفى أنا أحبك يا مصطفى .
سألت
هايدي
إذا ما كانت تعرف معنى كلمات الأغنية فأجابت بالنفي. ترجمتها لها قدر ما استطعت فنظرت في عيني وغنت من جديد. وعند المنحنيات كانت العربة تميل إلى اليسار فأرتمي على
ميريام ، ثم تميل إلى اليمين فأرتمي على
هايدي
ونضحك.
توقفنا عند المغارة بعد ساعتين. طفنا بها ثم أكلنا
بوكفورست
وشربنا كونياك رومانيا وأصر الطبيب على الدفع، ثم اتخذنا طريق العودة، وواصلت الفتاتان الغناء.
وضعت
هايدي
ساعدها خلفي فأسندت رأسي إليه. وفتحت
ميريام
حقيبة جلدية مربعة وأخرجت أنبوبة كريم وضعته على ذقنها ثم وضعت كحلا فوق عينيها. وأخذت
هايدي
منها قصافة وجعلت تعنى بأظافرها الطويلة الفضية.
قال الطبيب إنه يريد أن يرى
القاهرة . أعطيته عنواني في
القاهرة
وفي
برلين ، وأعطاني هو عنوانه قائلا: زرت كل البلاد الاشتراكية، ووجدت أحسن ناس في
رومانيا
و
القوقاز . إذا أعجبك شيء في منزلهم أصروا أن تأخذه. هذه هي روح الشرق.
وصلنا الدار في السادسة والنصف. وولجنا قاعة الطعام. كان
هانز
جالسا يحدق أمامه شاردا. وضعت يدي على كتفه وحييته فلم يرد.
جلست آكل. ولم يكلمني ثم غادر المائدة في صمت. صعدت إلى غرفتي ثم هبطت ودخلت الحديقة.
بحثت عن
هانز
فوجدته في ركن بعيد. عرضت عليه أن نتمشى سويا. خرجنا في صمت إلى الشارع الرئيسي ثم انطلقنا إلى مجلس المدينة ووجدنا المشرب غير مزدحم وأغلب الموجودين من الرجال. قال: دعنا نذهب إلى مكان آخر.
عند المدخل وجدنا المطر يهطل بشدة فعدنا إلى الداخل. وسألته هل فعل شيئا بعد مع
هايدي .
قال: لا.
قلت: لا بد أن تحاول. ثم قلت إن اليوم كان مملا للغاية.
قال: كيف وأنت تجلس طول الوقت بجانبها.
سألته: كيف عرفت؟
قال إنه توقع ذلك. ثم أضاف: لا أمل لي؛ فهم أغنياء وأنا فقير.
سألته: ماذا تعني؟
قال: لا أمل في الزواج بها.
قلت: أنت مجنون. إنها أصغر منك بعشرين عاما ولها عالم آخر.
ضحك في خجل، وحرك يده أمامه في الهواء، ثم قال إنه لم ير أجمل منها.
قلت: لا بأس أن تنام معها وهذا كل شيء.
قال: لماذا لا تحاول أنت؟
قلت: لا أحب هذا النوع من النساء. ثم إنها صغيرة. يمكن أن تكون ابنة لي أو أختا.
قال:
هايدي
ستنساني.
قلت: بالطبع، وستنساها أنت أيضا.
قال: أبدا.
نظر في الساعة؛ وقال إنها الآن قد بدأت تتفرج على فيلم في التليفزيون. قلت: نعود إذن. تحدث معها وكن لطيفا.
أخرجت
ماركين
من جيبي لدفع الحساب. استوقفني قائلا: لماذا تدفع دائما؟
قلت: أنت أيضا تدفع. ادفع الآن إن أردت.
أخرج
ماركين
من جيبه.
قلت: خذ
الماركين
الآن؛ فأنا مدين لك بثلاثة
ماركات
ونصف. غدا أعطيك الباقي.
قال: لا بأس.
ثم فكر وقال إني دفعت له مرة كوب بيرة.
قلت: لا تكن
دوف ، عبيطا.
أخرج علبة سجائر رخيصة صغيرة الحجم بها ثلاث سجائر عدها ثم قدم لي واحدة أخذتها. دفع الحساب وكان
ماركا
وثلاثين
فنيج . وقال للنادل: اجعلهما
ماركا
وخمسين
فنيج .
شكره الرجل وأخذ
هانز
نصف
مارك
وتركنا الحانوت.
كان المطر قد توقف وسرنا صامتين ثم سألني عما إذا كنت أفكر في الزواج. أجبت بالنفي. سألني مرة أخرى عن المدة التي سأقضيها في
ألمانيا ، ثم عن مشروعاتي بعد ذلك. وكان اهتمامه مفاجئا.
بدأت أفهم السبب عندما سألني إذا كان مصرحا لي بالسفر إلى أماكن غير
برلين . قلت بخبث: مثل
كارل ماركس شتات ؟ أجل.
وجم فقلت إني لا بد أن أعود إلى بلادي، فانتعشت ملامحه قليلا. لكنه قال: لماذا لا تتزوج ألمانية وتبقى هنا؟
خطرت
إنجمار
ببالي وقلت: لا أريد.
سألني: أنت مصرح لك بالذهاب إلى
برلين الغربية ، أليس كذلك؟
أومأت بالإيجاب. قال: هل يمكنك أن تحضر لي بنطلون جينز؟ ثمنه هناك لا يزيد عن 16
ماركا . غربي بالطبع. أما ثمنه هنا فمائة.
أبديت استنكاري فقال: الدولة تضاعف الأسعار عندما تزيد على عشرة ماركات.
لم تكن
هايدي
في قاعة التليفزيون. وجلسنا نشاهد برنامجا عن الأفلام القديمة. وكان الفيلم المعروض هو «الملاك الأزرق». تابعنا قصة البروفيسور
رات
العجوز» في عاطفته المتدفقة نحو الغانية راكعا تحت قدميها، ثم وهو ينفجر في طلبته ويصيحون فيه:
أونرات ،
أونرات ، الوسخ. وفي النهاية ينهار.
7
هطل المطر بشدة في اليوم التالي. ولم يأبه أحد بذلك، فذهب الجميع للتمشية وبقيت أنا في غرفتي. ثم نزلت إلى قاعة التليفزيون بعد الظهر.
عاد الطبيب و
هايدي
في موعد العشاء. قال لي : نلتقي في السابعة والنصف لنذهب إلى نادي منظمة الشبيبة.
أومأت موافقا. صعدت إلى غرفتي وارتديت بلوفر برقبة مطوية، ثم نزلت. وبعد قليل فقدت الرغبة في الخروج، فقررت أن أبقى ولا أذهب معهم.
خرجت إلى الحديقة فلم أجد بها أحدا. صعدت من جديد ووقفت في النافذة، ثم نزلت وذهبت إلى حجرة التليفزيون. كانت خالية فأدرت الجهاز وجلست أمامه. ظهر أحد المذيعين معلقا على ارتفاع درجة الحرارة، وطالب المواطنين بالإقلال من استخدام المياه.
فتح باب القاعة في هدوء، وظهرت
هايدي
في بنطلون أسود واسع عند القدمين وقميص أبيض من قماش خفيف يغطي ساعديها.
سألتني: هل أنت جاهز؟
قلت: لن آتي.
جلست بجواري وتطلعت في عيني. قالت بصوت رقيق: لماذا؟ لقد وعدت.
قلت: إني متعب.
قالت: لا. الآن ستتلف كل شيء. يجب أن تأتي معنا.
ترددت ثم قلت: سآتي إذن.
غادرنا القاعة، والتقينا أباها مرتديا بزة سوداء كاملة.
ذهبنا مع
ميريام
وكان
هانز
قد سبقنا. وذهب معنا عامل شاب يدعى
فرانك
وزوجته. وكان ثمن الدخول مرتفعا؛
ماركين
و60
فنيج . ووجدنا الموائد الثلاثة محجوزة في مواجهة حلبة الرقص. وأجلسني الأب بجوار
هايدي
في طرف المائدة وجلس أمامنا. وجلست زوجة
فرانك
إلى اليمين وبجوارها
ميريام
ثم
فرانك
ثم
هانز ، الذي أصبح على رأس الموائد الثلاث من اليمين. وكانت عيناه تتنقلان بيني وبين
هايدي .
قلت للطبيب: يجب ألا تجلس معطيا ظهرك للحلبة. أنت أهم شخص بيننا. وقمت واقفا عارضا عليه مكاني.
هتفت
هايدي : ماذا حدث؟ في لحظة كنت بجواري والآن ستذهب؟
جلست في مكاني وأفسحنا لأبيها مكانا بجوار
هانز .
خلع الطبيب سترته متأففا من الحرارة. وعلق العامل الشاب بأن
ألمانيا
لم تعرف منذ قرن حرارة الأسابيع الماضية. وقال آخر: لم يكن الغريب هو الدرجة التي وصلت إلى 30 مئوية، وإنما استمرارها طوال تلك الفترة بلا انقطاع وبلا يوم مطر واحد. كانت الحلبة واسعة، والموائد مزدحمة بالشباب المتأنقين. وكانت
هايدي
تتطلع حولها بعيون متفحصة، وقد مالت ناحيتي بجسمها والتصق فخذها بفخذي. ملت عليها قائلا: سأقتل من يرقص معك أكثر من مرة واحدة.
في الناحية الأخرى من الحلبة تحت المسرح مباشرة كانت هناك مائدة التف حولها ثلاث فتيات وأمامهن زجاجات ليمون. لم يكن معهن رجال. وفكرت أنهن دفعن الماركات الثلاثة على أمل أن يكسبن أصدقاء.
ظهر الباند أخيرا. كان أفراده شبانا طوالا ملتحين، وبدءوا يعزفون، ولم ينزل أحد إلى الحلبة. أخذت أدق بيدي على حافة المائدة وبدأت
هايدي
فجأة تغني
أنا بحبك يا مصطفى
وهي تنظر ناحيتي. بادلتها النظر فابتسمت. حولت عيني بسرعة ونظرت ناحية
هانز
وألفيت عينيه مسمرتين علي.
انتقلت ببصري إلى فتاتين وقفتا بجوار مقعد خال بجوار الطبيب، وكانت إحداهما بيضاء ممتلئة ومتجهمة والأخرى صغيرة باسمة الوجه.
ملت ناحية الطبيب وقلت له: ما رأيك في أن نفسح لهما مكانا بجوارنا. صاحت
هايدي
مؤيدة الفكرة، وبدأنا نتحرك فوق مقاعدنا بحيث أصبحت أجلس بفخذ على مقعدي وفخذي الآخر على مقعد
هايدي
ملتصقا بساقها.
مع الرقصة الثانية تشجع عدد من الحاضرين وبدءوا يرقصون. وقامت
هايدي
ورقصت مع
ميريام . وتحولت كافة الأنظار إلى الفتاتين اللتين كانتا ترقصان بصورة جميلة منسجمة. كانتا تبسطان ساعديهما حتى نهايتهما ثم تدير إحداهما الأخرى من ساعدها في دائرة كاملة أمامها. وعندما عادت
هايدي
ظلت الأنظار كافة مسلطة عليها.
أراد
فرانك
أن يرقص مع زوجته، وكان علي أنا و
هايدي
أن نقوم من مكانينا لنفسح لهما الطريق. قامت
هايدي
أولا وقمت خلفها، ثم أشرت لها أن نرقص سويا، فمضت أمامي إلى الحلبة.
أحطت جسمها الرخص بذراعي ودرت معها بخطوات سريعة. كنا وحدنا في الحلبة وتطلع إلينا الجميع.
أبقيتها بعيدة عني. ولم أكن أفكر في شيء وشعرت بالضجر. كنت أتحرك بخطوات سريعة. وشعرت بصمت مطبق في القاعة والأنظار مسلطة علينا. وسمعتها تقول: ليس بسرعة. وعندما نظرت إلى وجهها رأيتها واجمة، وأدركت أن ثمة خطأ ما. انتهت الرقصة، فعدنا وهي ما زالت واجمة.
قال لي أبوها: هذه رقصة
شارلستون
القديمة. سهلة جدا. كيف لا تعرفها؟
اقترب منا شاب رشيق بسوالف طويلة وبنطلون أسود ضيق. عرض على
هايدي
الرقص فقامت معه. ضمها في حضنه، ودست ساقها بين ساقيه. رقص معها في بطء ملتصقا بها. وعندما انتهت الرقصة أعادها إلى المائدة. وكانت وجنتاها قد اصطبغتا بحمرة قانية.
ولأمر ما شعرت بالارتباك وخاطبته شاكرا.
همست لها: شاب ظريف.
قالت في اقتضاب: طفل. أنا أحب كبار السن.
لم أفكر في دعوتها إلى الرقص ثانية. وعرض عليها
هانز
الرقص معه، فاعتذرت لكنها رقصت مع الشاب الأول مرة أخرى.
8
استمر هطول المطر يومين فلزمت الدار. لكن الطبيب وابنته و
هانز
لم ينقطعوا عن الخروج والتجول. وفي اليوم الثالث توقف المطر فجأة. خرجت أتمشى قبل الغروب وانتهى بي الأمر إلى المشرب القريب. وجدت
فرانك
جالسا بمفرده. دعاني للجلوس معه وسألني عن دخلي وعن مستوى الحياة في بلادي. وقال: إنه لو كان في
ألمانيا الغربية
لعاش حياة أفضل.
لم أعلق فقال: يجب أن يكون لكل ما يكسبه.
قلت: الأمر ليس بهذه البساطة فهناك جوانب أخرى. توجد في الغرب أسر بلا منازل ولا توجد أسرة واحدة هنا بلا مسكن.
ابتسم ساخرا، وقال: أنت خائف أن تتكلم.
طلبنا بيرة وليمونادة ثم قهوة
موكا . وقالت النادلة: إن
الموكا
غالية فثمنها 3 ماركات، فقال
فرانك : لا بأس. أحضريها.
تحدثنا عن
هاينر . قال: إنه مرشح لعضوية الحزب وسيصبح عضوا بعد سنة. - وأنت؟
قال: لست عضوا. ربما أصبح بعد عدة سنوات عندما يتحسن تفكيري.
سألته عن دخله؛ فقال: إن صافي ما يتقاضاه هو 600
مارك ، وتتقاضى زوجته المدرسة 700، أما أخوه الذي يصغره بثلاث سنوات فقد ظل في
برلين الغربية
ويتقاضى 1300
مارك ، ويسكن في شقة من حجرتين يدفع مائتي
مارك
إيجارا لها.
انضم
هانز
إلينا فلزم
فرانك
الصمت ثم تركنا عائدا إلى الدار. وقال
هانز
بمجرد انصرافه إنه عثر لي على فتاة شقراء رائعة.
أبديت اهتمامي فقال: تحمست عندما ذكرت لها أن لي صديقا عربيا. وهي تنتظرنا الآن في المشرب القديم.
انطلقنا إلى هناك. ووجدنا الفتاة في انتظارنا.
بدت أصغر في السن من
هايدي . كانت ترتدي بلوزة بيضاء تحت بلوفر أحمر وجوبة ملونة تصل إلى ركبتيها . وكان شعرها مصففا في عناية ويتدلى فوق كتفيها. تبادلنا الأسماء. كانت تدعى
إلكا . وقالت إنها عاملة في مصنع للمشغولات البلاستيكية. طلب لنا
هانز
بيرة، ثم تركنا وحدنا.
جرعت كوبي وبدت هي عازفة عن الشراب. تبادلنا حديثا متقطعا تعمدت خلاله أن تتحدث ببطء كي أفهمها. وبعد قليل اقترحت أن نمضي إلى الغابة. دفعت ثمن البيرة التي لم تشربها وغادرنا المكان. صعدنا مع الطريق حتى بلغنا الغابة وسرنا وسط الأشجار الإبرية العارية من الأوراق.
جلسنا على صخرة فوق هوة. وتحتنا بعيدا امتدت مساحة خضراء واسعة تغطت أشجارها بالأوراق من أعلى إلى أسفل. عقبت على ذلك، فقالت إن الشمس تصلها بسبب الفضاء الرحب، أما داخل الغابة فتنمو الأوراق فقط فوق قمم الأشجار التي تصلها أشعة الشمس وتبقى الجذوع جرداء.
سألتني عن الأغاني التي أحبها. وقالت إنها في منظمة الشبيبة وإنها تحب الأغاني الأمريكية لكن رئيسها في منظمة الشبيبة يهاجم هذه الأغاني على الرغم من أنه لا يستمع إلى غيرها.
أحطتها بذراعي فلم تمانع. قلت: أنا معجب بك وأتمنى أن تدوم صداقتنا.
قالت: صداقاتي لا تدوم عادة وهذا يضايقني. ربما تستطيع تغييري.
سألت: ألا يزعجك أني أجنبي؟
قالت: أنا أنظر إلى الأجنبي كإنسان مثلنا. بالنسبة لي تمثل الشخصية العنصر الأساسي. وأعجب لمن يحملون مشاعر ضد الأجانب.
ملت عليها وقبلتها في خدها فأعطتني فمها. كانت شفتاها رقيقتين عديمتي الخبرة بالتقبيل.
تطلعت حولي فرأيت أننا وحدنا تماما وقد انتشر الظلام. أملتها إلى الوراء وفككت أزرار بلوزتها. كان صدرها صغيرا للغاية. مددت يدي إلى جوبتها فمانعت، ثم سمحت لي بأن أرفع الجوبة وأتحسس ساقيها.
فككت أزرار بنطلوني وأنزلته ثم انحنيت فوقها. حاولت أن أدخلها فألفيتها ضيقة للغاية.
كررت المحاولة وبدأ العشب يخز ركبتي وتساءلت عما أنا فاعل دون واق ذكري ومع طفلة بريئة، وسرعان ما فقدت الرغبة.
اعتدلت جالسا وأعدت ملابسي إلى سابق عهدها. وفعلت هي المثل.
قالت: أحب أن أزورك في
برلين . لكن يجب أن أصحب صديقتي وهي مثلي لا تملك نقودا.
قلت إني مستعد لأن أرسل إليهما بطاقتي قطار.
قالت: يجب أن أعود إلى منزلي الآن. سأعطيك عنواني لكن لا تكتب اسم المرسل على الخطاب وإلا دفع ذلك أمي لقراءته. يجب ألا تعرف أمي شيئا عن ذلك. أنت تعرف أني صغيرة جدا.
سجلت عنوانها في مفكرتي ونهضنا. افترقنا عند أول الطريق بعد أن قالت: لا تنسني واكتب سريعا. يسعدني أن أتلقى صورة لك.
الفصل الثالث
1
طلبت من سائق التاكسي التوقف، وانتظرت حتى نظر في العداد، وحسب بعض الأرقام على قطعة من الورق المقوى، ثم طلب مني ثلاثة
ماركات .
أعطيته المبلغ وقلت:
فيدرزيهن .
حملت حقيبتي وترجلت. سرت فوق الرصيف وقد مال جسمي مع الحقيبة. توقفت ونقلتها إلى اليد الأخرى. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل. والمباني التي أسير بجوارها مظلمة هي ومثيلتها على الجانب الآخر من المدينة، الذي يفصلني عنه سياج من الأسلاك الشائكة والحائط الشهير.
نقلت البصر بين أربعة جنود بعرض الشارع، وآخر يخطو حاملا مدفعه الرشاش على كتفه وهو يتفحص المكان الذي أضاءته الكشافات العالية. استقرت عيناي على كلب مقيد بسلسلة معدنية إلى الأسلاك الشائكة وتتيح له أن يجري بمحاذاة الحائط فيصل لأي نقطة في لمح البصر. لن يستطيع هو الآخر العبور إلى الناحية الأخرى.
توقفت أمام الباب الخشبي العريض. ووضعت الحقيبة على الأرض وجذبت المقبض فوجدته مغلقا. ملت فوق الحقيبة وفتحتها وبحثت في أركانها حتى وجدت المفتاح. فتحت الباب ودفعته وجذبت الحقيبة إلى الداخل ثم أغلقته. وضعت المفتاح في الحقيبة وجذبت سوستتها لكنها تعطلت ولم أتمكن من إغلاقها. حملتها كما هي وعبرت المدخل المظلم إلى الفناء المكشوف. تطلعت إلى أعلى. كانت نافذة مخدع
إنجمار
مفتوحة والضوء ينبعث منها.
دفعت باب المبنى وأضأت نور السلم. صعدت ثم توقفت أمام باب شقتها وضغطت الجرس. فتحت لي بعد برهة. دفعت المصراع الخارجي ناحيتي بينما كانت تدير مفتاح القفل وتجذب المصراع الآخر.
قالت وهي تجذب رداء خفيفا حول جسدها: سهرت أنظف النوافذ وأغسل الملابس حتى فقدت الأمل في مجيئك وغفوت. ظننت أنك عدت مباشرة إلى منزلك.
قلت : لقد وعدتك بالمجيء. كما أني اشتقت إليك.
تركت الحقيبة بجوار الباب. وعبرت الردهة إلى الصالة التي تقع غرفة النوم الصغيرة في نهايتها.
سألتني : جائع؟ أعددت لك سبانخ مفروكة مقلية وبطاطس مسلوقة.
أجبت: أكلت في القطار. أين
جون ؟
قالت: نام عند الجارتين.
أحضرت لي زجاجة بيرة وجلست بجواري على الأريكة.
سألت: قابلت فتيات جميلات؟
أشعلت سيجارة وأجبت: لا.
قالت: ضاع اليوم مني بسبب رجل عجوز وجدته جالسا في منتصف الطريق. كان هاربا من دار المسنين القريبة. ويريد أن يمشي لكنه عجز عن ذلك. وكان لا يفتأ يردد أنه يريد أن يأكل قطعة لحم ويشرب لترا من البيرة في مطعم. تجمع البعض، وقالت واحدة من السكان إنها تعرفه، وإنه كان في المستشفى وهرب منها. وقال آخر: إن الدار ليس بها كفايتها من العاملين، وإن كل عجوز بها يجب أن يعتني بغرفته ويعد طعامه بنفسه.
لم أعلق، فقامت وأحضرت خطابا من صديق أختها الذي يوجد الآن في
ألمانيا الغربية
لعمل ما. - يقول: إن الشك يعذبه لأن أختها لا تكتب له. وإنه منذ حادثة الطبيب التركي لم يعد يثق بها ويشك دائما في سلوكها.
سألتها: ماذا حدث؟ - كانت تريد الإجهاض وحاول الطبيب اغتصابها.
كان الخطاب من أربع صفحات طويلة. سألتني: ماذا تظن يجب أن أفعل؟
قلت: ابعثي إليه ببرقية. - ماذا أقول فيها؟ - قولي إنه مخطئ في ظنونه.
طوت الخطاب، وقالت: إن أصدقاء صديقاتها وأقاربها يلجئون إليها دائما. ثم قالت: إن الطفل ازداد وزنه؛ لأن الجيران يحشونه بالطعام والحلويات. وإن أحد رؤسائها في الوكالة انتقد شرودها.
انهمكت في الكتابة إلى صديق أختها ثم نظرت في الساعة، ولاحظت أننا يجب أن نستيقظ في الغد مبكرين.
دخلت المطبخ/الحمام وغسلت أسناني. حاولت أن أتذكر مواعيد دورتها الشهرية لأحسب أيام الأمان. ثم أطفأنا نور الصالة وذهبت إلى الحمام تغتسل بعد أن أحضرت لي شبشبا (لم تكن تحب أن أستعمل شبشبها الأحمر).
مضيت إلى المخدع وخلعت ملابسي. دخلت فراشها الضيق. وانضمت إلي وتمددت بجواري. تحسست ثدييها بأصابعي ثم بفمي . كان لحمها ساخنا ناعما. ثم امتدت يدي بين فخذيها. انتظرت اللحظة التي تكون فيها مستعدة فتجذبني إليها. وسرعان ما بدأ الفراش يهتز تحتنا . لم يبق إصبعي داخلها سوى لحظات ثم أخرجته ومسحته في جسمها، وأحطت رأسها بساعدي مبعدا إصبعي عن أنفي. وأدخلت نفسي في جسمها ببطء. ظللت أرهز في رقة أحيانا، وسرعة وعنف أحيانا أخرى، وهي تئن تحتي وتتلاشى. وتطلب مني أن أتقدم أكثر إلى الداخل وأفعل حتى تلاصق جسدانا تماما واصطدم رأسها بالحائط عدة مرات، بينما كنت أبذل جهدي للسيطرة على نفسي، فأبطئ ثم أتوقف فجأة ثم أعاود.
طلبت مني أن أعض ثديها، ثم ارتعشت وصاحت:
إيش ،
إيش ، أنا، أنا ...
فكرت: هل تريد أن تقول:
إيش ليبه ديش ، أنا أحبك، أم ماذا؟ وشعرت بها ترتعش، فتركت نفسي في لذة قوية هزت كل جسدي وجعلتني أكف عن التفكير لحظة وأشد شعرها، ثم استكنت على صدرها وغفوت لحظات.
قالت بعد برهة: إن الأمر جميل للغاية. ومدت يدها أسفل وسادة الفراش، واستخرجت منديلا من القماش.
سألتني: هل استمتعت؟
قلت: بالطبع.
قالت:
فييل ؟ كثيرا؟
قلت:
فييل .
نهضت واقفا وأحضرت سيجارة وعلبة ثقاب ومطفأة. أشعلت السيجارة. ولجأت إلى فراش الطفل. نادتني طالبة أن أقبلها. غادرت الفراش، وانحنيت فوقها وقبلتها قائلا:
جوت ناخت ، ليلة طيبة.
عدت إلى فراشي واستأنفت التدخين، ثم دعست السيجارة في المطفأة. ونمت.
2
سألني
نويمان
بعينين باسمتين: كيف كانت العطلة؟
قلت: رائعة.
قال: قابلت فتيات جميلات؟
قلت: طبعا. كنت قريبا من معسكر اعتقال
بوخنفالد . ذكرني بمعتقلات الشيوعيين في
مصر .
وجم وتلاشت الابتسامة من عينيه وهبط بهما إلى ورقة أمامه. كان يتجنب أي حديث يمس البلاد العربية التي اعترفت لتوها ببلاده.
ابتسم
فخري
وأطرق برأسه في سعادة.
خاطبه
نبيل : هر
نويمان . نحتاج إلى تليفون في المنزل.
أجاب في غير حماس: سأكلم الإدارة.
غادرت مكتبي إلى التواليت. عند عودتي التقيت
أولريكا
في الطرقة الضيقة المؤدية إلى كل من القسم العربي والصالة الرئيسية.
حييتها قائلا: لم أرك من مدة.
قالت: وعندما رأيتني تجاهلتني.
كانت تشير إلى اليوم السابق على بداية العطلة. وكانت قد وفدت على القسم العربي عدة مرات بذرائع واهية، لكني تجاهلتها.
قلت: أبدا. كنت مشغولا بالتفكير في السفر.
قالت وهي تتطلع حولها في حذر لتتبين ما إذا كان أحد يتابعنا: كيف كانت العطلة؟
قلت: رائعة.
قالت: كنت وحدك؟
قلت: أجل. لم أتصور أنك تقبلين المجيء معي.
احمر وجهها وانصرفت مسرعة. عدت إلى مكتبي فوجدت خطابا من
سعد ، أحد أصدقائي في
القاهرة ، يطلب مني أن أبعث إليه بحذاء مقاس 43 وخيمة! تذكرت أنه أعطاني قبل السفر عشرين دولارا، وظننت وقتها أنها مساعدة ودية فيما أنا مقبل عليه من مغامرة.
تصفحت النشرات السابقة التي تكومت في غيابي. وقرأت خطاب
عبد الناصر
في ذكرى
23 يوليو : هاجم
الولايات المتحدة
وشكر
الاتحاد السوفييتي
وطالب
الاتحاد الاشتراكي
بأن ينشط بين الجماهير، واقترح ألا تزيد الملكية الزراعية عن خمسين فدانا للفرد.
حانت ساعة الغداء فدعاني
فخري
إلى مطعم الدجاج المشوي أسفل محطة
فريدريش شتراسه . وقفنا في طابور طويل أمام المطعم تلفنا رائحته. تقدمنا ببطء ونحن نتأمل الجالسين في حسد من خلال بوابته الزجاجية وهم يلتهمون الدجاج في شبق. وكانت أمامنا امرأة ترتدي قبعة خضراء مضحكة تشبه موضة العشرينيات والثلاثينيات، ورداء ملونا يغطي ركبتيها وبرفقتها ثلاثة رجال ذوي ملامح عربية.
سألني
فخري : كيف كانت الفتيات في العطلة؟
قلت: لا بأس.
قال: هل كانت هناك برلينيات؟
قلت: لأ. - ولا واحدة من الوكالة؟
أدركت أنه يلمح ل
إنجمار .
قلت: أبدا. كلهن من الأقاليم، ومن هيئات أخرى.
قال: خسارة. البرلينيات لا يعوضن.
سألته: وأنت ماذا فعلت؟
أجاب: سآخذ عطلتي في الشهر القادم.
ثم أضاف بغير حماس: سأقضيها مع زوجتي والأولاد لدى أهلها في
لايبزيج .
اقتربنا من الباب وأصبحنا أخيرا على عتبته. ثم أشار إلينا نادل متعجرف بالدخول والجلوس إلى مكانين حول مائدة لأربعة أشخاص.
واجهنا سيدة متقدمة في السن برفقة شاب يبدو من ملامحه ابنا لها. كان في العشرينيات ويتمتع بوسامة بالغة لفتت انتباه فتاة جميلة حول المائدة المجاورة. لم ترفع عينيها عنه، وما لبثت أن غادرت مقعدها إلى التواليت.
علق
فخري
الذي لم يغب عنه المشهد: الشاب الجميل أثارها. ستستمني الآن.
بعد انتظار طويل وضع النادل نصف دجاجة مع البطاطس المحمرة وكوبا من البيرة أمام كل منا. وأقبلنا نلتهم الدجاج الشهي.
عادت الفتاة الجميلة وتابعها
فخري
ببصره ثم قال: تعرفت أخيرا على كوافيرة فاتنة.
سألته: نمت معها؟
قال: طبعا. تعشق الجنس. تحب أن تجرب معها؟
قلت: هل هذا ممكن؟
قال: حدد الموعد فقط وأنا أحضرها لك. لا يمكن الذهاب إلى منزلها لأنها متزوجة.
جرعت من كوب البيرة ثم سألته: ماذا تنوي في المستقبل. هل ستعود ل
العراق ؟ - أنت ترى ما يحدث للأكراد. التحالف الحالي مع البعثيين ألا ينقلب علينا في أي وقت فهذا تاريخهم. أظن أني سأقيم هنا إلى الأبد. زوجتي ألمانية وتعمل في التمريض. وهي مهنة جيدة. وهناك أولادي أيضا. التعليم والصحة متوفران لهم. ومستقبلهم مضمون.
عدنا على مهل إلى مبنى الوكالة وقد تشبعت ملابسنا برائحة الشواء. تركت «فخري» في الطابق الأول لأمر على
إنجمار . وجدتها جالسة إلى مكتبها في غرفة ضيقة تضم مكتبين آخرين. وكان أحدهما مشغولا بزميل لها يدعى
شاخت ، فجلست إلى المكتب الخالي.
كان
شاخت
طويلا مثلها لكنه نحيف وطيب المعشر. علقت على ما بدا عليه من حيوية وانتعاش.
قال: إنها
الأورلاوب ، العطلة. قضيت ثلاثة أسابيع في
المجر
بمفردي تماما. كانت تجربة
هيرليش ، رائعة.
سألته: كيف؟
قال: الناس هناك ودودون وكل شيء موجود، الكتب والسلع المختلفة؛ لأنهم يستوردون الكثير.
كان في يده إصبع من أقراص النعناع وعرض علي منه؛ بعد تردد فقبلت.
قال: في
برلين
عندما تقبل عليك فتاة في الطريق تصنع نصف دائرة حولك كي تتجنبك. أما هناك فتشق طريقك بين الجموع بيديك قائلا هالو، وتعرض المظلة على فتاة كي تسير معك فتقبل.
التقط قرصا من النعناع بشفتيه واستطرد: أول يوم التقيت شخصا عرض علي غرفة في مسكنه. قال لي: تعال شوفها؛ إذا أعجبتك فخذها وإذا لم تعجبك فلا تأخذها. الطريقة التي تكلم بها الرجل جعلتني أقبل ضاحكا وأخذتها راضيا رغم أني دفعت 60
فلورنت
أي حوالي 20
ماركا .
لم تحول
إنجمار
عينيها عن شفتيه وهو يرفع عينيه إلى السقف مضيفا: الآن أعمل منذ أسبوع، مأساة. أشعر بالحاجة إلى شهر آخر. أليست العطلة في
السويد
شهرين؟ أنا أكره الغرب. لكن كل واحد هنا صنع حدودا حوله، جزيرة. في
بولندا
و
المجر
حياة أخرى ودودة.
هز رأسه: أنا أفهم جيدا كيف يقاسي الأجانب هنا لأنني أيضا أقاسي ...
انتقل الحديث إلى سنوات الشباب والجامعة؛ الحماس والأفكار والمشروعات، الثقة في أنك ستفعل شيئا أو تكون شيئا، ثم التخرج والانزواء في ركن، أو ترسا في عجلة ضخمة. وتدرك أنه يتعين عليك أن تقبل بقوانين «الحياة» وتمضي الأيام سريعة ومع كل عام تتنازل عن أحد أحلامك القديمة أو مثلك أو رغباتك أو أفكارك.
أمنت على كلامه واستأذنت في الانصراف قائلا:
أربايت ، العمل.
خاطبتني
إنجمار : نلتقي عند الانصراف لنذهب معا؟
فكرت أنها رسمت خطة لكل شيء. نذهب سويا لنشتري شيئا، ثم منزلها والطفل والعشاء، وأخيرا النوم لنستيقظ مبكرين.
قلت: لن أستطيع فلدي أمر ما.
غضبت وتركتها محرجة أمام صديقها. وكنت هادئا، ولم أشعر بأي رغبة في أن أكون رقيقا.
3
توقفت في يوميات الشاعر الإيطالي
سيزار باتيس
عند قوله إنه يحب أن تمتلكه المرأة لا أن يمتلكها هو.
وضعت الكتاب الذي اقترضته من
كاسترو
جانبا. أصغيت لضجة يوم الأحد القادمة من شاطئ البحيرة. نهضت وخرجت إلى الحديقة. كانت
إنجمار
ممددة بالمايوه فوق العشب تقرأ. رفعت عينيها إلي.
قلت لها:
باتيس
في أيامه الأخيرة كان يتساءل عن جدوى الحياة ويتحدث عن الانتحار.
شيء ما في لهجتي جعلها تتطلع إلي في تساؤل.
كانت حرارة الجو خانقة بلا نسمة هواء.
قلت كأنما أحدث نفسي: مثل جو
القاهرة
في هذا الوقت من السنة.
سألتني: حدثني عن الفتاة التي كنت تحبها في
مصر . أما زلت على علاقة بها؟ - تركتها عندما أرادت الزواج. - ولماذا لم تتزوجها؟ - لم أكن جاهزا وقتها للفكرة.
حولت نظراتها إلى الأرض: والآن؟ - ما زلت. هناك أشياء أريد عملها، وأماكن أريد أن أزورها.
وجمت وفكرت لحظة ثم قالت: يمكنك أن تفعل كل هذا مع زوجتك.
ظهرت فتاة بعوينات طبية فوق دراجة على مدخل الحديقة . ترجلت وركنت دراجتها جانبا وتقدمت منا.
نهضت
إنجمار
ورحبت بالفتاة وعرفتني بها: صديقتي
روزي . إنها تدرس اللاهوت.
كانت قمحية البشرة طويلة يتدلى شعرها على وجهها طليقا لتزيحه بالطبع كل برهة، فتكشف عن شفتين ممتلئتين ووجه مستطيل وعينين عسليتين مكحلتين. وترتدي بنطلونا كحلي اللون وبلوزة بيضاء لها رقبة مطوية وكمان مطويان إلى المرفقين. وأحاط برقبتها وشاح أحمر معقود من الأمام.
أبديت تعجبي من أن تكون هناك مدرسة للدين في بلد اشتراكي.
قالت: هناك كلية متخصصة في جامعة
هومبولت
يتخرج فيها القسس. سوف أؤدي الامتحان النهائي هذا العام.
جلسنا حول المائدة وأحضر
جون
الزهور البنفسجية الصغيرة فوضعتها أمه أمامنا في إناء.
قالت: عائلة
تسان
التي تسكن بجوارنا تذهب كل أحد إلى الكنيسة.
قالت
روزي : الناس في عصرنا تعساء لأنهم فقدوا إيمانهم بالدين.
تطلعت إلى قدميها البارزتين من حذاء صندل عقدته برباط دار حول مقدمة ساقها في دورات حلزونية. وكانت أظافرها مصبوغة بلون أحمر قان.
قلت: الشيوعيون أيضا. كانوا أكثر سعادة منذ عشرين سنة أو أكثر عندما كانت الشيوعية كالدين.
قالت: الشعور الديني قوي. بعض الرفاق كانوا يحضرون قداسا في كنيسة فانفعلوا وألفوا أنفسهم يرسمون الصليب.
حدثتهما عن صلاة عيد الأضحى والنشوة التي أشعر بها عندما أسمع ترنيم آلاف المصلين في الفجر: الله أكبر كبيرا ...
اقترحت
إنجمار
القيام بجولة بالدراجات. هلل
جون
وارتقى دراجته. واعتذرت قائلا إن الحرارة شديدة وأفضل القراءة.
قالت
إنجمار : إذن تعد لنا
الأبند بروت ، طعام العشاء.
انصرفوا موجهين التحية للهر
تسان
في حديقته. واستقرت عيناه على مؤخرة
روزي
في اهتمام.
ولجت الكوخ وأشعلت النور وأغلقت الباب لتلافي البعوض. تناولت مذكرات
بافيس . قرأت بعض الوقت وتوقفت عند قوله إن أهم مادة هي التي يظن الكاتب أنها أبعد ما تكون عن مادة أدبية وهي حياته اليومية. ثم قمت وأخرجت وعاء الخبز من الخزانة المزودة بمصاريع من السلك المخرم . وضعته بجوار لوح التقطيع الخشبي. أضفت إليه السكين المشرشرة الطويلة ثم الإناء البلاستيك الشفاف الذي يحتوي على الجبن المحفوظ و
الليبر فورست . أعددت عدة شطائر ثم استأنفت القراءة.
سمعت صوت الدراجات، فأطفأت النور وفتحت الباب ووقفت منتظرا. جاءت
إنجمار
أولا ثم الفتاة في أعقابها. وظل الطفل في الخارج.
خاطبت
روزي
وهي تقترب متسائلا:
فييل شباس ، متعة كثيرة؟
قالت:
تزير فييل ، كثيرا جدا.
أسندت الدراجة إلى سور الحديقة. وظهر
تسان
عند مدخلها فرحبت به
إنجمار . انضم إلينا موجها اهتمامه إلى
روزي . وكان يرتدي الشورت وقميصا بنصف كم أبرز عضلات ساعديه.
قالت
إنجمار
وهي تضرب ساعديها بكفيها لتقتل البعوض: الأفضل أن نجلس في الداخل.
أدخلنا المقاعد. وأغلقت الباب ثم أضأت النور. ووقفت مستندا إلى الحائط. دعت
إنجمار تسان
إلى الجلوس وسألته: كيف الأمور مع القارب؟
قال: ما زال في المرسى.
اعتلى الطفل مقعده وأخذ يهز ساقيه وهو يدندن لنفسه. أعدت له
روزي
قطع الخبز المغطاة بالزبد فطلب جبنا. وانطلق
الهر تسان
في كلام بلا توقف موجه غالبا إلى
روزي . ورأيتها تمسك بكوب وترفعه ثم تعيده إلى مكانه. وكررت هذه الحركة عدة مرات.
سألتني
إنجمار
أن أعد الشاي فملأت الأبريق من صنبور الحديقة ووضعته فوق قطعة صغيرة من الرخام، ثم دسست فيه القضيب المعدني وغطيته. وثبت مقبس القضيب في الحائط.
عدت أقف عند المدخل. والطفل ما زال يهز ساقيه ويحدق في ظلام الحديقة، غارقا في عالمه، بينما
الهر تسان
يتحدث بلا كلل عن قاربه وبطارياته.
وأخيرا انسحب. رافقته إلى الخارج وأحضرت إناء الزهور. وضعته وسط المائدة ثم نقلته إلى حافتها عندما رأيت أنه يحول بيني وبين وجه
روزي
الأسمر الممتلئ.
قلت لها: للوهلة الأولى لم أظنك ألمانية.
زمت شفتيها وتطلعت إلى أعلى ثم نظرت إلي وقالت: أنا من أصل إيطالي. تطلعت
إنجمار
إلى الساعة فوجدتها الثامنة والنصف. طلبت من الطفل أن يغسل قدميه ويدخل الفراش. ورافقته إلى الداخل.
سألتني
روزي : هل تعجبك الحياة هنا؟
لم أعرف بماذا أجيب.
قالت: لا بأس. البعض لا تعجبهم
برلين
ومبانيها.
قلت: المباني ليست مهمة.
انضمت
إنجمار
إلينا. واستأنفت حديثا سابقا مع
روزي
عن حفل أقامه طلبة
فرانكفورت
في
ألمانيا الغربية . فهمت بعد قليل أن طالبة خلعت ملابسها في نهاية الحفل ورقصت عارية تماما ثم مارست الجنس مع شاب لا يرتدي غير الجوارب.
قالت
إنجمار
لي: انتهى طبعا بسرعة على عكسها. وهنا أكملت بيديها ما عجز هو عن تحقيقه. تصرف غير أخلاقي بالمرة.
أمنت
روزي
في استهجان.
قلت: الأخلاق نسبية حسب الزمان والمكان.
تثاءبت
إنجمار
فنهضت
روزي
قائلة: سأنصرف الآن. أراكم غدا.
4
غطت أنباء الثورة الليبية على وفاة
هوشي منه
وحريق المسجد الأقصى وغارات الطائرات الإسرائيلية على جنوب
لبنان
وشحنة طائرات الفانتوم التي سلمتها
الولايات المتحدة
ل
إسرائيل . وأبرزت التعليقات قرار إغلاق القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية في
ليبيا .
انتهت نشرة الصباح فتناولت الخطاب الذي وصلني من
هايدي
وأعدت قراءته: «العزيز
صادق
كيف حالك؟ نحن جميعا في حال جيدة. أبي لديه عمل كثير. أما أنا فما زلت في عطلة. أفكر فيك كثيرا. تعارفنا ومضى الوقت سريعا ... ماذا تفعل الآن؟ هل ستبقى عاما آخر في
برلين ؟ ربما نراك مرة أخرى. أرجو أن تكتب لي عندما يكون لديك وقت. قبلات كثيرة.»
أشعلت سيجارة. وقرأت الخطاب مرة ثالثة.
تطلعت حولي في ضجر. وبدأ صوت آلات
التليبرينتر
يصيبني بصداع خفيف.
خاطبني
نويمان
بجدية شديدة: مستر
سلمان الزويني
من مكتبنا في
بيروت
وصل اليوم. ما رأيك في أن نذهب لاستقباله؟ - في المطار؟ - لأ. في الفندق الذي يقيم فيه.
أونتر دين ليندن . - الآن؟
أخفيت حماسي للخروج بجهد خارق.
قال بلهجة استنكار لفكرة الانتقاص من وقت العمل: في نهاية اليوم.
قلت: لا بأس.
اعتذر العراقيون عن الذهاب بدعوى الالتزامات العائلية. وفي الخامسة تماما غادرنا الوكالة. ورأيت
إيزابيلا
و
إيزولدا
يتبادلان حديثا هامسا عند المدخل، ثم تأبطت الأولى ذراع الثانية وانصرفتا. ولاحظت أن علامات الحمل تبدو على
إيزولدا .
تقدمنا
نويمان
في هيئة الجنرال وتبعناه، أنا و
نبيل ، نحو الفندق. قال لي عندما أشرفنا عليه: إنه صديق قديم ل
ألمانيا الديمقراطية .
فكرت أنه يعتذر عن التفرقة في المعاملة بين فندق الدرجة الخامسة أو السادسة الذي أقمت به عند وصولي وبين فندق الدرجة الأولى الذي أعطي للمستر
سلمان .
ونحن أمام مكتب استقبال الفندق سمعت من ينادي على اسمي. استدرت لأجد
مديحة حسين .
كانت صحفية مصرية في الأربعين، متزوجة صحفيا شهيرا ومشهورة هي أيضا بغرامها بشباب الصحفيين والكتاب، وتعرفت بها قبل سفري من
مصر
مباشرة. كانت سمراء ضئيلة، ذات وجه مليح بعينين واسعتين وشعر أسود مجعد، ملموم خلف رأسها في ذيل حصان. وترتدي تاييرا رماديا من سترة وجوبة.
تركت
نويمان
واتجهت إليها. صافحتها ورحبت بها متسائلا: ماذا تفعلين هنا؟ سياحة أم عمل؟
أرسلت ضحكة طويلة: عمل طبعا. من سيأتي هنا للسياحة؟ أنا في وفد. معي
فتحي عبد الرازق
و
بهاء .
تلفت حولي: أين هما؟
قالت: في
برلين الغربية . يشتريان سيارة ... وأنت؟ ما الذي جاء بك؟ - أعمل هنا. في وكالة الأنباء.
قالت: تعال نجلس قليلا.
قلت: أنا الآن في مهمة عمل.
قالت: متي تنتهي؟ - لا أعرف. بعد ربع ساعة وربما أكثر.
قالت: أوكي. كلمني عندما تكون جاهزا. لا بد أن أراك الليلة لأني سأسافر غدا.
أعطتني رقم غرفتها وعدت إلى
نويمان . جلسنا في ركن من البهو التقليدي، وقد أحطنا به حسب مستوياتنا الوظيفية؛ أنا على اليمين و
نبيل
على اليسار. وسرعان ما انضم إلينا
المستر سلمان .
كان أربعينيا طويل القامة عريضها، ذا وجه يميل إلى السمرة بابتسامة متكلفة وعينين صفراوين. وكانت له ذراعان قصيرتان لا تتناسبان مع حجم جسمه.
تولى
نويمان
مهمة التعارف. وعامل
المستر سلمان نبيل
باستخفاف وشيء من الاستعلاء. أما أنا فقد عاملني بحذر.
انتهز
نويمان
الفرصة ليتناول الشراب فطلب لنا كئوس البراندي الروماني. وظهر التأثير فورا على
المستر سلمان
الذي لم ينم لحظة منذ مساء الأمس بسبب السفر. وكرر
نويمان
طلب البراندي مذكرا النادل بأن يضيف الحساب على غرفة
سلمان
ثم استأذن في الانصراف ليلحق بزوجته.
استرخى
سلمان
في مقعده بعد انصراف
نويمان . وتطلع حوله بعينين زائغتين من تأثير الشراب حتى استقرتا على فتاتين تجلسان إلى مائدة قريبة.
كانت إحداهما تواجهنا مباشرة، شقراء ذات عينين شديدتي الزرقة، وملاحة ظاهرة شابتها مسحة من الحزن. وكانت الأخرى ذات ملامح عادية وجسم ذكوري.
رفع
مستر سلمان
كأسه إلى شفتيه، وأومأ للشقراء محييا فلم تستجب.
مال علي وقال وهو يدقق النظر إليها:
صادق ، أهي جميلة؟
أجبت على الفور: فاتنة.
ابتسم راضيا وحاول القيام ليذهب إليها لكنه لم يستطع. أشار إليها لتنضم إلينا، فتجاهلته ومالت على رفيقتها وهمست لها بشيء ما.
خاطبهما بالألمانية التي يجيدها، فاستجابت الشقراء في تردد. وجرى حديث التعارف التقليدي: من أين ونوع العمل أو الدراسة ومكان الإقامة. وفهمت أنهما طالبتان في معهد موسيقي ومن سكان
برلين .
طلب لهما كأسين من البراندي فاحتستاهما، ثم عرض عليهما الصعود إلى غرفته حيث يوجد لديه براندي فرنسي أطيب مذاقا. تهربتا من الإجابة لكنهما ظلتا جالستين كأنما تنتظران أحدا أو شيئا. ولحظت أن يد الشقراء ترتعش وهي ممسكة بكأسها.
ران علينا الصمت. وشعرت به على وشك النعاس فقلت: يحسن بك أن تصعد لتنام.
نظر إلي في غضب تلاشى بعد لحظة ونهض واقفا. ترنح فسندته بساعدي. وتناول
نبيل
ذراعه ورافقناه حتى المصعد.
قلت ل
نبيل
وهما يدخلان المصعد: لا تتركه قبل أن يدخل فراشه. سأنصرف الآن.
حانت مني نظرة إلى البهو ولمحت الفتاتين تتجهان إلى باب الفندق، ولحظت أن الشقراء تجر ساقا يسرى معطوبة.
اتجهت إلى مكتب الاستقبال، واستخدمت التليفون لأتصل
بمديحة .
جاءني صوتها على الفور: اصعد.
أخذت المصعد إلى غرفتها. فتحت لي الباب. جذبتني إلى الداخل في ألفة وقادتني إلى الفوتي الوحيد بينما اقتعدت حافة الفراش الذي تناثرت أغطيته في فوضى. أخذت تحكي انطباعاتها منذ وصولها قبل ثلاثة أيام. وأنصت إليها متأملا.
كانت قد خلعت سترتها كاشفة عن صدرية بيضاء بكمين قصيرين، يكمن خلفها صدر عامر. واستقرت عيناي على شفتين رفيعتين جافتين.
فكرت في إجراء حوار للوكالة معها. وفكرت في أشياء أخرى. ولحظت أنها لم تعن بتنظيف أسفل أظافر يديها.
تطلعت إلى ساعتي وقلت : لا بد أن أنصرف الآن. أمامي مسافة حتى منزلي.
نهضت واقفة واقتربت حتى وقفت أمامي مباشرة وقالت مستنكرة: هو احنا مش عاجبين ولا إيه؟
وقفت وعيناي ملتصقتان بأظافر يديها وابتعدت خطوة قائلا: أشعر بالتعب، ثم لا بد أن أنام مبكرا. تعرفين هؤلاء الألمان. سأكلمك غدا.
رافقتني حتى باب الغرفة وفتحته قائلة: لن تجدني. سأكون مشغولة بالاستعداد للسفر.
خطوت إلى الممر الخارجي قائلا: مع السلامة إذن. سنلتقي مرة أخرى بالتأكيد.
5
علقت الكاميرا في كتفي وخرجت مع
إنجمار
من الوكالة. عرجنا إلى حانوت للأدوات المكتبية في نهاية شارع
فريدريش شتراسه
قرب نقطة حدود
شارلى شك بوينت . اشترت للصبى علبة أقلام رصاص وحبرا وممحاة وكيسا ضخما على شكل قمع السكر ليملأ بالحلوى والهدايا عندما يأخذه معه في أول أيام الدراسة. أرادت أن تشتري مقلمة جلدية فمنعتها قائلا: إني أحضرت له واحدة من
برلين الغربية
بها أقلام ملونة من النوع الفوسفوري، أضفت إليها تميمة مفتاح الحياة الفرعونية التي جلبتها معي من
مصر .
استقللنا
الأوبان
حتى منزلها. ولحقت بنا العجوزتان برفقة الطفل، تحملان هديتهما له بهذه المناسبة؛ بنطلون ومعطف مطر بكاب.
قالت إحداهما: عندما ذهبت إلى المدرسة لم يكن هناك شيء من هذا كله. فقط لوح إردواز ومقلمة.
تجمعنا حوله في الصالة وهما تلبسانه البنطلون. اكتشفتا أنه أطول مما يجب، فانحنتا عليه وركعتا على الأرض، واحدة إلى يمينه والأخرى إلى يساره تطويان طرفيه وتشبكانه بالإبر تمهيدا لحياكة التعديل.
أحضرت الكاميرا والتقطت لهم عدة صور.
قالت
إنجمار : سأذهب لأعد الكعك.
تبعتها إلى المطبخ وقلت: إنهما تعشقانه.
ردت بالإنجليزية: تريدان الاستحواذ عليه تماما. تشاجرت معهما بالأمس لأنهما تحشوانه بالطعام طول الوقت.
لاحظت أن كمية الدقيق التي تستخدمها أكثر من المعتاد. علقت على ذلك، فقالت وهي تبتسم في رضا: سأصنع ثلاث كعكات؛ واحدة ندعو إليها العجوزتين غدا مع القهوة، والأخريين نأخذهما إلى الكوخ للأصدقاء الذين جلبوا هدايا للطفل.
انتهت العجوزتان من مهمتهما وانصرفتا. انهمك الطفل في رص قطع بلاستيك ملونة مشيدا برجا للتليفزيون. وأتمت
إنجمار
إعداد أول كعكة ووضعتها على النار وضبطت المنبه على ساعة.
قالت متفكرة: كانت هناك فترة فكرت فيها في الانتحار. لم أكن أشعر برغبة في القيام من الفراش. وتغير كل شيء عندما حملت وولدت.
أضافت وهي تتحاشى النظر إلي: لا مانع لدي من طفل جديد.
لم أعلق فحولت عينيها إلي وسألتني: ألم تفكر في إنجاب أطفال؟
أجبت باقتضاب: لا.
خرجت إلى الصالة. تمددت على الأريكة شاعرا بالرغبة في النوم. ونادت علي من المطبخ لأرى الكعكة التي اكتمل إعدادها.
قلت إني سأنام.
جلبت الكعكة لتريها لي. كان سطحها موزعا بين اللونين الأبيض والبني.
قلت: تشبه البقرة.
استدرت معطيا ظهري لها، فقالت إنها ستغسل بعض الثياب. وسمعت المنبه يدق عدة مرات ثم سمعتها تدير الغسالة ورحت في النوم.
أيقظني الطفل مبكرا بالضجة التي أحدثها. غادرت الأريكة واستحممت، ثم شربت كوبا من الشاي، ودخنت سيجارة وأنا أعد الإفطار من البيض المقلي و
الفورست . انضمت إلينا بقميص النوم وجلسنا متجاورين بينما اعتلى الطفل مقعده الصغير أمامنا.
أقبل على الطعام بلهفة وأخذ يزدرد اللقيمات وهو يلهث ويمصمص بشفتيه. وأكلت هي ببطء وحرص، ومع ذلك أسقطت نتفة بيض على ساقها. وفكرت أنها مثلي تماما، وأننا نشترك في أننا بليدان نرتبك بسهولة أمام أبسط الأمور.
أزلت البقايا والصحون وحملتها إلى المطبخ. ودار صراع بينهما حول غسيل اليدين والفم انتهى بأن أجبرته على ذلك. ثم عادت إلى الفراش واحتل هو الأريكة مع برج التليفزيون.
غسلت الصحون ثم حلقت ذقني وذهبت إليها. وجدتها قد تغطت باللحاف رافعة ركبتيها. ولحظت اختفاء يدها اليمنى أسفل اللحاف. أغلقت باب الغرفة بالمفتاح، وجلست على حافة الفراش.
قالت: أمس في المكتب سقطت أشعة الشمس على فخذي فشعرت بإثارة شديدة وفكرت فيك.
انحنيت فوقها وقبلتها. شعرت بشفتيها رطبتين فتحسستهما بشفتي التحتية. أخرجت يدها من تحت اللحاف وتحسست خدي. جاءتني رائحة فرجها فأبعدت وجهي. خلعت ملابسي وتمددت فوقها.
همست: أطل قليلا.
لم أتمكن أو أحاول، بل فكرت في فتاة بالوكالة تتمتع بفخذين رائعتين. وعندما أوشكت على القذف انسحبت منها وأنزلت فوق بطنها.
كنت أفعل هذا مع
لبنى
في نفس الموقف لكن بين ثدييها.
قالت منزعجة: لماذا؟ إنها فترة أمان.
لم تكن
لبنى
تضيق بهذا الفعل، وعلى العكس كانت تتحسس ثدييها وتوزع هديتي على جل صدرها في نشوة.
قلت وما زلت راقدا فوقها: أليست الحبوب أفضل؟
قالت في حدة: سبق أن ناقشنا هذا. جسمي لا يتقبلها.
نفس مشكلة
لبنى .
أضافت بصوت أقل حدة: كثير من الألمانيات يعانين نفس المشكلة مع الحبوب. هل تعرف محررة القسم الروسي؟
أومأت برأسي. عنت سيدة أربعينية فارعة الطول ذات وجه حزين. - عندها ستة أطفال لهذا السبب. فشلت علاقاتها، وكلما تعرفت بواحد أنجبت منه على الفور.
تحركت محاولا النهوض، فاستبقتني قائلة: هذا الصباح حلمت أنك سترحل بعد أسبوعين أو شهر، وكنت أفكر فيما إذا كانوا سيعطونني إجازة لهذا السبب.
لم أعلق فوجمت، ثم حانت منها نظرة إلى النافذة، فهتفت: انظر. شمس. لنذهب إلى الكوخ.
قلت: وموعدنا مع العجوزتين؟
قالت: ستأتيان في الرابعة. سنعود قبل ذلك.
نهضت واقفا وسويت ملابسي قائلا: أنا أفضل البقاء هنا.
أشاحت بوجهها غاضبة فخرجت إلى الصالة وجلست إلى جوار الطفل. شرعت في قراءة رواية ألمانية بالإنجليزية بعنوان «وفاة الجنرال
موروا ، أحد رفاق
نابليون بونابرت . تبعتني بعد قليل، وقالت: ليس عدلا أن نقبع في الداخل يوم أحد والشمس ساطعة.
قلت دون أن أرفع عيني عن الكتاب: اخرجا أنتما الاثنان.
دخلت المطبخ ثم عادت وخاطبتني: دعنا نلعب معه لنعوضه عن سجن اليوم.
اقتعدنا الأريكة والطفل أمامنا. أخذا يلعبان الدومينو بينما واصلت القراءة.
سألتني بغتة: لماذا أنت الآن دائما ضيق الصدر؟ أول أمس عندما كنا مع
عدنان
لم توجه لي كلمة واحدة.
أجبت: ماذا أقول؟ كنت قد بدأت تتحدثين مع
هيلدا
عن الهنود الحمر وتقاليدهم وأنا سمعت هذه القصة من قبل.
قالت في تحد: وماذا لو سمعتها مرة أخرى؟ - ثم حديث عن الجو. ثم تقولين: أرنا صور أختك وأولادها. - عم تريدنا أن نتحدث؟
لم أرد فأزاحت قطع الدومينو جانبا ونهضت واقفة: لم تعد تكلمني عندما نكون وحدنا.
مضت إلى المطبخ وعادت بطاولة الكي. بسطتها وسط الصالة وتناولت ملابس الطفل. قالت: هناك شيء غريب في علاقة الرجل بالمرأة. الرجال دائما يبدءون بالإعلان أنهم لا يريدون الزواج ويفضلون الحرية. وتقبل الفتيات ذلك ثم بصورة ما ينجحن في الزواج بهم.
هززت رأسي معترضا: يكون الرجل قد قرر الاستقرار عندما يكون هدفه في الحياة هو منزل وأطفال وسيارة والذهاب إلى الأوبرا بالملابس الكاملة.
وأضفت بعد قليل: ليس هذا هو هدفي. - ما هو إذن؟ - لم أحدد بعد.
قالت وهي تمرر المكواة فوق بنطلون الطفل: حبيب إحدى صديقاتي البدينات يطلب منها أن تكف عن الريجيم وكذلك حبيب أختي.
وضعت المكواة جانبا وهي تتطلع إلي متسائلة. هل تسألني عن رأيي في سمنتها؟
قالت عندما لم أعلق: تقول العجوزتان إن الرجال بعد سن معينة يفضلون الفتيات الصغيرات.
لزمت الصمت. وواصلت هي الكي بتركيز حتى انتهت من ملابس الطفل. أحضرت فستانها الأسود - أفضل ما لديها - وكوته ووضعته على ظهر مقعد. ووضعت أمامه حذاءها اللامع وجوربا أسود شفافا اشتريته لها من
برلين الغربية
ومظلة. أصبحت بذلك جاهزة لمناسبة الغد.
نشرت على المائدة طاقما خاصا للقهوة والكعك من الخزف الأبيض. وفي الرابعة تماما وفدت العجوزتان. أحطنا بالمائدة وهما ترددان: يا ... يا.
تناولت إحداهما قطعة من الكعكة قائلة:
جشمكت . سآكل قطعتين فقط.
استعادت
إنجمار
ذكرى يومها الأول في المدرسة، وعندما نادوا عليها لتسلم كتاب الحساب ثم كتاب المطالعة. وضحكت مضيفة: بعد انتهاء طابور الصباح أعلنت أن الحال لم تعجبني، وأني لن أتي مرة أخرى في الغد.
دار الحديث عن طعام المدرسة وعن فيلم في التليفزيون، بينما
إنجمار
تكتب اسمه على البطاقات التي ستلصقها فوق أغراضه. وكنت أفكر طول الوقت في مدن أخرى مثل
ستوكهولم
و
أمستردام .
سألتني إحدى العجوزتين وهي تلتهم القطعة الرابعة من الكعك عما إذا كانت ستقع حرب في الشرق الأوسط.
قلت: لا أعرف.
قالت
إنجمار : إنها قرأت كتابا جيدا عن
إسرائيل
لصحفية فرنسية يشرح تطور عملية الاستيطان اليهودي في
فلسطين
وشراء الأراضي العربية، وكيف رددوا أن الكرباج هو الطريق الوحيد للحديث مع العربي. وعلقت: الإسرائيليون مثل النازيين تماما.
هزت العجوزتان رأسيهما مؤمنتين. فكرت: إدراك للحقائق أم بقايا الكراهية النازية؟
قلت بلهجة الحكيم: الإرهاب النازي واضطهاد الشعوب الأخرى لليهود هو الذي صنع مأساتهم وأدى إلى تطرفهم واضطهادهم للعرب. الوحشية والتعصب طاقة تنتقل من شعب إلى آخر على مدى التاريخ.
استفسرت
إنجمار : وما رأيك في أن يكون لهم وطن قومي؟
أجبت: أقبل ذلك، ولكن ليس على حساب شعب آخر.
أحضرت الكاميرا لأهرب من الحديث، والتقطت عدة صور فردية. وعندما وجهت الكاميرا ناحية
إنجمار
كانت ساهمة، وفكرت أن لديها خطة تفصيلية للمستقبل، وربما تفكر الآن فيما سنفعله سويا بعد خمس سنوات. ثم التقطت صورة جماعية وفكرت أنها ربما لن تتكرر.
6
دق جرس الباب في السادسة. فتحت ل
فخري
وفي صحبته الكوافيرة.
رحبت بهما وقدتهما إلى الصالون. جلسا متجاورين على الأريكة وجلست أمامهما على أحد المقاعد.
قدمنا إلى بعض ثم سألني عن رفاق الشقة. قلت: لم يأتوا بعد.
كانت
كارين
شقراء نحيفة في أواخر العشرينيات، بوجه مليح دون أصباغ، وصدر صغير للغاية. وكانت ترتدي جوبة قصيرة تنتهي عند الركبة فوق جورب سميك من الصناعة المحلية.
تطلعت حولها بمزيج من الانبهار والحسد. سألتني: كم غرفة في هذا القصر؟
نهضت واقفا وأنا أمد يدي إليها: تعالي أريك.
صحبتها في جولة حول الشقة. وأبدت امتعاضها من الفوضى والفرش غير المرتبة. وازداد امتعاضها عندما وصلنا المطبخ ولمحت نافذته التي لم ننظفها مرة واحدة.
تأملت أرضية المطبخ التي يغطيها كاوتشوك رمادي اللون. وكانت بقع الزيت واضحة أسفل موقد البوتاجاز.
رفعت أصابعها إلى شفتيها قائلة: في بيتي يمكنك أن تأكل مباشرة من فوق أرضية المطبخ.
سألتها ماذا تحبين أن تشربي، فاختارت الشاي.
صحت على
فخري : شاي أم بيرة؟
اختار الشاي. عاونتني في إعداده وحملناه إلى غرفة المعيشة.
لمحت البيك أب فقالت: أي موسيقى عندك؟
قلت: عربية. هناك أيضا
بيتهوفن
و
باخ
و
دفورجاك .
قلبت شفتها: لا أغاني ألمانية؟ - للأسف لأ.
خاطبني
فخري
بالعربية: هل سمعت عن المسرحية الجديدة في
دمشق ؟ مسرحية غريبة داخلها مسرحية أخرى وطنية تشيد بالمقاومة. ثم يقف المتفرجون - الممثلون - ينفون الأحداث الواردة في المسرحية الأم ، ويصفون كيف صدرت إليهم الأوامر بمغادرة قراهم. ثم تظهر الشرطة لتقبض عليهم جميعا.
امتعضت
كارين
من عدم مشاركتها في الحديث، ونهضت واقفة طالبة أن تذهب إلى الحمام. أشرت لها إلى مكانه، وقلت ل
فخري
بعد انصرافها: ستصدم من مستوى نظافته. قل لي: هل هناك بغاء رسمي في
ألمانيا الديمقراطية ؟
قال: محرم قطعيا. كل امرأة لا بد أن تكون ملتحقة بدراسة أو عمل. وتتعرض للملاحقة القضائية في غير ذلك. لكن القانون يتضمن صيغة للمرأة التي تباشر علاقات جنسية أكثر من المألوف. لا بد أن تسجل نفسها لدى الشرطة وتعرض نفسها على الطبيب بشكل دوري.
أشرت بيدي إلى الحمام: هل تعطيها شيئا؟
قال: هدية صغيرة. شكولاتة أو جوربا من
برلين الغربية
أو من
الإنترشوب .
عادت
كارين
في هذه اللحظة، وقبل أن تجلس قال لي بالألمانية: تدخلان أنتما أولا.
لم أفهم. قال: سأنام معها بعدك. لا أظنك ستتأخر.
تقدمتها إلى غرفتي. دخلنا وأغلقت الباب. ثم أسدلت ستارة النافذة. وأضأت مصباح القراءة الضعيف.
وقفت مرتبكا. وأعطتني ظهرها وبدأت تخلع ملابسها. بلوفر صوفي خفيف وتحته مباشرة قميص بحمالات من النايلون الأبيض، ثم سوتيان أبيض أيضا، نزعته معرية ثديين صغيرين متباعدين على شكل الكمثرى. كانت تفعل ذلك ببساطة دون خجل. جلست على حافة الفراش لتخلع الكولون، ثم جاء دور الكيلوت فجذبته إلى أسفل كاشفة عن شعر عانة ذهبي اللون.
استلقت على الفراش فخلعت ملابسي ورقدت فوقها. أغمضت عينيها واسترخت. قبلت شفتيها الرفيعتين لكنها ظلت مغمضة العينين، وظلت شفتاها على جفافهما.
لم أجد صعوبة في ولوجها، لكن الأمور تعقدت بعد ذلك.
كانت رفيعة مثلي. والنتيجة أن عظامنا كانت تصطدم ببعضها بصورة غير مريحة. جربت عدة أوضاع دون جدوى. وأخيرا مللت فتحركت بسرعة من أجل الانتهاء. ولأول مرة في حياتي استعصى علي الأمر.
بدا الأمر كأن قضيبي تجمد على حالته المنتصبة رافضا تغييرها. أما هي فبدت غارقة في عالم آخر كأنها غير موجودة أو تحلم.
انفصلت عنها أخيرا وأنا ما زلت منتصبا. ووقفت حائرا، ثم قلت: يكفي هذا .
ارتديت ملابسي وخرجت إلى الصالة وغرفة المعيشة وفوجئت بها خالية. وبالمثل كان الحمام، وأدركت أن
فخري
انصرف.
عدت إلى غرفتي فوجدتها قد ارتدت ملابسها.
قلت:
فخري
انصرف.
لم تعلق.
سألتها: تحبين أن تشربي شيئا؟
قالت: لا. يجب أن أنصرف.
داريت انتصابي الذي لم يتلاش. قلت: أنا متعب، ولن أستطيع مرافقتك إلى
الأوبان .
قالت: لا بأس. ومدت فمها إلي.
قبلتها فابتسمت، وقالت: خذ تليفوني، واتصل بي عندما تريد أن نلتقي.
سجلت الرقم على ورقة، ثم صحبتها إلى الباب.
قالت: أريد أن أزور
الإنترشوب . خذني معك عندما تذهب.
قلت: أكيد.
أغلقت الباب خلفها، وأسرعت إلى الحمام.
7
ناولتني الممرضة كأسا فارغة، وأشارت إلى حجرة جانبية وهي تداري ابتسامة خفيفة: أعطنا عينة.
حملت الكأس وولجت الحجرة وأغلقت بابها خلفي. كانت ضيقة، زحمتها أكياس الضمادات والقطن والملاءات، وثلاجة ودواليب زجاجية بها قوارير وكئوس فارغة مختلفة الأحجام.
جلست فوق مقعد معدني وتأملت الكأس الفارغة في يدي، ثم قمت وفككت بنطلوني وأنزلته.
كانت الغرفة باردة، بلا تدفئة. وتبدت لي صعوبة المهمة التي أنا مقدم عليها.
استعرضت صور بنات الوكالة وسيقانهن العارية في الميني جوب الضيقة. وعرجت على
إنجمار . ثم استبعدتهن جميعا عندما لم أوفق مع إحداهن. وكللت جهودي بالنجاح عندما تذكرت آخر مرة مع
لبنى .
كانت في فستان أخضر بلا خصر من قماش خشن، وعندما نزعته وجدتها عارية تحته. تحسست جسمها بأطراف أصابعي. قالت: مع من فعلت ذلك؟ فكرت أني لم أفعل ذلك من قبل مطلقا. نزعت ملابسي والتصقت بها فتأوهت. ضغطتها إلي وحركت جسمي حركة مروحية. قبلتها وشممت رائحتها. فهمست بكلمات غير مفهومة. ولجتها وتحركت حتى أوشكت أن أتلاشى فتوقفت. انفصلت عنها وقمت وأشعلت النور وقلت إني أريد أن أراها. فوضعت يدها على منفرجها. جلست بين ساقيها وراقبت نفسي وأنا أتحرك داخلها بينما يداي تتحسسان ثدييها. قلت: أحبك. قالت: هي فقط هذه اللحظة وأنت داخلي. شعرت أني سأنتهي وبدأت في القذف وهي لم تأت بعد. واصلت الحركة ثم شرعت تأتي. قالت: تأخرت عليك. وأغرقت وجهي بقبلات سريعة متلاحقة.
نجحت هذه الذكرى في تحقيق المراد. وحملت الكأس بمحتوياتها الثمينة إلى الممرضة.
قالت: يمكنك أن تنتظر هنا أو تأتي بعد ساعة.
فضلت الخروج إلى الهواء الطلق. تمشيت طويلا في شارع
كارل-ليبكنخت
ثم جلست في مقهى، وعندما اكتملت الساعة عدت أدراجي لعيادة الطبيب.
استقبلني في غرفة واسعة عالية السقف، من آثار ما قبل الحرب. وحفلت الجدران بالخرائط الملونة للجسم البشري والجهاز التناسلي للرجل والمرأة. وأمام دولاب زجاجي يضم عينات من الأدوية جلس الطبيب الذي بدا أيضا من مخلفات الحرب؛ نحيلا، أبيض الشعر، في حوالي السبعين، ذا وجه جامد التعابير.
بادرني في صوت جاف:
هر خلواني ، هل تستخدم الواقي الذكري؟
أجبت: أبدا. لا أحبه.
تطلع إلى ورقة أمامه ثم قال: ليس عندك شيء. - لكني أتألم إذا ما حدث انتصاب، ثم هناك دائما آثار دماء في المني.
هز رأسه: التحليل سلبي تماما. ربما تكون بعض الشعيرات الدموية قد تمزقت.
واصلت: كما أني شكوت قبل ذلك من انتصاب دائم.
ظهرت في عينيه نظرة حرت في تفسيرها. شماتة أم حسد؟
قال: هذا شكل من أشكال العنة. على العموم يا
هر خلواني ، هناك ميكروب معين لا يظهر في التحاليل بسهولة. لا بد من تكرار التحليل إذا أردنا اكتشافه.
قلت في نفسي: لا وحياة أهلك.
سطر شيئا على ورقة وهو يقول: كتبت لك مضادا حيويا من باب الاحتراس. إذا استمرت الأعراض تعال.
الفصل الرابع
1
أزحت مقعدي إلى الخلف ونهضت واقفا. درت حول الطاولة واقتربت من النافذة. عاد البرد فجأة اليوم وانتشرت السحب، وبدا شارع
فريدريش شتراسه
رماديا كئيبا، وقد تناثرت في جنباته عدة سيارات
فارتبورج
و
ترابانت
و
سكودا
وواحدة فرنسية قديمة، وظهر وجهي مقطبا واجما في المرآة الصغيرة المعلقة إلى يسار النافذة.
استدرت معطيا ظهري للنافذة وعيناي على مدخل القاعة. انتظرت أن تمر
أولريكا
في طريقها إلى التواليت. ظهرت
إنجمار
فجأة. بدت طويلة أنيقة وعيناها واسعتان جميلتان بتأثير الكحل. همست لي:
جوتن تاج ، طاب يومك. واختفت في الطرقة المؤدية إلى التواليت ومكتب مدير التحرير.
لم نكن قد تبادلنا الحديث منذ أيام. ظللت أفكر في عينيها وتذكرت عندما أزالت الكحل قبل النوم وبدت حوافهما في بياض شاهق مثل شفاه الفئران. قالت يومها إن لها صديقة لا تجرؤ على لقاء حبيبها بالليل دون كحل ومكياج.
عدت إلى مقعدي متحاشيا النظر إلى
فخري . كان قد تجنبني تماما منذ يوم الكوافيرة، وحرت في تفسير مسلكه: هل غضب من تأخري في صحبتها واعتبره إخلالا بالاتفاق المعقود بيننا؟ أم ظنه تعبيرا عن فحولة ما أثارت غيرته؟
جاءني من خلف الجدار الخشبي الذي يفصلنا عن القسم الإنجليزي صوت
أولريكا
الخافت. التقطت البطاقة البريدية التي وصلتني في الصباح من
هايدي . أعدت قراءة كلماتها الوجيزة: «أنا أحبك يا
صادق . خطابك وصل. سأراك قريبا». وضعت البطاقة جانبا وعبثت بقلم رصاص فوق ورقة. شكلت الخطوط العفوية دودة ثم شكلا يشبه المحار ثم شيئا آخر أقرب إلى سمكة منتفخة.
رسمت خطين متوازيين عموديين ثم أوصلت بينهما بخط مقوس على شكل نصف دائرة. أضفت خطا جديدا وفكرت في وصل الخطوط. لمحت
إيزابيلا
تقترب مني فحاولت طمس ما رسمته والذي بدا كمنفرج فخذين. قالت إنها ذاهبة إلى أم كعكة التي يقع مكتبها بجوار التواليت مباشرة.
كانت
فراو نادل ، سكرتيرة المدير الخمسينية البدينة، تصفف شعرها الطويل دائما على شكل كعكة فوق رأسها فجلب لها الاسم الذي اشتهرت به.
سألتها: ماذا هناك؟
قالت: نسيت أن تسجل لي يوم الإجازة الشهري المقرر للمرأة العاملة. - إجازة لماذا؟
أجابت وقد بدا عليها انشغال البال: للقيام بالعمل المنزلي.
وتذكرت أني لم أر
إيزولدا
في الصباح.
اتجهت إلى مكتبي وخاطبني
ماجد
وهو يمد إلي ترجمة لأقوال الصحف الغربية: الأمريكان يريدون إسقاط
عبد الناصر
قبل نهاية العام.
استأنفت آلات
التليبرينتر
العمل. وناولني
نبيل
أولى ترجماته. بدا أن اليوم سيكون مخصصا لقرب الاحتفال بالذكرى الثلاثين لبدء الحرب العالمية الثانية، وقرب الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس جمهورية
ألمانيا الديمقراطية . وقالت مجلة
نيوزويك
الأمريكية بهذه المناسبة إنه على الرغم من المنجزات الاقتصادية المدهشة في
ألمانيا الغربية
فإن سدس سكانها يعيشون على حافة الفقر. وعلقت
نويس دويتشلاند
على ذلك، وأضافت أن
ألمانيا الغربية
قدمت إلى
تل أبيب
مليارين ونصف مليار
دولار
قروضا، منها نصف مليار
دولار
منحة لتغطية الاحتياجات الحربية الإسرائيلية.
ظهر
نويمان
مندفعا في حماس وهو يبتسم في سعادة وزهو. أعطى كلا منا مظروفا. فتحته فوجدت رسالة من المدير العام للوكالة،
فراو ديبي فيلاند ، تقول: بمناسبة العيد العشرين لتأسيس
ج. أ. د
نحب أن نشكرك، ويسعدنا أن نقدم إليك مكافأة مقدارها 200 مارك ونتمنى لك الصحة والنجاح في عملنا المشترك لبناء
السوسياليزموس ، الاشتراكية.
انفرجت أسارير الموجودين واحتل
نويمان
مقعده. انكببنا على العمل. وبعد حوالي الساعة توقفت آلات
التليبرينتر . ولم يعد لدينا ما نعمله. تطلعنا جميعا إلى ساعاتنا. فتحت رواية
نورمان ميلر
وبدأت القراءة. وانشغل الآخرون بوسيلة لقضاء الوقت حتى يحين موعد الانصراف بعد ساعة ونصف.
قال
قادر
فجأة: سيأتي اليوم الذي يعمل فيه المرء أربع ساعات فقط في الأسبوع، ويستمتع بالوقت الباقي، وتقوم الآلات بكل شيء.
كان في تمام وعيه وقدرت إنه في مرحلة التوقف عن الشراب والابتعاد عن زوجته. تبادل الباقون الابتسامات، وأبرزت
كاتيا ، عاملة
التليبرينتر
ذات الشعر الأسود، علبة اليانصيب والمقص.
اليانصيب تجريه صحيفة
نويس دويتشلاند
كل سنة ويوزعه أعضاء الحزب. فيشتري الواحد ورقة مطوية مرقمة تحتوي على كيس من الفلفل الأسود مقابل مارك واحد وقد يربح بين مارك ومائة أو أكثر، ثم يدخل رقم الورقة في سحب يجرى في الصيف على سيارة وجوائز أخرى.
أخذ
ماجد
واحدة فلم يكسب شيئا. وضع الجزء الذي يحمل الرقم في حافظته، وأخذ
نبيل
واحدة فكسب
ماركا
اشترى به ورقة جديدة كسبت
ماركين . كرر الأمر فكسب
ماركا . أودع الأوراق حافظته. سحبت ورقة فلم أكسب شيئا. سحبت ورقة ثانية. النتيجة نفسها.
تجمع الجميع حول
نبيل
الذي أخذ يشتري ويقص ويكسب، ثم يشتري بالمكسب. وقال
فخري
إنه كسب مرة ثلاثة
ماركات
في يانصيب ب
برلين الغربية .
استأنف
قادر
إشراقات لحظات اليقظة التامة: البشرية لن تتقدم إلا إذا اختفت النقود.
انسحب
فخري
قائلا إنه مضطر للانصراف لأن زوجته تنتظره في محطة المترو.
قال
ماجد
وهو يمر بيده على شعره الناعم المفروق من الجانب:
فخري
محبط بعد أخبار توقف صحيفة
النور
البغدادية الناطقة باسم حزب
الطالباني .
سألته: هل يفتح هذا المجال لتوحيد الحزبين؟
هز رأسه في حزم:
البرزاني
لا يمكن أن يتفق مع
الطالباني
الذي كان من أقرب الناس إليه.
الطالبانية
لعبوا دورا بشعا فقد أدى انشقاقهم إلى اقتتال الأكراد.
سألته: هل تنوي العودة إلى
العراق ؟
تأمل أوراق اليانصيب برهة ثم أجاب: بودي أن أعمل في
ليبيا .
حان موعد الانصراف فغادرنا المبنى. اتجهت على مهل إلى فندق
أونتر دين ليندن
وأنا أتحاشى الاصطدام بالمسرعين إلى
الأوبان
والمنازل. وجدت البار شبه خال من الرواد عدا شابا وفتاة جلسا متقاربين ويدها فوق فخذه. اخترت مكانا ملاصقا للواجهة الزجاجية. طلبت كوبا من البيرة احتسيته وأنا أتأمل الناحية الأخرى من الشارع.
تابعت حركة المارة على رصيف واحد في اتجاهين متقابلين عندما يلتقون في نقطة واحدة ثم يفترقون في ثانية.
تردد خلفي صوت بالإنجليزية: وجدتك!
التفت لأجد
سوكارنو
في معطف المطر الثمين والحافظة الجلدية الفاخرة: كنت تبحث عني؟ - توقعت أن أجدك هنا. هل أزعجك؟
أشرت إلى المقعد المقابل قائلا: أبدا. تفضل. ماذا تشرب؟
خلع معطفه وعلقه في المشجب، ثم انضم إلي وطلب كأسا من البراندي الروماني. استراح في مقعده وهو يتفحصني بإمعان.
سألني: هل كتبت شيئا؟
أجبت: لا. أنا مشغول بالتصوير.
سألني في تردد: شاهدت
إنجمار
أخيرا؟
قلت: هذا الصباح.
قال: وكيف كانت؟ - لا بأس. لماذا تسأل؟
ارتشف من كأسه، ثم حرك شفتيه الشهوانيتين مستمتعا وقال: إنها تعيسة للغاية، وتبكي طوال الوقت.
تذكرت اللقاء الذي أعلمتها فيه بإنهاء علاقتنا، وأعدت لها المفتاح الحديدي الثقيل شاعرا بالارتياح، وكيف أطرقت في استكانة وقالت إنها ألفت هذا الموقف.
استطرد: أنا و
زيجريد
نعتز بصداقتها. وبصداقتك أيضا.
لم أعلق.
قال: إنها تشعر بالحرج الشديد أمام معارفها وزملائها في العمل. وتظن أنهم يعتقدون بعجزها عن الاحتفاظ برجل.
وجدت لساني أخيرا فقلت: التفاهم بيننا صعب بسبب اللغة . أنا أدرسها جيدا لكن أمامي سنوات قبل أن أجيدها. - أنتما تتخاطبان بالإنجليزية. - ولو. عندما أتحدث بلغة غير العربية أفقد نصف ما أريد قوله. - وماذا في ذلك؟ يحدث هذا لي أيضا عندما أتحدث بلغتي.
اندفعت مفضفضا: وجدت نفسي أصبحت ««هرا» محترما» بالقبعة والمعطف والمظلة، والاستيقاظ في السادسة والنصف أو السابعة إلا ربعا والإسراع إلى العمل، وبعد تسع ساعات الخروج منهكا وشراء أشياء منزلية، ثم الإسراع إلى المنزل والاغتسال وإعداد العشاء ثم استحمام ابنها ودفعه إلى الفراش، وتكون الساعة قد أصبحت التاسعة، ولا بد أن ننام لنستيقظ مبكرين. وفي الويك إند الذهاب إلى المسرح كالبورجوازيين المحترمين واستقبال الضيوف على إبريق قهوة.
تأملني بإشفاق ثم قال مهدهدا كأنما يتحدث إلى طفل: هذه هي الحياة. على المرء أن يتحمل أشياء كثيرة في سبيل تحقيق هدفه. هل تعرف أنها ترجمت بعض قصصي إلى الألمانية دون مقابل؟ إنها شخص يمكن الاعتماد على مساعدته.
سألته بغتة: هل قرأت رواية «القلعة» ل
كافكا ؟
قال: أجل. ما شأنها؟ - هل تذكر كيف قال المسئولون عن القلعة لبطل الرواية في التليفون إنهم لا ينتظرون ماسح الأرض فصرخ فيهم: إذن من أكون أنا؟
مد يده إلى حافظته واستعد للنهوض ثم قال: أنت في حاجة إلى تغيير الجو. اسمع. سأذهب إلى
براغ
قريبا لألتقي أحد الناشرين. ما رأيك في أن تأتي معي ليومين أو ثلاثة؟
براغ
مدينة ساحرة.
نهضت واقفا بدوري وأنا أقول: سأفكر.
2
صرخ
عدنان : المنافقون!
كنا نشاهد تقريرا في التليفزيون الغربي عن قرب محاكمة أحد النازيين الذي قبض عليه في
البرازيل
منذ عامين. وذكر أن
فرانتس شتانجل (62 سنة) كان قائدا لمعسكر الإبادة النازي في
تريبلينكا
ب
بولندا
حيث تم قتل 700 ألف يهودي. ويتعرض الآن للحكم عليه في
ألمانيا الغربية
بالسجن مدى الحياة، بينما تنتظره محاكمة أخرى في وطنه
النمسا
عن دوره أثناء الحرب فيما يسمى مركز قتل العاجزين عقليا.
وقال التقرير إن
شتانجل
الذي لقبه المعتقلون بالرجل الأنيق ذي السوط يزعم بأنه لم يقم إلا بواجبه وهو الإشراف على مصادرة الأشياء الثمينة من اليهود القادمين من
الاتحاد السوفييتي
و
فرنسا
و
بلجيكا
و
اليونان
و
بلغاريا
و
يوغوسلافيا
و
النمسا
و
ألمانيا ، فضلا عن
بولندا
نفسها.
انفجر
عدنان
وهو يغادر مقعده مقتربا من جهاز التليفزيون كأنما ليحطمه: يحاكمونه على قتل عدة آلاف بينما يسلحون اليهود ليقتلوا شعبا بأكمله.
تطلعت إليه
هيلدا
في انزعاج دون أن تفهم سبب ثورته. استطرد مستهزئا: الرجل الأنيق ذو السوط! ألم يقل
بن جوريون
إن السوط هو الطريق الوحيد للحديث مع أي عربي؟
طالبته
هيلدا
بالصمت كي تشهد تقريرا عن انتشار ظاهرة الأمهات الصغيرات غير المتزوجات، وتابعنا حوارات مع بنات في سن المراهقة يحملن أطفالهن ويتحدثن عن الصعوبات التي يواجهنها. وتلا ذلك نقاش عن ضياع الشباب وانتشار المخدرات وتأثير مخدر
إل إس دي
على إبداع الرسامين.
تركناها أمام التليفزيون وانتقلنا إلى المطبخ لنعد طعام العشاء. وأقبل
عدنان
بحماس على تقطيع القرنبيط وتحميره بينما توليت طهو الأرز.
ظهر
نبيل
على باب المطبخ متسائلا: هل أساعد؟
أجبت في اقتضاب: السلطة.
تجمعنا أخيرا حول طاولة غرفة المعيشة. وأحضر
عدنان
بصلة مشقوقة فاعترض
نبيل : لا أنصحك. عندنا حفلة هذا المساء.
كان قد تعرف إلى عدد من الشباب في ميدان
ألكسندر بلاتز
أثناء جولات الصيد التي يقوم بها أسبوعيا ودعاهم لزيارتنا.
انصاع
عدنان
كارها وانتهينا بسرعة من الطعام، فحملنا أطباقنا إلى المطبخ، بينما ظلت
هيلدا
أمام طبقها الفارغ وقد اضطجعت إلى الوراء تستمتع بسيجارتها.
لجأت إلى غرفتي، فلحق بي
نبيل
حاملا كراسة تضم أشعارا كتبها وهو في السادسة عشرة. قرأها علي وأنا أدخن وأتأمل شعره البني الناعم الذي انسدل على جبهته ونظارته الطبية ذات الإطار العريض.
سألته: رأيتك أمس مع واحدة من القسم الفرنسي. ما اسمها؟
أجاب: القصيرة السمينة ذات الشعر الأسود القصير والبشرة الخوخية؟
كارول . - هي. هل نمت معها؟
قال في زهو: أجل. مرة واحدة. تحتفظ بمفكرة عن كل من نامت معهم. كم عددهم في ظنك؟ مع العلم أنها في السابعة والعشرين.
قلت: خمسة مثلا. - لا. 122 واحدا!
قلت مقلدا
يوسف وهبي : يا للهول!
قال: لم تقل رأيك في قصائدي. أعجبتك؟ عندي أيضا بضعة أزجال. سأحضرها.
مضى إلى غرفته وسمعت دق جرس الباب. مضيت إليه وفتحت لمجموعة من الشباب؛ ثلاث فتيات وشابان. قدم أحدهما نفسه:
فولفجانج .
كان طويل القامة ويبدو أكبرهم سنا. وتقدم الثاني مني وهو قصير، أشقر الشعر يميل إلى السمنة قائلا:
بوركارد .
رحبت بهم مناديا على
نبيل . تتابعوا داخلين بينما عارضت إحدى الفتيات وتراجعت تريد الانصراف.
أمسكت بها إحدى زميلاتها قائلة:
بترا ، مم تخافين؟ نحن معك.
استسلمت
بترا
ودخلت. كانت سوداء الشعر عسلية العينين حلوتهما، ممتلئة قليلا، في جينز أزرق وبلوفر أحمر وتحيط رقبتها بوشاح أخضر اللون.
ولج الشبان غرفة المعيشة واحتلت الفتيات الثلاث الأريكة. وبدا لي أن إحداهن صديقة حميمة ل
فولفجانج . كانت دقيقة الحجم ذات وجه مليح. وكانت تبتسم لي في مودة. أما الثالثة فكانت شقراء طويلة الشعر رفيعة الشفتين بيدين كبيرتي الحجم.
تعارفنا وقلن إنهن يدرسن الإلكترونيات. وفهمت أنها دراسة تؤهلهن ليصبحن بائعات.
سألهم
نبيل
عما يشربون فقال
فولفجانج : أنا لا أدخن ولا أشرب. ممكن كولا.
وقال زميله الأشقر إنه لا يشرب البيرة، ووضع يده على كرشه كأنما يعلن السبب. عرضت عليه
فودكا
فوافق، ورفضت الفتيات
الفودكا
وطلبن بيرة.
انهمكت مع
عدنان
في إحضار المشروبات بينما بسط
نبيل
طبقين صغيرين للمقرمشات والمكسرات وطبقا من شرائح الجزر والمخللات المسكرة.
سمعت الفتيات ينعين عجزهن عن قيادة السيارات. سألت عن السبب فقالت
يوتا ، صديقة
فولفجانج : لأننا لم نبلغ بعد الثامنة عشرة.
أحضر
نبيل
من غرفته أسطوانة رفعها في الهواء مزهوا وهو يقول: موسيقى غربية.
أخرجها من غلافها، ووضعها فوق البيك أب. تناولت الغلاف وتأملته. كان يحمل صورة فتاة برداء قصير لا يبلغ منتصف فخذيها ويدها فوق ثديها الأيمن العاري كأنما على وشك مداعبة حلمته. قلبته وقرأت محتويات الأسطوانة: كان على كل وجه ست أغان. تعرفت على بعضها مثل شيربي شيربي شييب شييب ولاف ستوري
Chirpy-chirpy cheep cheep, love story .
ترددت الموسيقى الراقصة ودبت الحيوية في الجلسة، ودار حديث عن مقارنة الرجل الألماني بالعربي. قالت
جابي ، صاحبة اليدين الكبيرتين، في جرأة: الرجل الألماني خجول وغير مقتحم.
سألتها: لماذا؟ غير مهتم بالجنس؟
قالت برصانة المفكرين: المسألة أنه يشرب كثيرا من البيرة فيكون كرشا كبيرا.
ضحكنا وقال
فولفجانج
وهو يتطلع إلى فتاته: أعتقد أنه فاقد ثقته نتيجة التاريخ، أو هو متحضر يقترب من المرأة في أدب ويصدع رأسها بالكلام حتى تفقد صبرها. هذا هو سر نجاح العرب والأتراك والأكراد مع النساء، فهم بدائيون في عواطفهم.
تلعثم فجأة وقد احمر وجهه وتطلع إلينا معتذرا وقد أدرك أنه بين هؤلاء البدائيين. وأنقذ جرس الباب الموقف.
فتحت الباب لأجد
هايدي
أمامي.
احتضنتها مرحبا واقتدتها إلى حجرتي. أشعلت النور وأغلقت الباب. أشرت لها بالجلوس فوق الفراش وجلست أمامها فوق كرسي المكتب.
ألقت بحقيبة يدها فوق الفراش وخلعت سترتها الصوفية كاشفة عن ذراعيها البضتين العاريتين من الكتف. جلست ووضعت ساقا فوق ساق، فانحسرت جوبتها القصيرة عن فخذيها الرائعتين، وتأملتني باسمة.
تطلعت إلى وجهها الشاحب بلا مكياج وشفتها السفلى القرمزية ولاحظت بها شيئا مختلفا عن فتاة
تامباخ ديتار
تجلى في طريقة حديثها وهيئتها العامة.
تلعثمت وأنا أكرر: أهلا بك. ثم سألتها: إلى متى ستبقين في
برلين ؟
قالت: لا أعرف. تشاجرت مع أبي. - وأين تقيمين؟ - مع صديقة لي. - والمدرسة؟
قالت: مللتها. ما زالت أمامي سنتان حتى أحصل على
الأبيتور ، الثانوية العامة. أريد أن أعمل وأستقل بحياتي. - هل اتصلت ب
هانز ؟
ضحكت: الميكانيكي؟ لأ طبعا. - هل لديك صديق. حبيب؟
تأملتني بنظرة عابثة: ليس بعد.
ساد بيننا الصمت. ولم أجد ما أقوله فعرضت عليها أن ننتقل إلى غرفة المعيشة. - تعالي أعرفك بأصدقائي.
نهضت في حركة سريعة وتبعتني إلى غرفة المعيشة. عرفتها بالآخرين وسألتها عما تحب أن تشرب فقالت: نبيذ.
قلت: للأسف لا يوجد غير
الفودكا
والبيرة.
اختارت
الفودكا
وجلست إلى جوار الفتيات. طلب
عدنان
فتاة
فولفجانج
للرقص فقامت معه، مما أثار امتعاض
هيلدا . طلبها
فولفجانج
فاعتذرت.
ملت عليها وهمست: لماذا لا ترقصين؟
أجابت في اعتزاز:
عدنان
لا يحب أن أرقص مع غيره.
ملأت لنفسي كوبا من البيرة ، وطلب
نبيل هايدي
للرقص. تابعته يرقص معها ببراعة وهي ملتصقة به. وتذكرت رقصها مع الشاب ذي الشعر الطويل في
تامباخ ديتار .
انتهت الرقصة فجلسا متلاصقين.
رقص
عدنان
من جديد مع فتاة «فولفجانج». ووقفت
هيلدا
فجأة معلنة رغبتها في الانسحاب. وانضم إليها
عدنان
مكرها. واستأنف
نبيل
و
هايدي
الرقص على أنغام
لاف ستوري . وبعد جولة رقص أخرى أعلن الشبان رغبتهم في الانصراف.
رافقتهم حتى باب المنزل الخارجي وعندما عدت لم أجد
هايدي
و
نبيل . خرجت إلى الصالة فوجدتهما خارجين من غرفته وهي تسوي شعرها وملابسها.
قالت: يجب أن أنصرف الآن.
تطلع إلى ساعته وقال:
الأوبان
على وشك التوقف. نامي هنا.
رمقتني بنظرة سريعة وقالت: شكرا. يجب أن أذهب.
قال: سأرافقك إذن.
غادرا المسكن، وانهمكت في نقل مخلفات الحفل إلى المطبخ، ثم أطفأت الأنوار ومضيت إلى حجرتي. خلعت ملابسي واندسست في الفراش. تقلبت عدة مرات وأنا أنصت للأصوات عبر الجدران الرقيقة. أتتني أصوات تأوهات من غرفة
عدنان . وضعت الوسادة فوق رأسي وبعد قليل ضقت بها فرفعتها. سمعت صوت مفتاح نور الحمام، وبعد لحظة صوت إغلاق بابه، ثم صوت الباب الخارجي، وتلاه صوت باب غرفة
نبيل ، ثم ساد السكون التام.
3
أوشكت أن أصطدم بشاب وفتاة من العاملين في أحد أركان المبنى، يلجانه بذراعين متشابكتين. كنت أشاهدهما في الكافيتريا عند التحاقي بالعمل دون أن تبدو أية علاقة بينهما. ومنذ أيام بدآ يظهران سويا ولا يفترقان طوال اليوم. وفكرت: إلى متى سيستمر ذلك؟
أبرزت بطاقتي للحارس فأطرق برأسه سامحا بالدخول. اتجهت إلى الدرج ولمحت فتاة في ميني جوب كشف عن ساقين جميلتين تعلق يافطة كبيرة فوق باب المصعد كتب فوقها «أصواتنا لمرشحي الجبهة الوطنية».
أدركت على الفور محتوى أخبار اليوم. وصدق حدسي؛ فقد توالت تعليقات الصحف وتصريحات الشخصيات البارزة تتحدث عن الديمقراطية الاشتراكية ودور الجبهة الوطنية (المؤلفة من عدة أحزاب على رأسها بالطبع الحزب «القائد») في إرسائها عن طريق البرلمانات المحلية.
انتهزت فرصة توقف ورود الأخبار وتفوهت بسؤال لغير أحد محدد: كيف تجرى هذه الانتخابات ؟
تبرع
قادر
بالإجابة: يجتمع قاطنو كل مجموعة من المساكن ليختاروا أنشط العناصر التي يتم ترشيحها.
أضاف موضحا: أكثرية الناس لا تهتم. يرون في المنزل إعلانا عن الاجتماع فيعتقدون أنه اجتماع سياسي ولا يذهبون. لهذا لا يشترك عدد كبير من الناس في هذه الانتخابات، وعندما تنتهي يقولون إنها غير ديمقراطية لأنها تمت بمعزل عنهم.
قلت: إذن ليس لديهم ثقة في جدواها.
تدخلت
كاتيا
وهي تقضم تفاحة: هم المخطئون لأنهم لا يذهبون.
سألتها: هل اشتركت في اجتماعات منطقتك؟
قالت: أجل.
قلت: كم كان عدد الحضور؟ - مائتان أو ثلاثمائة.
واصلت السؤال: وكم عدد سكان المنطقة؟
قالت: عدة آلاف.
تابع
نويمان
الحوار في اهتمام وقد ضاقت عيناه الصفراوان. وتوقف الحوار مع استئناف ورود الأخبار: خطاب جديد ل
عبد الناصر
يطالب الاتحاد الاشتراكي بأن ينشط بين الجماهير. استمرار هجمات فرق الكوماندوز المصرية على جبهة القناة.
قرأت بصوت مرتفع تصريحا لعميد جامعة
روستوك
بمناسبة مرور 55 عاما على إنشائها. قال إن التناقض بين الفكر والسلطة الذي يعتبر من خصائص النظام الرأسمالي يختفي في المجتمع الاشتراكي.
هززت رأسي ممتعضا ورمقني
نويمان
بنظرة حادة.
قلت: هذا التناقض لا يختفي، وعلى العكس استمراره مفيد لأنه أساس للتقدم.
قطب
نويمان
حاجبيه.
واصلت قراءة تصريح العميد بصوت مرتفع: العلم يلعب في ظل الاشتراكية دوره كوسيلة للتقدم الاجتماعي.
علقت: وفي الرأسمالية أيضا.
قال
نويمان : يبدو لي أنك من نوع المثقفين ذوي الأفكار المشوشة الذين لا يعجبهم العجب.
ولج القسم
حلمي عبد العليم ، المراسل الجديد لجريدة
الجمهورية
القاهرية. كان طويل القامة، أسمر البشرة، أبيض الشعر، في الخمسينيات من عمره. تبادلنا تحية باردة وسارع
نويمان
بتقديم نشرة الأخبار إليه.
كنت قد تعرفت به في مقهى
بريس كافيه ، ولم يكن بالتعارف الموفق؛ فقد كان يحمل صحيفة
دي فيلت
الألمانية الغربية وشرع في بسط صفحاتها، فتفذلكت ونصحته ألا يفعل حتى لا يستفز الجالسين؛ لأنهم لا يستطيعون الحصول عليها مثله؛ مما يثير أشجانهم ويضخم تصوراتهم عن الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب. فطوى الصحيفة على مضض وتجاهلني كلية.
قدم إلى
نويمان
مجموعة أعداد من صحيفته تحمل إحداها نبأ عن القسم العربي بالوكالة، تتصدره صورة ل
نويمان
وهو يريني، في حنو أبوي، الصفحة الأولى من جريدة ألمانية. أعطانا
نويمان
الصحف وصحبه لمقابلة المدير العام. توزعت بيننا وتصفحت عناوينها بسرعة، وكانت جلها عن العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة المصرية على الحدود الشرقية لإرهاق الجيش الإسرائيلي.
عثرت على نبأ عن تعيين رئيس تحرير الوكالة المصرية للأنباء رئيسا لمجلس إدارتها. زممت شفتي استياء. كان معروفا عنه عدم اهتمامه بأداء الوكالة، وأنه يقضي جل وقته ممسكا بسماعة التليفون المتصلة بأجهزة الأمن.
صاح
فخري
فجأة وهو يتصفح أحد الأعداد: اسمعوا هذه النكتة ل
إسماعيل يس . اشترى الزوج بوتاجازا وعندما عاد من عمله بعد الظهر كان البوتاجاز قد وصل إلى المنزل واستلمته الزوجة فعلا. وفي منتهى السعادة قال لزوجته: هيه ... عجبك البوتاجاز؟ قالت: هايل. بس من ساعة ما جه بالعب في الزراير ومش راضي يجيب البرنامج الموسيقي!
تصاعدت الضحكات من سذاجة المصريين واتجهت الأبصار إلي، ثم أعاد
فخري
رواية النكتة باللغة الألمانية فلم يستوعب رفاقنا الألمان مغزاها إلا بعد شرح تفصيلي منه.
أراني
ماجد
كتيبا صغيرا من منشورات الدعاية السياحية عن مدينة «درسدن». قال إنها تتميز بجمال فتياتها وإنه سيقضي بها عطلة نهاية الأسبوع، واقترح أن أرافقه. تصفحت الكتيب وطالعت صور الدمار الذي ألحقته الطائرات الأمريكية بالمدينة في غارة لم يكن لها مبرر بعد انتهاء الحرب، ثم صور التعمير الذي قامت به السلطات الشيوعية وخاصة مركز المدينة الجديد.
أعدت الكتيب لصاحبه فتطلع إلى ساعته. كنا موشكين على فسحة الغداء. قال: ما رأيك في أكلة سمك؟
قلت متلهفا: أين؟ - هناك مطعم قريب للأسماك.
قلت في حماس: لنذهب.
انضم إلينا
عدنان
وانطلقنا في
فريدريش شتراسه
في اتجاه
شك شارلي بوينت . عبرنا تقاطع
أونتر دين ليندن ، وبعد تقاطعين انحرفنا في الشارع الذي يقع به المطعم .
ولجنا قاعة فسيحة انتشرت فيها الموائد الخالية فيما عدا واحدة أحاط بها ثلاثة رواد بدوا لي من الأقاليم، وعبق المكان برائحة القلي.
اخترنا مائدة قرب الباب وأحضر لنا نادل متجهم قائمة الطعام التي احتوت على أكثر من سبعين طبقا متنوعا، وكانت بالألمانية فقط.
انكب
عدنان
على نسخته. كان متقدما عني في إتقان اللغة بفضل علاقته ب
هيلدا
التي لا تتحدث غيرها.
سألني
ماجد
وهو يتصفح نسخته: ماذا تريد؟
قلت: سمكا مقليا.
استعرض الأطباق؛ سمك
الهلبوت
مع الشمر والزيتون الأخضر. خليط حيوانات البحر مع المقدونس. محار. جمبري مع الجنزبيل والفلفل الأحمر.
إسكارجوت
مع السبانخ وكريمة الثوم. شرائح
القاروس .
تروت
وهو السالمون المرقط مع البازلاء الخضراء. جناح
سكات
مع الزبد. هو سمك مفلطح طويل الذيل له جناحان عريضان.
جاءنا النادل بعد مدة فطلب
عدنان
حيوانات البحر.
هز النادل رأسه: غير موجودة. - إذن
الهلبوت . - أيضا غير موجودة.
تبين أن نوعا واحدا من السبعين هو المتوافر، وهو شرائح
القاروس
مع القرنبيط وليس السبانخ. استسلمنا للأمر الواقع.
قلت: أشتهي سمك البياض المقلي الذي ينقع في الدقيق قبل قليه. أو المشوي الذي يتبل ثم يغمس في ردة القمح قبل أن يوضع على الفحم أو مشواة الغاز.
أكلنا بلا شهية وعدنا أدراجنا إلى الوكالة في غير حماس، ووجدت في انتظاري رسالة تليفونية من
حازم النجدي
بأنه ينتظرني في مقهى
ليندن كورسو .
ذهبت إليه بعد انتهاء العمل. طلبت بيرة وشعرت باستهجانه. قلت ونحن نجلس: الشيء الذي أفتقده في
برلين
هو بار
ريجال . تعرفه؟
قال: لا. أنا لا أقرب الخمر مطلقا. - في شارع
الألفي . بار صغير تغطي نشارة الخشب أرضه باستمرار. يأتي لنا النادل ببيرة «ستلا» الفخيمة ومعها الفول المسلوق بالتوابل يتصاعد منه البخار ومعه نصف ليمونة وصحن ترمس، وأحيانا نطلب لحمة رأس من مسمط مجاور. الله!
قال حازم إنه قادم من
برلين الغربية
حيث كان يشتري سيارة مستعملة لأخيه، ثم انتقل إلى أخبار
مصر .
قال: أستاذي الألماني عاد من زيارة قصيرة ل
مصر
وقال لنا إن سكان
القاهرة
مزعجون لا يعملون، وإن أمامنا مائة سنة قبل أن نحقق الاشتراكية.
لم أعلق فاستطرد: الأوضاع سيئة، وتنحدر من سيئ إلى أسوأ. هل سمعت عن مظاهرات
الإسكندرية
وما صحبها من عنف وتخريب؟ الجيش اضطر للتدخل وقمع المتظاهرين. أخي يقول إن هناك مطالبات بإباحة السلع المستوردة في الأسواق. وإن المتعلمات يقبلن الآن على الزار بينما تتحول الأميات إلى الطب النفسي. تعرف
رءوف علي ؟
قلت مندهشا: طبعا. - كان يعمل في جريدة
الأخبار
مقابل 60 جنيها في الشهر، ثم انتدب ل «الاتحاد الاشتراكي» فأصبحت الستون تسعينا، وعمل في نفس الوقت سكرتيرا لتحرير مجلة شهرية بستين أخرى، ثم ظهرت عليه أعراض السينما فحصل على منحة دراسية في
براغ ، وهو هناك الآن ومرتبه مستمر في
القاهرة .
خفض صوته رغم أن أحدا حولنا لم يكن يعرف العربية: لم يعد الحكم القائم قادرا على حل مشاكل البلاد. أريد أن أنضم إلى الشيوعيين.
قلت: الألمان؟ - لأ. المصريون طبعا. - لكنهم حلوا حزبهم؟
مال ناحيتي وابتسم ابتسامة ملتوية: هل يصدق أحد؟ لا بد أن لهم خلايا سرية في كل مكان.
شعرت بالخطر. ولم تكن أول مرة أتعرض فيها لموقف مماثل.
قلت: لم يكن الحل مناورة. أدركوا ألا جدوى من استمرارهم منفردين، وهم يؤمنون بضرورة وحدة العناصر الاشتراكية بقيادة
عبد الناصر . هم صادقون في موقفهم فلم يكونوا أبدا من أصحاب الوجهين.
بدا عليه القنوط: على العموم لو تعرفت على أحد منهم هنا صلني به.
قلت صادقا: سأفعل.
ران علينا الصمت ثم خطرت لي فكرة. سألته: هل تعرف المراسل الجديد لجريدة
الجمهورية ؛
حلمي عبد العليم ؟
فوجئ بالسؤال. قال: لأ. ثم ابتسم وقال: غالبا من رجال المخابرات. - أغلب المراسلين كذلك.
نهض واقفا وقال: سأنصرف الآن. هل أنت ذاهب إلى
فريدريش فيلده ؟ نركب سويا.
قلت دون أن أتحرك من مكاني: ليس الآن. سأبقى قليلا.
وشيعته ببصري وهو يتجه إلى الخارج.
4
انتهيت من مراجعة درس اللغة، ولاحظت لأول مرة التماثل بين خاصتي المفعول به والمضاف إليه في اللغتين الألمانية والعربية. تناولت الصور التي التقطتها ل
هايدي
في دار العطلات وانتهيت من تحميضها وطباعتها. تأملت وجهها الشاحب وصدرها الصغير وفخذيها الرائعتين. وضعت الصور جانبا وجذبت خطاب
كمال
الأخير. أعدت قراءته: «... ربما كنا على حد قولك نحمل مشاكلنا داخلنا. على كل ما زلت عند فكرتي. أن أسافر وأعمل وأستمتع. أريد أن أعطي نفسي فرصة جديدة. في الحقيقة أريد فرصة أولى. لم تكن هناك فرصة أولى بالنسبة لي. أريد أن تعمل وظائف عقلي وجسدي بشكل طبيعي. أن أفكر دون خوف من عقاب. أن أراقب وأنتقل بغير هدف. قد يبدو هذا شيئا رومانتيكيا في عصر الجليد هذا. لكن ما العمل. ربما كان قليل من الرومانتيكية هو الذي يبقي لنا توازننا. سألتني ماذا أريد أن أعمل بالضبط. أجيبك مرة أخرى: لا أشغل نفسي الآن بالمستقبل البعيد. ما أريد أن أفعله لسنة قادمة هو أن أرحل. أتجول. أعرف. ... أعيش في حالة من انعدام الوزن. أتكلم مع نفسي كثيرا (عادة قديمة لكنها زادت بشكل مزعج) وأعتقد أني بدأت أتدهور نفسيا إلى حالة من المناخوليا. لا أحد يفهم أو يحاول أن يفهم. حتى «...» تبدو غبية جدا وهي تأخذ شكل المدافعة عن كل شيء هنا. بل وتأخذ شكل المناضلة الوطنية. أحس هنا أني مخدر وغير مجد (لنفسي بالطبع فلست أهتم بالآخرين) لم أضف شيئا جديدا لنفسي. كل الأشياء هنا معادة وكئيبة ولا تطاق. أسوأ من ذي قبل.
لا أكتب شيئا الآن. أقرأ فقط للتسلية وتضييع الوقت. أدخل السينما كثيرا. أعمل في الصباح في هيئة الثقافة الجماهيرية باليومية! تصور! ستون قرشا في اليوم ولا تحسب أيام الجمع والأعياد. هذا هو العمل الوحيد الذي استطعت الحصول عليه بعد سنة من التعطل (منذ خروجي من الاعتقال). وقد سعى فيه ناس كبار. عرفت لماذا ينتحر الناس.»
وضعت الخطاب في درج المكتب وغادرت الغرفة بحثا عن
عدنان . كانت غرفته مفتوحة وخالية. ورأيت المصابيح مضاءة في غرفة المعيشة فولجتها. وجدت
هايدي
في بلوزة ضيقة وبنطلون جينز قديم تشاهد التليفزيون. حييتها متسائلا: متى جئت؟
قالت: من نصف ساعة. مع
نبيل . - وأين هو؟
قالت : ذهب ليحضر حقيبتي من أمانات محطة
أوستبانهوف .
كان قد ذكر لنا في الصباح أنها تشاجرت مع صديقتها وستنتقل للإقامة معه. - هل رأيت
عدنان ؟
قالت: خرج مع
هيلدا
للبحث عن أريكة لحجرته.
ارتميت إلى جوارها على الأريكة وسألتها: كيف حالك؟ هل وجدت عملا؟
قالت: أجل. سكرتيرة في مجلة الشباب
يونجه فيلت . أقرأ رسائل القراء وأقوم بتلخيصها وتوزيعها على الجهات المختصة. العملية مثيرة فالرسائل تتناول كل مشاكل الشباب في الدراسة والحب ومع والديهم. - ضمنت البقاء في
برلين
بعض الوقت إذن.
بدأ التليفزيون يعرض فيلما سوفييتيا جديدا اسمه
تفاريش برلين ، الرفيق
برلين ! لمخرج الأفلام التسجيلية السوفييتي الشهير
رومان كارن . تابعناه في اهتمام بعض الوقت حتى تبينت سذاجته؛ فلم يختلف عن الفقرات التي تذيعها الوكالة إلا في الألوان الرائعة للناس والمباني الجديدة.
أعربت
هايدي
عن تقززها وأغلقت التليفزيون. أدارت أسطوانة ل
أدامو ، ثم عادت إلى مكانها بجواري. ترجمت لها كلمات الأغنية الفرنسية إلى الإنجليزية وكنت أحفظها: أنت لن تأتي هذه الليلة. قلبي حزين للغاية وأبكي بأسى، الثلج يتساقط ببطء، كل شيء أبيض من القنوط. البرودة هي غيابك.
تطلعت إلى باب الشرفة الزجاجي المغلق. كانت الستائر مزاحة جانبا كاشفة عن ظلمة الغروب. قالت: قريبا سيتحول الصقيع إلى مياه وسخة تذهب إلى المزاريب والبلاعات، وتتغطى المدينة بالسحب وتطول ساعات الظلام، ويرتدي الجنود معاطف طويلة حتى العقبين.
ضحكت وأضافت: وأربط غطاء رأس بلاستيكيا فوق شعري لحمايته من الثلج. - ماذا كنت تفعلين لو أنت الآن في موطنك؟
قلبت شفتها في استهجان: أعمل مع أبي وأخي في الحديقة. نقوم بتغطية أشجار الفاكهة وتقليمها، ونغطي الورود لحمايتها من البرد القادم، ونقلب أكوام الروث والعشب والأوراق الجافة لنستخدمها في تسميد الأرض عندما يحل الربيع، ونشارك عائلات الجوار في التحطيب من الغابة.
غادرت مكانها ومضت إلى المطبخ ثم عادت بزجاجة بيرة مفتوحة وكوبين. صبت لي ولنفسها ثم سألتني: ألا تحن لبلدك؟
ضحكت: ليس عندنا صقيع أو ثلج أو غابات.
نهضت ومضيت إلى غرفتي. أحضرت الكاميرا ومقياس الضوء. أضأت المصباح الأرضي المجاور للأريكة .
وقفت في منتصف الحجرة ووجهت مقياس الضوء إلى وجهها. ضغطت على زره الأسود وفي نفس الوقت على الصمام الأسفل في جانبه. انتظرت أن يتحرك المؤشر إلى منتصف مربع أبيض.
كنت أعرف من الإرشادات المرفقة بالجهاز أن الطريقة العادية في القياس هي من مكان الهدف نحو الكاميرا. لكن تعرض وجهها لأضواء مصابيح السقف والمصباح الأرضي بجوارها ألقى عليه بعدد من الظلال المتباينة، وفي هذه الحالة يكون الأوفق هو القياس من موقع الكاميرا.
انتهيت من القياس وحسابه وضبطت عدسة الكاميرا ثم صوبتها نحو وجهها وجعلته في الدائرة الداخلية لفتحة العدسة.
التقطت صورة لها وهي تتطلع إلي باسمة في خجل، وطلبت منها أن تحول وجهها ناحية باب الشرفة، وانتظرت حتى اختفت الابتسامة فتحركت من مكاني محافظا على نفس المسافة، وواصلت التقاط الصور. كنت أبحث عن نظرة الطفلة الشقية التي عهدتها في
تامباخ ديتار .
قالت فجأة: بعد أسابيع يحل
الفايناختين ، الكريسماس.
سألتها دون أن أرفع عيني عن العدسة: هل تنوين الذهاب إلى موطنك؟
علت وجهها مسحة من الحزن: لا. سيحتفلون بالعيد وحدهم هذا العام.
التقطت المزيد من الصور.
قارب الفيلم على الانتهاء فنحيت الكاميرا جانبا، وقامت هي واقفة ومضت إلى باب الشرفة ممسكة بكوبها، وواصلت حديث الكريسماس: عملية مملة. ننهمك في تزيين الشجرة ويتساقط الثلج بالساعات، ويتصاعد الدخان من مداخن المنازل. نشعل الشموع ويغني الجميع وتبكي النساء ويفد الأقارب من الغرب محملين بالموز والسجائر والبن والشكولاتة، وبعد أن ينتهي تبادل الهدايا بالقبلات والأحضان نأكل الأوزة ثم تدور الأحاديث حول إجراءات الحدود بين الشرق والغرب وزيادات المعاشات وخطط عطلات الصيف والوقت الذي كان فيه نوع من الحلوى بمائتي
فينيج
وكأس
شنابس
بعشرة، وتعقد المقارنات بين الأجور في الشرقية وبينها في الغربية.
سمعت صوت فتح باب الشقة، وظهر
نبيل
في مدخل الغرفة حاملا حقيبة ضخمة في مثل حجمه. وتوقف حديث الشجون.
5
فتحت عيني بسبب الضوء على ما أعتقد؛ إذ لم أسدل ستارة النافذة قبل النوم. تطلعت إلى ساعة يدي فوجدتها السابعة وحاولت أن أتذكر متى نمت . كانت ساعة المحطة عندما وصل «الأوبان» إليها الحادية عشرة والنصف. لا بد إذن أني نمت في الثانية عشرة. اليوم الأحد وأحتاج إذن إلى ساعة أو ساعتين من النوم الإضافي.
استدرت في السرير وجذبت اللحاف فوقي ليتلاشى الضوء وأغمضت عيني في محاولة لاستئناف النوم. لكني تذكرت الفيلم الذي رأيته في
برلين الغربية ؛
مور
أو المزيد. عن شاب يرتحل إلى
المغرب
ويقوم بمغامرات عدة مع النساء والمخدرات وشعاره دائما: المزيد.
كانت الوسادة في وضع غير مريح فعدلتها ورفعت رأسي وأنصت لأصوات الشقة. توقعت تأوهات
هايدي
العالية كعادتها صباح كل أحد، لكن السكون كان مطبقا؛ لا أصوات من الغرف أو المطبخ أو الحمام. لا بد أن حيوية الأحد الألمانية دفعت بهم إلى الخارج. ظللت أتقلب دون أن يأتيني نوم، وأخيرا غادرت الفراش.
وجدت الشقة خالية تماما كما توقعت. اغتسلت وأعددت إفطاري؛ بيضة نصف مسلوقة وزبدا وجبنا ومربى وكوبا من الشاي. حملته في صينية إلى غرفة المعيشة وجلست على الأريكة.
أكلت في بطء وأنا أفكر في خطتي لليوم. وعندما انتهيت حملت الصينية إلى المطبخ وغسلت أطباقها ثم أويت إلى غرفتي. وقفت في مدخلها أفكر؛ أحمض الأفلام التي تجمعت لدي وأطبعها أو أسمع موسيقى، أم أقرأ في رواية
بول باولز
الأولى التي بدأتها منذ يومين، أم أحاول الكتابة؟
عدت إلى غرفة المعيشة والتقطت أسطوانتي المفضلة لعازفة البيانو السوفييتية
ماريا جرينبرج ، وتضم السيمفونية الوحيدة ل
سيزار فرانك
والكونشرتو الخامس للبيانو والأوركسترا ل
باخ
والكونشرتو الأول للبيانو والأوركسترا ل
شوستاكوفتش . أعدتها مكانها ووضعت السيمفونية الثانية ل
برامز
فوق البيك أب. حركت الإبرة حتى استقرت عند بداية الحركة الأخيرة، ثم أوقفتها وأغلقت الجهاز وأعدت الأسطوانة إلى غلافها وموضعها.
مضيت إلى حجرتي وجلست إلى المكتب. كنت قد فكرت في كتابة قصة بوليسية حسب نصيحة
سوكارنو . واخترت لها جريمة تقع في
ألمانيا الشرقية ، كما اخترت للضحية شخصية
نويمان ، وقررت أن أكتبها باللغة العربية وأعهد إلى
قادر
بترجمتها. لكني لم أتحمس للبدء. تخيلت أني نجحت في كتابة قصة جيدة وأنها وجدت ناشرا وأتبعتها بقصص أخرى، ثم تحررت من العمل في الوكالة وحققت أحلامي في الترحال؛ إلى منابع
النيل
وجبال
الهيمالايا
وسهول
سيبريا .
أخرجت الكراسة التي خصصتها للمشروع البوليسي. تأملتها برهة ثم أعدتها إلى الدرج وأمسكت بورقة وقلم. كتبت إلى
أولريكا رسالة
لا معنى لها ثم مزقتها، وشرعت في كتابة رسالة إلى
كمال ، ثم توقفت وألقيت بالقلم جانبا وقررت الخروج.
تطلعت إلى النافذة: لا شمس. ارتديت ملابسي وحملت مظلتي. تناولت الكاميرا ومقياس الضوء ثم ألقيت بهما في تأفف فوق الفراش وغادرت المنزل.
لم يكن هناك أثر لإنسان، والستائر مسدلة على أغلب النوافذ. وخلف البعض ظهرت سيدات انهمكن في تنظيف زجاجها؛ واجبات يوم الأحد.
درت عند نهاية الشارع في اتجاه محطة
الأوبان . ومررت بعجوزتين فوق أريكة حجرية. حييتهما قائلا:
جوتن مورجن . وتجاوزتهما.
نادتني إحداهما: أيها الشاب!
توقفت وعدت إليهما.
قالت: كم تظن عمرنا؟
قلت: سبعين؟
قالت بزهو: أكملنا التسعين أمس. يا ... يا ...
قلت: شطار.
استأنفت الطريق إلى المحطة وتذكرت الأرملة المرحة وعجوز حديقة الحيوانات، والعجوزتين
جيلزر ، وفكرت أن
إنجمار
يمكن أن تعيش حتى الثمانين والتسعين، وأن أفظع شيء هنا هو حياة الناس الطويلة في ظل الوحدة. وربما كان هذا السبب وراء انتشار ظاهرة انتحار العجائز باستنشاق غاز البوتاجاز.
ولجت المحطة الخالية من الركاب. ذرعتها جيئة وذهابا ثم توقفت أمام لوحة دور السينما. استعرضت الأفلام المعروضة في أماكن أعرف الطريق إليها. بحثت عن فيلم غير ألماني. وجدت فيلم
السيد
وهو تاريخي، إنتاج مشترك مع
فرنسا
و
إسبانيا . كنت قد رأيته مرتين، ولم أجد رغبة في مشاهدته مرة ثالثة.
جلست فوق أريكة وانتظرت حتى وفد القطار. لم يغادره أحد، وبعد عشر دقائق استعد لرحلة العودة.
تردد صوت مساعد السائق في أرجاء المحطة الخالية؛
أينشتايجن بيته . ثم
تور شليسن . صعدت إلى العربة الفارغة وجلست بجوار الباب. وفي المحطة التالية انضمت لي امرأة خمسينية بأنف حاد ومعطف مطر رخيص، قدرت أنها عاملة أو موظفة بسيطة. وفي المحطة التي بعدها صعد رجل منتفخ الأوداج محتقنها بذقن مزدوجة، خلته مدير متجر أو جزارا. وتبعه شاب في معطف جلدي حتى العقبين، لعله شرطي في ملابس مدنية.
غادرت القطار في محطة
ألكسندر بلاتز ، وبدلا من أن أستقل ال
إس بان
إلى
فريدريش شتراسه
كالعادة قررت الخروج إلى الساحة. وتبعت شابا وفتاة يسيران متعانقين.
طفت بأرجاء الميدان الخالي من المارة والمتسكعين. ولجت أول مقهى صادفني. خلعت معطفي وعلقته وجلست بالقرب من رجل أربعيني ممتعض الملامح بالبيريه بصحبة شقراء بشعر مصبوغ في سترة جلدية. وحول المائدة المجاورة لهما جلس ثلاثة شبان يرتدي أحدهم قميصا أحمر اللون ويجمع شعر رأسه في نصف دائرة مقسم إلى خصلتين على جانبي جبهته ملتصقتين بالرأس، والثاني في سترة أنيقة بدون ياقة. وفي طرف القاعة لمحت هنديا سبق أن رأيته ساخطا متأففا في مطعم
صوفيا
وبار
أونتردين ليندن .
شربت كوبا من البيرة ثم ارتديت معطفي وغادرت المكان ومشيت على غير هدى. توقفت أمام كشك للتليفون. وبدأ المطر يهطل في غزارة فبسطت مظلتي. كان الكشك محتلا بشاب ألماني واجهني ممسكا بسماعة التليفون ومستندا بمرفقه إلى حافة خشبية وأخذ يتحدث على مهل وهو يتأملني.
أشحت بوجهي كي لا أحرجه، وبعد دقائق تطلعت إليه في تجهم لكنه واصل الحديث وتجاهلني، وبعد ربع ساعة لم ينقطع المطر خلالها يئست فانصرفت.
ولجت مقهى. خلعت معطفي من جديد وجلست إلى مائدة بمقعدين إلى جوار المدخل وطلبت شايا. رأيت إحدى نادلات
ليندن كورسو
تجلس إلى مائدة من أربعة مقاعد مع أجنبي طويل شديد السمرة يرتدي بلوفر أحمر اللون برقبة أسفل بزة رمادية. كان له وجه البلطجية الذين لا يفيقون من الحشيش والكراك، وقدرت أنه عربي أو تركي.
دخلت فتاة شقراء ودارت بالمكان ثم وقفت تتأمل الموائد. بدت لي ملامحها مألوفة. تذكرت أني رأيتها من قبل في
أونتر دين ليندن
عقب مباراة كرة مع فريق هولندي. ليلتها امتلأ البار بأجسامهم العملاقة وقباقيبهم الخشبية، وظهرت في صالة الفندق ووقفت تتأمل الجالسين بنفس الطريقة وحقيبة يدها تحت إبطها، ثم خلعت معطفها وعلقته وجلست بالقرب مني، ثم انضم إليها هولندي ضخم كالمصارعين، وبعد قليل كانت تبادله القبلات. واليوم أيضا وقع نظرها علي، ثم على المائدة المجاورة التي تجلس إليها النادلة مع الأجنبي. وكان بمفرده الآن لأن الفتاة ذهبت إلى التواليت فيما يبدو، فاقتربت من مائدته وسألته إذا كان أحد المقاعد خاليا. أجاب بالإيجاب، فوضعت حقيبة يدها عليه ومضت إلى المدخل فعلقت معطفها ثم عادت وجلست وطلبت قهوة. لكن الفيلم لم يكتمل - أو هكذا ظننت - إذ عادت رفيقة الأجنبي.
أنهيت كوبي ودفعت حسابي مع البقشيش وغادرت المقهى. اتجهت إلى مبنى البلدية القديم، وهبطت إلى المطعم الذي يحتل طابقا تحت الأرض. ولجت قاعة هائلة الاتساع شبه ممتلئة، في طرفها فريق من الموسيقيين بالقبعات الخضراء لأبناء
التيرول
وسراويلهم الجلدية يعزفون نغمات مرحة بقيادة عازف أكورديون عجوز. وحول عدة موائد طويلة انعقدت مجموعات من مختلف الأعمار تمرح في صخب، بينما فتاة في ملابس ريفية تشق طريقها بصعوبة بينهم حاملة أكواب البيرة الضخمة.
اتجهت إلى مكان التواليت، وعند عودتي وجدت مجموعة من السياح الأوروبيين يحتلون المقاعد الخالية ومرشدهم يحصيهم أثناء جلوسهم. واصلت طريقي إلى الدرج الذي قادني إلى ساحة
ألكسندر بلاتز .
وقفت مترددا تحت المطر. تذكرت عبارة في إحدى الروايات تقول إن أصعب فترات السجن هي بعد ظهر أيام الآحاد. نظرت نحو المجمع الحديث الذي يضم عدة مطاعم للمشويات على شكل دائري بحيث يعد الطاهي ما يطلبه الجالسون حوله مباشرة. انتظرت حتى توقف المطر فمضيت إليه.
6
أحكمت غطاء رأسي ومشيت في حذر فوق الثلج الذي تساقط بالليل. وكانت الحركة قد بدأت في الطرقات رغم أن الساعة لم تتجاوز الخامسة صباحا.
استخدمت بطاقة المترو وعبرت الحاجز، ثم وقفت أنتظر فوق الرصيف. وضعت حقيبتي إلى جواري والكاميرا فوقها ثم فككت الوشاح الذي أحطت به عنقي.
أخرجت برتقالة وقشرتها ثم بحثت عن سلة فضلات حتى وجدتها فألقيت القشرة فيها، وجاء المترو فركبت وجلست بالصدفة في العربة المخصصة لمن معهم دراجات أو كلاب أو عربات أطفال.
نزلت في محطة ل
أوست كرويتز
التي تلتقي عندها أغلب خطوط المترو. وهبطت إلى الطابق الأرضي حيث أخذت القطار العلوي المؤدي إلى محطة ل
أوستبانهوف .
وقفت بجوار باب العربة وأزلت بيدي المقفزة البخار الذي تجمع على الزجاج لأتبين ما يجري. تابعت مداخن المصانع والمجمعات السكنية الحديثة التي بدت معالمها رغم الظلام السائد. أبطأ القطار تدريجيا، وأدركت أننا وصلنا محطة
أوستبانهوف
من ضخامة الأرصفة التي أشرفنا عليها، فحملت حقيبتي إلى الخارج.
وجدت
ماجد
في انتظاري على الرصيف في معطف أنيق من الصوف. قال: سيتأخر قطارنا ثمانين دقيقة. لنجلس في
المتروبا ، مقهى المحطة.
كان يتألف من طابقين، ووجدنا الطابق العلوي الذي نقف في مدخله مزدحما بالجالسين. أما الطابق الأرضي فكان خاليا تماما. تقدمنا من الدرج المؤدي إليه، وإذ بنا نصطدم بصف من المقاعد التي وضعت بحيث تسد الطريق.
قفز
ماجد
فوق المقاعد واختار مائدة. وضع حقيبته على الأرض، وأشار إلي كي ألحق به.
ظهر النادل فجأة وصاح ب
ماجد
كي يعود إلى الطابق الأعلى لأنه لا توجد خدمة في السفلي. صاح
ماجد
بدوره: لا يوجد هناك مكان خال.
هز النادل كتفه وانصرف.
قلت وأنا أضع الكاميرا فوق المائدة برفق ثم أجلس: انتهت معركتنا الأولى اليوم بنجاح.
قال
ماجد : في الغالب سيعاقبوننا بعدم خدمتنا.
سمعنا صوتا رصينا من الإذاعة الداخلية يعلن أن قطارنا سيتأخر ثمانين دقيقة.
سألت: ألن نتأخر على الفتاتين؟
قال: لا يهم. هما أختان وسنتلفن لهما بمجرد وصولنا. - احك لي عنهما. - الصغرى طالبة في كلية الفنون وتعرفت بها عن طريق زوجتي التي تدرس لها، وعندما عرضت عليها أن أزورها في
درسدن
اشترطت أن آتي معي بصديق لأختها. تقطنان شقة كبيرة يمكن أن نبيت بها.
وضح أننا كسرنا الحظر؛ فقد شغل المائدة المجاورة رجل وامرأة يخاطبان بعضهما البعض بصيغة الاحترام. واحتل شابان مائدة أخرى مجاورة. ولاحظت أنهما ينصتان لما يدور من حديث بين الرجل والمرأة.
اقترب منا نادل عجوز يحمل صينية عليها أكواب فارغة وأواني القهوة. سألنا عما نريد فقلنا في صوت واحد: شاي.
هز رأسه قائلا: لا يوجد الآن إلا القهوة، وصب لنا كوبين .
قلت: لعل مزاج المدير العام للمترو ليس على ما يرام، فقرر أن يشرب جميع الزبائن اليوم قهوة.
قال
ماجد : في الغالب لا يوجد عدد كاف من العمال.
شربنا القهوة ثم سمعنا الميكروفون يعلن وصول قطارنا. جمعنا حاجياتنا وصعدنا إلى رصيف القطار. وفي الناحية الأخرى كان هناك قطار متجه إلى
روستوك
وفي نافذته فتاتان ابتسمتا ل
ماجد .
حدث تدافع شديد أمام أبواب القطار، وسقطت فتاة تحت الأقدام وهي تصيح:
هيلفه ، النجدة. فحملت لها حقيبتها حتى تمكنت من الصعود.
وجدنا مقعدين في أول قمرة. جلسنا أمام فتاة حلوة أخرجت أوراقا وأخذت تضع خطوطا حمراء تحت بعض الكلمات، وبدا لي من حجم الكلمات المكتوبة بعناية أنه امتحان لفصل في مدرسة ابتدائية. وبعد قليل أسندت رأسها إلى المقعد واستغرقت في النوم.
كان هناك عدد من الشبان يقفون في ممر العربة يتبادلون الحديث بصوت مرتفع في لغة غريبة، وبدت ملابسهم جديدة ومن نوعية رخيصة، وظهرت على أياديهم التي حملت زجاجات البيرة آثار العمل اليدوي. وعندما أفرغوا محتويات الزجاجات ألقوا بها من النوافذ، فعلت وجوه الألمان نظرات الاستنكار.
علق
ماجد
قائلا إنهم من اليوغوسلاف العاملين في
برلين الغربية ، عائدين إلى بلادهم، إذ كان القطار يذهب إلى
براغ
ثم
بودابست
و
بلغراد
قبل أن تنتهي رحلته في
فيينا .
وقف شاب سلافي الملامح لسيدة عجوز بينما لم يتحرك شابان ألمانيان. وسألني
ماجد : لاحظت أن الجو متوتر بينك وبين
عدنان . هل هناك شيء يتعلق بالعمل؟
كانت علاقتنا قد توطدت في الآونة الأخيرة مما سمح له بالسؤال.
قلت في تردد: قصة سخيفة. أنت تعرف أن صديقته
هيلدا
تقيم معنا. وفي الأسبوع الماضي سافر إلى مدينة
لايبزيج
ليبحث إمكانية الالتحاق بجامعتها. وفي نفس اليوم جاءني صديق لأحد أصدقائي - مصري - وقال إنه تأخر في اللحاق بطائرة
مصر
للطيران ويريد مكانا يبيت فيه ليلته. أخذته إلى المنزل، وتعشينا وشربنا، وجلست معنا
هيلدا
بعض الوقت ثم لجأت إلى غرفتها. كان شخصا طريفا للغاية. شديد الحيوية بطريقة غير طبيعية ولا يفكر في غير النساء. سهرنا سويا وهو يحكي لي مغامراته ونضحك على المواقف الغريبة التي تعرض لها، ثم أعددت له فراشا في غرفة المعيشة، وتركته لينام ولجأت إلى غرفتي. وبعد أن استغرقت في النوم استيقظت على صراخ. اندفعت إلى الردهة فوجدت باب
هيلدا
مفتوحا وضيفي يقف في منتصف غرفتها في ملابسه الداخلية وهي تصرخ في هستيرية. هدأت من روعها واقتدته خارج الغرفة، وظللت إلى جواره حتى استغرق في النوم. وفي الصباح لم يتذكر شيئا مما حدث وسافر في نفس اليوم. - وحملك
عدنان
مسئولية ما حدث؟ - ليت الأمر اقتصر على ذلك. فقد صورت له
هيلدا
أنني اتفقت معه على اقتحام غرفتها. وقالت ل
عدنان
إننا كنا نضحك بصوت مرتفع طوال الوقت!
قال
ماجد
بلهجة الخبير بمكائد النساء: لعلها أرادت أن تثير غيرته.
قلت: ربما. على العموم ليس هناك ود كثير بيني وبينها. علقت ذات يوم على تجاعيد في جلد بطنها متسائلا في سذاجة عما إذا كانت قد حملت يوما ما، فنفت ذلك بشكل قاطع وكرهتني من يومها.
اقتربنا من
درسدن
بعد ساعتين ونصف ساعة، وأظلم القطار، وظل مظلما حتى ولجنا المحطة الرئيسية للمدينة.
تلفن
ماجد
لفتاته فلم يجدها. أخذنا الترام الذي انطلق في شوارع خالية مرصوفة بمربعات حجرية تقافز فوقها. وكان الجو دافئا، وسقط مطر خفيف ثم توقف.
نزلنا في مركز المدينة الحديث، وولجنا حانوت
تسفينجر
الضخم الذي تطل جدرانه الزجاجية على شارعين. حصل كل منا على بطاقة، قدمناهما للبائعة عند الكاونتر. أخذنا قهوة وكعكة فثقبت كل بطاقة أمام الثمن.
قال
ماجد
ونحن نحتسي قهوتنا: هل تعرف أن
الساكسون
سكان هذه الأنحاء هم أول من أدخلوا تقليد تناول الكعك مع شرب القهوة في العالم؟
كان التدخين
فيربوتين ، ممنوعا. فنزلت إلى التواليت ودخنت هناك.
تلفن
ماجد
من جديد. وفي هذه المرة وجد الفتاة، وقالت له إن أمها في زيارة مفاجئة وتريد أن تأخذها إلى القرية، ثم إنها تريد أن تغسل شعرها. واقترحت أن نتجول قليلا ثم نتصل بها بعد ساعة.
استشار
ماجد
الكتيب السياحي وذهبنا إلى المتحف القديم. تنقلنا بين لوحات شهداء القديسين وصور ضحايا الحرب العالمية. ووقفت أمام لوحة
روبنز
الشهيرة
ليديا
والبجعة» التي ضمت فيها الفتاة البجعة بين فخذيها وقربت رأسها من فمها. ثم قضيت وقتا طويلا أمام طفل
رامبرانت
المذعور الذي سال البول من قضيبه عندما حمله العقاب في الهواء.
صورت اللوحتين، وإن راودني الشك في النتيجة بسبب الضوء الضعيف. أسفت لأني لا أملك «فلاشا» ثم استرحت عندما لمحت تحذيرا من استخدام الفلاش في التصوير.
تلفن
ماجد
للفتاة فلم ترد. تجولنا طويلا ثم ولجنا مطعما حديثا. رأينا في جانب منه تجمعا لأكثر من عشرة أشخاص يحملون شارات الحزب فوق ياقات ستراتهم أحاطوا برجل قصير باسم الوجه ذي كرش متوسط. استفسر
ماجد
من النادلة عنهم فقالت إنهم أعضاء لجنة حزبية، واستعرضت لنا الأطباق المحلية حسب طلبنا، فاختار
ماجد
كرات البطاطس وقطعة من لحم الدب البري مع سوس وكرنب أحمر. وطلبت أنا قطعة من اللحم البقري المدمس (المطهو ببطء في قدر مغلقة) والمنقوع في الملح والخل مع بيرة
رادبرجر
الشهيرة.
قال لي
ماجد
مبتسما وهو يشير إلى الجمع الحزبي: اللجنة كلها هنا بالتأكيد ولم يتغيب أحد؛ لأن الطعام مكفول. فرصة لك لعمل مقابلة صحفية.
قلت: كيف؟
قال: سترى.
استدعى النادلة وتحدث معها. فمضت إلى القصير ذي الكرش ومالت على أذنه ثم انصرفت، وتطلع الرجل إلينا وأخذ يدرسنا بدقة.
قام بعد قليل واقترب منا. وقفنا له فقدم بطاقته ل
ماجد
الذي وضعها في جيبه بحرص وقدم بطاقته بدوره. تأملها الرجل بدقة ثم قال إنه ليس السكرتير الأول وإنما الثاني وإن الأول غير موجود. لكنه على استعداد للإجابة عن أسئلتنا.
جلس في مقعد أمامي وقال إنه يريد معرفة كافة الأسئلة قبل أن يجيب. سألته عن تأثر عمال المدينة بأحداث
تشيكوسلوفاكيا
قائلا إنني أعرف بالطبع أن الوضع هنا مختلف ومستوى المعيشة أعلى. أنصت في جمود. وعندما أخرجت جهاز قياس الضوء وفتحت عدسة الكاميرا بدا عليه الاهتمام، وتضاعف وقاره وأخذ يحرك أصابعه اليسرى بطريقة توحي باتخاذ القرارات.
التقطت صورة ليده وعلامة الحزب على سترته ثم لوجهه عندما تكلم وبدأ يستعرض طبيعة المنطقة ومستقبلها الصناعي ومستوى معيشتها المرتفع. وأشار بيده إلى جماعته قائلا: نحن نبحث الاستعدادات للاحتفال القريب بالعيد العشرين لجمهوريتنا.
عندما انتهينا وعاد إلى مقعده قال
ماجد : لم تقم بالحركات المعتادة للمصورين الصحفيين. تنحني فوق ركبتك مثلا وتقف فوق مقعد.
قلت: إنه السكرتير الثاني فقط.
أكملنا طعامنا، وعاود
ماجد
الاتصال بالفتاة دون مجيب. دخلت فتاة طويلة في جينز وبوت وانتحت جانبا. حاول
ماجد
التقرب منها بالنظرات فلم تعره اهتماما. فغازل النادلة التي استجابت له في البداية ثم ذكرت أنها على موعد مع صديقها في الليل.
غادرنا المطعم وواصلنا التجوال، واتصل
ماجد
مرة أخرى بفتاته من كشك في الطريق. وقال لي محبطا: لا فائدة. دعنا نعود.
واتجهنا إلى محطة القطار.
7
استيقظت مبكرا كما أصبحت عادتي المؤلمة كل أحد. وذهبت إلى الحمام فوجدت المياه تبلل الأرض حول الحوض والبانيو. عدت إلى حجرتي. سمعت حركة باب الغرفة المجاورة ففتحت بابي. كانت
هايدي
في روب سماوي اللون، و
نبيل
في الفانلة والكيلوت في طريقهما إلى الحمام. أشرت لهما أن يلجا حجرتي.
قلت بلهجة صارمة: الحمام مبلل. نحن اتفقنا ألا يتركه أحد منا كذلك بعد استخدامه.
قالت:
عدنان
و
هيلدا
استحما في الثالثة صباحا.
اتجهت
هايدي
إلى فراشي واستلقت فوقه على بطنها. وانزاح طرف الروب كاشفا عن فخذيها. تحول
نبيل
منصرفا إلى الحمام فنهضت وتبعته.
بعد قليل سمعتهما يعودان من الحمام فمضيت إليه. وجدت الأرض جافة فاغتسلت، ثم انتقلت إلى المطبخ، وشرعت في إعداد الإفطار. سلقت عدة بيضات وفتحت علبة رنجة محفوظة، ووضعت مربى وزبدا وقطعة جبن بيضاء (
برنزا ) اشتريتها من حانوت السلع البلغارية، وهو المكان الوحيد التي يتوافر فيه الجبن المصنوع من لبن البقر مثل الجبن المصري.
جاءتني في المطبخ وقالت إنها نظفت الحمام فاحتضنتها وقبلت رأسها. استكانت في حضني لحظة وهي تضحك، ووجدتها بعد قليل في غرفة المعيشة عاكفة على تنظيفها، فقلت لها إنها تستحق جائزة.
قالت: بنطلون
جينز
من الغرب ثمنه 27 ماركا غربيا.
أشرت إلى
نبيل
قائلا: الأسهل أن يحضر لك من
سوريا
جملا.
اجتمعنا حول الطاولة دون
عدنان
و
هيلدا
اللذين لم يستيقظا بعد ، وتناولنا الإفطار. ثم دخلت
هايدي
الحمام واستحمت وخرجت إلى غرفتها وهي تنادي على
نبيل
كي يتبعها. تنقلت بين التليفزيونين الشرقي والغربي حتى ضقت ببرامج صباح الأحد المملة. مضيت إلى غرفتي ومررت بغرفة
نبيل
المغلقة. ناديته فقال إنه قادم. دخلت غرفتي ووقفت وسطها حائرا ثم جلست إلى المكتب وجذبت سطحه. كتبت خطابا لصديقي
كمال
وقرأت قليلا في رواية
بول باولز ، ثم نهضت وخرجت إلى غرفة المعيشة فوجدت
عدنان
و
هيلدا
في ملابس الخروج. صاحا مناديين
نبيل
و
هايدي ، وجاء
نبيل
بعد قليل شاحب الوجه. واقترحت
هيلدا
أن نخرج جميعا ونقضي اليوم في الخارج.
ذهب
نبيل
ليرتدي ملابسه، وأعلنت رغبتي في البقاء بالمنزل، ثم جاء
نبيل
معلنا أن
هايدي
متعبة ولا تريد الخروج، وغادر الثلاثة معا.
التقطت أسطواناتي المفضلة ومضيت إلى غرفتي فجذبت سطح المكتب ووضعتها فوقه. عدت إلى غرفة المعيشة فحملت جهاز البيك أب وأخذته إلى حجرتي فوضعته على المكتب وأوصلته بالكهرباء.
أغلقت باب الغرفة وشغلت اسطوانة
ماريا جرينبرج
واتخذت وضعي المفضل في الفراش مضطجعا بالعرض ورأسي مرتفع مستند إلى الحائط.
استمعت إلى كونشرتو
باخ ، وقبل أن تبدأ سيمفونية
سيزار فرانك
التي أعشقها سمعت نقرا خفيفا على باب الحجرة.
رفعت إبرة البيك أب عن الأسطوانة وفتحت الباب. واجهتني
هايدي
في روبها السماوي اللون، وكانت هناك سلسلة فضية حول عنقها.
فكت زرار الروب العلوي فظهر أعلى ثدييها العاريين، وجذبت السلسلة لتريني طرفها السفلي الذي تدلى منه مفتاح الحياة الفرعوني.
قالت: ما رأيك؟ حلوة؟
قلت: من أين جئت بها؟
قالت في خجل: أعطاها لي صحفي مصري. اسمه صعب في النطق.
هلمي
على ما أظن.
سألتها مذهولا:
حلمي عبد العليم ؟ - أجل
هلمي أليم . هو. تعرفه؟
كان حرفا الحاء وال «ع» في العربية عسيرين في النطق على الألمان.
قلت: قابلته مرة.
اندفعت بعد التعبير الذي ظهر على وجهي: هو شخص لطيف وحنون ، وهو يرغب في زيارتي هنا والالتقاء بكم.
عدت أسألها: كيف تعرفت به؟ - جاء إلى المجلة لمقابلة رئيس التحرير ثم التقينا في مقهى
ليندن كورسو . - و...؟ - دعاني إلى شقته فذهبت. كان الوقت متأخرا فنمت عنده.
هززت رأسي يمنة ويسرة عدة مرات. - متي حدث هذا؟ - قبل انتقالي هنا مباشرة.
تركت السلسلة تتدلى بين ثدييها فاحتجب مفتاح الحياة عن ناظري، ثم فكت الزرار التالي للروب وأمسكت بطرفيه من الجانبين وأزاحتهما بعيدا فانفرجا عن المفتاح كامنا بين ثدييها العاريين. كانا في عريهما الكامل وهما يعلوان صدرها في شموخ أكبر حجما مما تصورتهما.
شعرت بالتأثير على جسدي فأبعدت عيني في صعوبة، وجلست على مقعد المكتب. وظلت هي واقفة ممسكة بطرفي الروب كاشفة عن ثدييها.
قالت: ما رأيك في أن تصورني هكذا.
ابتلعت ريقي وقلت: للأسف لم تعد لدي أفلام. غدا أشتري واحدا.
ظهر القنوط على وجهها وضمت جانبي الروب في بطء وزررته وتحولت خارجة، ثم توقفت والتفتت نحوي قائلة: طلب مني
نبيل
أن أعد أرزا بالطريقة السورية. أعددت البازلاء والثوم و
اليوغورت - الزبادي - وتبقى الأرز. شرح لي طريقة معقدة لإعداده. هل تساعدني؟
نهضت واقفا وأنا أقول: طبعا.
8
خلفنا مدينة
درسدن
ومررنا بقرى صغيرة ثم توقفنا في
باد شانداو
على الحدود. انتهزت الفرصة لأفتح النافذة فشعرت بلسعة برد. أشرفت على منحدر يؤدي إلى قرية هادئة، وتابعت مجموعة من الأطفال الصغار في سترات ملونة بالأحمر والأزرق حتى اختفوا واحدا بعد الآخر.
تحرك القطار بعد نصف ساعة فأغلقت النافذة، وغادرت مقعدي، وانتقلت إلى عربة البوفيه. ابتعت قطعة
فورست
وزجاجة بيرة تشيكية تحمل نفس الاسم الألماني
بلسنر ، وعدت إلى مكاني. جلست بجوار شابين متقابلين استغرق أحدهما في قراءة كتاب، ودفن الثاني رأسه في صحيفة
برلينر تسايتونج .
واجهني في المقعد المقابل عجوز نحيف للغاية ذو عينين صافيتين في قميص داكن اللون وبلوفر أبيض تحت بزة جديدة تزين صدرها شارة الحزب وميدالية مثلثة حمراء، وإلى يساره عجوز قصيرة بنظارة ذات عدسات مقعرة، في رداء أسود وصديرية بيضاء بكرانيش مثل أردية الراهبات . وإلى يمينه امرأة ضخمة، خمسينية لا تكف عن الكلام وإبداء التعليقات. هكذا عرفت أنها عملت عشر سنوات في أحد المستشفيات.
دار حديث الثلاثة عن شباب اليوم وكيف يتطلعون إلى الغرب والأشياء الحديثة والربح. ابتسم الشابان الجالسان إلى جواري في سخرية، وأشعل أحدهما غليونا. والتقطت في كلام العواجيز لكنة غريبة كالتي تظهر عندما يتكلم الألمان اللغة الإنجليزية؛ فأدركت أنهم
سكسونيون ، من الجنوب الألماني.
سمعت العجوز يقول وهو يتراجع إلى الوراء واضعا يده على ركبته كأنه سيصلي أو يتجشأ، إنه لا يعرف على وجه الدقة ما هو الصحيح. وأمنت جارته ثم فتحت حقيبة يدها وأخذت تعبث بمحتوياتها، ثم أخرجت بسكوتة ناولتها لرفيقها فأخذها، وأكلت هي واحدة ثم ثانية، وعرضت عليه الثالثة فرفضها فالتهمتها.
مضت ساعتان قبل أن نقترب من
براغ . كان القطار خلالها يدور كل لحظة حول انحناءة نهر تمتد خلفها الغابات والجبال التي تسيل من أعلاها المياه، وعلى الجانب الآخر تظهر أسطح منازل يتصاعد من مداخنها دخان أبيض أو أصفر أو برتقالي. ثم ظهرت قباب
براغ ، ودار القطار دورة كبيرة مع النهر وتوقف على مسافة مائتي متر من المحطة وأخيرا ولجها.
غادرت القطار وتلفت حولي بحثا عن
سوكارنو . وتملكني الهاجس الذي راودني في الأيام الأخيرة بأني تحت المراقبة، فتمعنت في القلائل الذين ضمتهم المحطة شبه الخالية. مضيت إلى المدخل على مهل فرأيته قادما نحوي. تصافحنا وكانت رائحة الخمر تفوح منه، وأصر على أن يحمل حقيبتي. غادرنا المحطة إلى شارع ضيق ومزدحم. ووقفنا ننتظر الترام.
أقبل ترام حديث لا يحدث ضوضاء. صعدنا في مقدمته واشترى بطاقتين من محصلة جالسة.
قال إن كل خططه ارتبكت عندما غيرت موعد سفري واضطر لإلغاء حجز غرفتي.
كان يتكلم بالإنجليزية في صوت مرتفع. وتطلع إلينا الركاب في فضول.
سألت في قلق: والعمل؟
قال: ستشاركني غرفتي. انها تتكلف 60
كورونة
في اليوم؛ أي عشرين «ماركا» شرقيا.
قلت له إن
زيجريد
أرسلت إليه معي ثلاثين
كورونة .
ضحك: ذكرت لها في التليفون أنني مفلس، وأن نقود الناشر سيتأخر تسلمها.
نزلنا بعد عدة محطات، ودلفنا إلى شارع هادئ يكاد يختفي تحت أغصان الأشجار. ولجنا منزلا قديما متين البناء، وارتقينا مصعدا إلى الطابق الثاني.
وقفنا في طرقة رحبة وطرقنا بابا ثقيلا من خشب الزان. فتحت لنا سيدة خمسينية لطيفة الوجه. رحبت بنا بالإنجليزية فولجنا صالة واسعة تشرف عليها الأبواب المغلقة لعدة غرف، جلل أحدها بقفل صغير. قالت: الشقة مقسمة حسب القانون إلى اثنتين منفصلتين، ولي فيها حجرتان.
قادتنا إلى غرفة في عمق الشقة تضم فراشا عريضا ومقعدين وثيرين وخزانة خشبية بمرآة ثقيلة وثلاثة مصابيح جانبية فوق حوامل.
أخرجت من حقيبتي زجاجة
فودكا
ودعاها
سوكارنو
لتشرب معنا، فأحضرت ثلاث كئوس صغيرة، وقالت إنها كانت تملك المنزل قبل سنة 45؛ أي قبل الاشتراكية، وإن المنازل والحوانيت وكل شيء مؤمم.
قلت: في
برلين
متاجر ومؤسسات خاصة.
هزت رأسها: هنا كل شيء ملك الدولة. أدفع إيجارا قدره 300
كورونة .
لم ندعها للجلوس. لكنها تشجعت وجلست من تلقاء نفسها. وقالت: ثمن زجاجة
الفودكا
الروسية هنا 74
كورونة ؛ أي 25
ماركا .
قلت: وثمنها في
برلين
11
ماركا . شرقيا بالطبع.
أتينا على ربع الزجاجة وخرجنا منتشيين. ركبنا الترام وغادرناه قرب محطة القطار. وقادني إلى مطعم صغير بالغ الأناقة رغم تواضعه، يتألف من موائد ومقاعد خشبية.
وجدنا صعوبة في التعرف على قائمة الطعام التي كانت بالتشيكية، وبعد محاولات مع نادل يعرف بضع كلمات ألمانية حصلنا على طبق
الجولاش
التشيكي التقليدي وبطاطس مهروسة ولفائف الدقيق والدجاج. وربع زجاجة
فودكا
بالطبع.
قال
سوكارنو
وهو يجرع كأسه: أشعر بوحدة شديدة بعد أن انتهيت من الكتابة. ولا أجد من أتحدث معه.
جاملته قائلا: كل الكتاب الكبار يعانون مثلك.
قال: لا بد أن تعود إلى
إنجمار . على الأقل كي تترجم لك ما تكتبه.
لم ينتظر تعقيبا مني، وإنما انطلق يتحدث عن
زيجريد
وكيف أنها أشبعت كل رغباته.
قال وعيناه تلمعان: مرة طلبت منها أن نجرب من الخلف، فقالت في حماس: أجل، لا بد من تجربة ذلك. لم يكن بيننا تكلف أو مجاملة. عندما لا أريدها أدفعها بيدي، وهي أيضا.
جاريته في الفضفضة:
إنجمار
خجولة، وغير واثقة من نفسها، ولا تيسر لها ضخامة جسمها سهولة الحركة، فضلا عن ضيق الأسرة التي نستخدمها. مرة طلبت منها أن تنحني وهي واقفة، واحتضنتها من الخلف، فاحمر وجهها، وقالت إنها لا تستطيع ذلك.
توقفت ثم أضفت: عندما أسير إلى جوارها أشعر بضآلتي.
لزمنا الصمت حتى انتهينا من الطعام، وعندما غادرنا المطعم قلت إني أريد استعمال التليفون.
قال ضاحكا: نكلم نساء فقط.
أعطاني ربع
كورونة
ومضينا إلى مكتب البريد الرئيسي. ولجت إحدى قمرات التليفون، وأخرجت مفكرتي. بحثت عن رقم
مارينا . كانت قد أعطته لي في آخر لقاء لنا ب
القاهرة . أدرت الرقم ورد علي رجل. سألت عنها بالإنجليزية وعما إذا كنت أستطيع الحديث إليها ذاكرا اسمي. قال: لحظة من فضلك.
أعطاها السماعة فهتفت: أنت في
براغ ؟
قلت: أجل. - أين تقيم؟
قلت: وسط المدينة. - إلى متى ستبقى؟
قلت: سأغادر بعد غد، الأحد.
أعطتني رقم تليفون مكتبها لأتصل بها في الصباح. وضعت السماعة وطلبت من
سوكارنو
ربع
كورونة
آخر. اتصلت ب
ناتاليا
ذات العينين اللوزيتين الساحرتين. ظل التليفون يدق دون أن يرد أحد.
غادرت القمرة فاندفع إليها
سوكارنو
وأغلق بابها الزجاجي بإحكام. ثم تناول سماعة التليفون وأودع في صندوقه عدة قطع معدنية. وفكرت أن المكالمة التي سيجريها ليست محلية.
ابتعدت إلى مدخل المبنى ووقفت أرقبه. كان يتحدث بانفعال ويضيف قطعة معدنية كل بضع لحظات.
وضع السماعة أخيرا، وغادر القمرة وهو ما زال منفعلا. عدنا أدراجنا إلى المنزل سيرا على الأقدام وهو صامت. ثم استعاد هدوءه وقال:
زيجريد
تبلغك تحياتها.
كانت الشقة غارقة في الظلام. فتسللنا إلى حجرتنا في حرص كي لا نزعج صاحبتها. حملت بيجامتي إلى حمام بالغ النظافة. اغتسلت ثم ارتديت منامتي، وعدت إلى الغرفة لأجده قد استبدل ملابسه بأخرى رياضية.
وقفت مترددا أمام الفراش الذي سيجمعنا. قال: سأنام على الحافة لأني أستيقظ مبكرا.
تكومت قرب الحائط، وقضيت الليل أتقلب في قلق. وغفوت قبل الفجر، ثم استيقظت في الصباح لأجده واقفا فوق رأسه في منتصف الغرفة. تابعته في تمريناته الرياضية حتى أتمها بعد ربع ساعة، ثم اغتسلنا وخرجنا إلى الشارع. أفطرنا في مقهى صغير، وقال إنه سيذهب إلى إحدى المجلات ويترك لي الفرصة لأدبر أمري مع صديقتي.
تلفنت ل
مارينا
وأعطيتها العنوان، ثم عدت بسرعة فرتبت الغرفة، وجرعت كأسين من
الفودكا . وعندما دق جرس الباب سبقت صاحبة الشقة إليه. فتحت ووجدتها أمامي برفقة رجل قالت إنه سائق السيارة التي أقلتها.
كانت ترتدي معطفا قديما، ويبدو عليها عدم الاعتناء بمظهرها أو شعرها. رحبت بهما ودعوتهما للدخول. قالت إن السائق لا يعرف الإنجليزية. واقترحت أن أرافقهما في السيارة لأشاهد معالم المدينة. أحضرت معطفي والكاميرا وتبعتهما إلى الخارج.
قالت: لدي ساعتا فراغ يمكن استغلالهما في التجوال.
أقلتنا سيارة
تترا
إلى وسط المدينة وتركنا السائق في السيارة، ثم قادتني خلال شوارع ضيقة للغاية إلى الحي القديم. أشارت إلى ساعة تعلو برجا أعلى مبنى مجلس المدينة، وقالت إنها تدق كل ساعة فيخرج منها اثنا عشرا من الرسل ليعلنوا الوقت.
التقطت عدة صور للبرج وساعته، ولها بالمثل، وقمنا بجولة ثم جلسنا في مقهى. لم يكن به غير عدد من الأفارقة المتناثرين يحتسون البيرة وهم يقشرون حبات الفول السوداني.
قالت: أحن دائما إلى شمس
القاهرة .
قلت إني ما زلت أذكر ابتسامتها الحلوة وجمال ركبتيها.
ابتسمت في بساطة وقالت: أنت كريم.
شربنا قهوة
فيينا
التي تتميز بطبقة الكريمة التي تعلوها، ثم غادرنا المقهى وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة. مشينا قليلا وسمعنا ساعة مجلس المدينة تدق فقالت: أسرع لنرى الرسل.
وصلنا متأخرين بعد أن عادوا إلى مخبئهم. فقادتني إلى ميدان
فنسلاسكي ناميزي
ووقفنا في طرفه. أشارت إلى الطرف الآخر حيث يواجهنا المتحف القومي وتمثال
فنسلاسكي .
قالت: أترى الدمار الذي أصاب المتحف؟ أحدثته الدبابات الروسية. كان جنودها يبكون وهم يطلقون النار.
التقطت بضع صور للميدان والتمثال وواجهة المتحف. وسمعتها تهمس في أسى: نحن أمة تعيسة. عدنا أدراجنا على مهل. قالت: لن نتمكن من الالتقاء مرة أخرى؛ لأني مسافرة غدا إلى القرية مع أسرتي. اكتمل بناء منزلنا هناك ، ونحن نشتري له الأثاث الآن. - ستتركون العاصمة إذن؟ - لا. نحن نعيش في منزل حديث لكنه صغير وضيق. منزل القرية دبرناه من حصيلة أسفارنا .
سألت: هل أمورك على ما يرام؟
كانت قد ذكرت لي في
القاهرة
عندما تعرفت بها في وكالة الأنباء التشيكية «وسحرتني ابتسامتها الدائمة» أنها في الثامنة والثلاثين وأن الزمن يجري. وأذكر قولها: تصور أن لي 18 سنة متزوجة؟ وكان ذلك عندما احتضنتني وقبلتني قبل أن تدخل علينا طفلتاها فجأة.
تحسست طرف معطفها ثم قالت: أعمل من السابعة حتى الرابعة، ثم أنظف المنزل وأستعد لعودة زوجي كي لا يشكو من شيء. أنا أعمل على راحته رغم أني أعرف أن له صديقات. لكنه يساعدني كثيرا في القيام بأعباء المنزل.
تطلعت إلى ساعتها وقالت: لا بد أن أعود الآن إلى مكتبي.
سألت: لديك عمل كثير؟
ضحكت: أبدا. لا أحد يعمل. نقضي الوقت كله في الثرثرة. أو شرب القهوة.
أوصلتني إلى حيث ينتظرني
سوكارنو
في مقهى
بالاس . وودعتني بقبلة على كل وجنة. ظللت واقفا على الرصيف حتى اختفت سيارتها ثم ولجت المقهى. جذبت مقعدا إلى جوار
سوكارنو . سألني بمجرد جلوسي عما فعلت.
قلت: لا شيء. ما أخبارك أنت؟
أجاب مستاء: تغيرت الأحوال بالطبع. قال لي الناشر إن البعد الاجتماعي غائب في قصصي.
طيبت خاطره، وتناولنا الغداء، ثم ذهبنا إلى مكتب السكن لنبحث عن غرفة ينتقل إليها بعد سفري. استخدمت تليفون المكتب لأعاود الاتصال ب
ناتاليا . وفي هذه المرة وجدتها. عرضت عليها أن نلتقي. اعتذرت بأنها وعدت ابنها بمرافقته إلى السينما.
سألني في ابتسامة خبيثة ونحن نتجه إلى المنزل: نفس السيدة أم واحدة غيرها؟
قلت: غيرها. قابلتها صدفة في
القاهرة
عند أصدقاء وأعطتني تليفونها. •••
انتظرنا في
رستورانشي ، محطة القطار ساعتين. لم يتوقف
سوكارنو
عن الحديث حول كتابه، بينما كنت أنصت لموسيقى
رافيل بوليرو ، المنبعثة من راديو صغير مثبت في الحائط. ثم بدأ يوصيني بما أفعله عندما أصل
برلين . أنصت إليه شاردا وأنا أرهف السمع للنغمة الساحرة التي تكررها آلات النفخ المختلفة، بينما يتصاعد خلفها دق الطبول الرتيب.
9
جذبت سطح المكتب وفضضت الرسالة التي جاءتني في الصباح من
إنجمار . تنقلت عيناي بين سطورها المكتوبة بالإنجليزية: «أعددت هذه الكلمات بعد عودتك من
براغ ... أتمنى ألا تكون شاعرا بما أشعر به ... أفتقدك بشدة في كل شيء. وتعيسة جدا. إذا شعرت مرة بنفس الشعور - لا أعني الآن - يمكنك دائما أن تعتمد علي.»
سمعت مفتاح حجرة
نبيل
يدور وبابها يفتح. وظهرت
هايدي
على باب حجرتي وقد ارتدت قميصا رجاليا خفيفا بلا أزرار ضمت طرفيه فوق ثدييها بيد، بينما أمسكت بالأخرى منشفة لفتها حول أعلى فخذيها. وبدا لي أنها كانت عارية تحت هذا كله.
سألتني عن مرادف بالإنجليزية لكلمة
بجريفين .
أجبت ساخرا: ربما نوع من الملابس.
جرت خجلة إلى غرفتها. تناولت القاموس الألماني-الإنجليزي وخرجت إلى الردهة. ناديتها فجاءت بنفس القميص بعد أن شبكت فتحته بدبوس، واستبدلت المنشفة ببنطلون.
مضينا إلى غرفة المعيشة وأضأنا نورها. جلسنا متجاورين على الأريكة، وأضأت المصباح الأرضي. بحثنا سويا عن الكلمة. كان معناها: يدرك، يفهم، يستوعب، يلمس، يقلب شيئا بإصبعه، يمسك. وسجلت المعاني بالقلم في ورقة. كانت تتدرب على الترجمة في الآونة الأخيرة.
ألقت بالقلم جانبا، وقالت: أوف. أريدك أن تساعدني في كتابة شيء. - بالإنجليزية؟ - لا. الألمانية.
ضحكت: ولكنك تعرفينها أحسن مني.
قالت في جدية: لكني لا أعرف ماذا أكتب. أنا في مأزق.
تطلعت إليها في حيرة. تناولت القلم وقربته من فمها فتحسست طرفه بشفتها السفلى. ثم أبعدته عن فمها، ونقرت به على ركبتها عدة مرات كأنها حزمت أمرها.
قالت: سأحكي لك الأمر من البداية. لكن عدني ألا تقول لأحد أو ل
نبيل . - أعدك. لكن أين هو؟ - يغط في النوم. لن يستيقظ قبل الصباح.
عبثت بأطراف بلوزتها فكشفت بطنها العاري. قالت: في
كارل ماركس شتات
تعرف بي رجل متزوج، جار لصديقة لي. وصار يقدم إلي خدمات مختلفة؛ يوصلني بسيارته إلى المدرسة أو عند عودتي إلى المنزل. وفي يوم أخذني إلى منزله. لم تكن زوجته موجودة. وتكرر الأمر بعد ذلك.
يبدو أن تعبير وجهي دفعها إلى الضحك.
قالت: لم ... أقصد أنه كان ...
احمر وجهها وأطرقت برأسها وهي تضيف: كان يستخدم إصبعه فقط.
رفعت عينيها إلي وقالت: عندما قررت المجيء إلى
برلين
أعطاني عنوان صديق له هو الذي ساعدني في الالتحاق بالمجلة. - دون مقابل؟
تجاهلت ما أعنيه وقالت: لم يطلب مني أي شيء، ثم بدأ يبدي اهتماما بخطابات القراء التي أفضها، ويرغب في الاطلاع على محتواها. لم أجد ضررا في ذلك. ثم بدأ يطلب مني معلومات عن المحررين. - ماذا يعمل؟ - قال إنه في إدارة تعنى بالأحوال الاجتماعية للشباب. لكني أظن الآن أنه في
ستازي . - جهاز الأمن؟ ما الذي أوحى لك بهذا الظن؟ - ذكرت له عرضا أني تعرفت بصحفي مصري، واهتم بشدة عندما عرف أنه المراسل الدائم لصحيفة يومية، وطلب مني صراحة أن أبلغه بما يدور في أحاديثنا، وأن أدون ذلك كتابة. - هل عرض عليك نقودا؟
قطبت حاجبيها في استياء وقالت: أبدا. وترددت لحظة ثم أضافت: مرة ذكر استعداده لدفع ثمن مواصلاتي.
قلت: أوكي. ما هي المشكلة؟ - المشكلة أن
هلمي
من النوع الصامت. لا يتكلم كثيرا، ولا يذكر شيئا ذا بال. لا أعرف ماذا أكتب. - إذن قولي لصاحبك إنه لا يوجد شيء يستحق الكتابة. أو اقطعي علاقتك به. أو اقطعي علاقتك ب
هلمي . - لا أستطيع. إذا قطعت علاقتي ب
ويلفريد
فربما يتخلصون مني في المجلة. أشعر أنهم غير مرتاحين لوجودي. أما
هلمي
فلا أستطيع أن أجرح مشاعره. إنه متعلق بي ويريدني أن أنتقل للإقامة معه، ويقول إنه مستعد أن يتزوجني. بوسعكم في الإسلام الزواج بأكثر من امرأة. صح؟
أطرقت بأسى. قالت: لا أعرف ماذا أكتب.
تأملتها طويلا وأنا أحاول استيعاب موقفها. ثم خطرت لي فكرة وابتسمت.
قلت: أوكي. لنكتب سويا.
صفقت بيدها ومالت علي فانكشف ثدياها كلية بحلمتيهما الدقيقتين. قبلتني في وجنتي هاتفة: فعلا؟ رائع.
اضطجعت إلى الخلف وقلت: اكتبي.
فكرت قليلا، ثم بدأت وأنا أختار كلماتي بإنجليزية بسيطة: لا بد أولا من الحديث عن ألمانيا الديمقراطية. اكتبي: كرر
هلمي
إعجابه بما حققته
ألمانيا الديمقراطية
من إنجازات في ميادين الصناعة والعدالة الاجتماعية والتعليم. كما أشاد بدور الحزب، وبإمكانية استفادة
مصر
من نظام التعاونيات الزراعية والتخطيط العلمي.
توقفت ثم استطردت: هنا يجب أن تظهري ما يفترض أنك تتمتعين به من ذكاء. اكتبي: مع ذلك اشتممت من تعليقاته تحفظه على رتابة التليفزيون والصحف، واعتقاده بأن الصحف المصرية تقدم تغطية خبرية أفضل من مثيلتها الألمانية.
اكتبي أيضا: أشار أيضا أكثر من مرة لما يشعر به
ناصر
والقوى التقدمية من تقدير لمساعدات
ألمانيا الديمقراطية
ل
مصر
في الوقت الذي تساند فيه
ألمانيا الغربية إسرائيل .
فكرت قليلا ثم قلت: لا بد من أن يذكر شيئا عن الوضع الداخلي في
مصر . تذكرت ما قاله
حازم . أمليتها: الأوضاع سيئة وتنحدر من سيئ إلى أسوأ. ومظاهرات
الإسكندرية
صحبها عنف وتخريب، واضطر الجيش للتدخل وقمع المتظاهرين، وهناك مطالبات بإباحة السلع المستوردة في الأسواق، والمتعلمات يقبلن الآن على الزار بينما تتحول الأميات إلى الطب النفسي. يكفي هذا؟
وضعت القلم بين شفتيها وامتصت طرفه. وتعلق بصري به وهو ينزلق على شفتها الممتلئة.
قالت: ما رأيك في مزيد من التفاصيل حول الوضع الداخلي؟
فكرت لحظة ثم قلت: قال
هلمي
إن هناك عدة مجموعات متنافسة في السلطة، أهمها
علي صبري
والاتحاد الاشتراكي، وهناك
هيكل
الذي يتمتع بثقة
ناصر
ويتهمه اليساريون بأنه يمثل الاتجاه الرجعي الوثيق الصلة بالأمريكان، خصوصا بعد أن دعا إلى إنهاء الأوضاع الاستثنائية؛ مما فسره الكثيرون بأنه دعوة لتصفية الثورة. الأغنياء خائفون من مزيد من التأميم واليسار ضعيف؛ فقد حل الشيوعيون أحزابهم بعد أن سحب
ناصر
البساط من تحت أقدامهم بإجراءاته الثورية من ناحية، وطاردهم من ناحية أخرى. لكن على العموم وضعه مستقر.
أضفت بعد تردد: هناك بعض التصرفات غير المفهومة، مثل تعيين
حسن التهامي
أمينا عاما للاتحاد الاشتراكي؛ فهي وظيفة غامضة، وهو ضابط قديم تنسب إليه تصرفات شاذة من قبيل الدروشة.
تطلعت إلي متسائلة فقلت: هل تعرفين معنى درويش؟
هزت رأسها نفيا.
قلت: هو شخص أقرب إلى المتصوف، تصدر عنه تصرفات غريبة، ويتظاهر بأنه على اتصال بقوى خفية . وهو في أغلب الأمر ملتاث أو دجال.
فكرت قليلا ثم استطردت: لا بد من سطور عن
الاتحاد السوفييتي . اكتبي.
ناصر
يعول كثيرا على مساعدته، لكنه يطلب أسلحة متطورة لصد غارات الطيران الإسرائيلي و
الاتحاد السوفييتي
متردد في الاستجابة للطلب بعد الأداء المخزي للجيش المصري في 67. وربما لهذا السبب قررت
مصر
الاحتفال بمرور 99 عاما على ميلاد
لينين ، مما يثير استياء خفيا بين الأغنياء والمتدينين.
سألت: هل
مصر
ستحارب؟ سألني
ويلفريد
عن ذلك.
قلت:
عبد الناصر
أعلن أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. وإعداد الجيش يتقدم بخطى سريعة، لكنه في نفس الوقت لا يغلق الباب في وجه المفاوضات.
استوضحت
هايدي
بعض التعبيرات وقلت: اكتبي أيضا أنه أغرقك بالأسئلة عنا؛ فأصحابك لا شك يتصورون أنه يتبع أجهزة الاستخبارات المصرية، وهو كذلك في الغالب.
أضفت في خبث: أظن لا بد من بعض التفاصيل الشخصية عن
هلمي أليم . مثلا هل هو متزوج؟
قالت: أجل ولديه ولدان. الأسرة كلها في
القاهرة
وتنوي زيارته في الصيف.
قلت: اكتبي هذا. كيف هي علاقته بزوجته؟
قالت: صورها في كل مكان في شقته.
قلت: اكتبي هذا أيضا. وربما تضيفين بعض المعلومات عن أدائه الجنسي، فالاستخبارات تهتم دائما بهذا الجانب. لعله يعاني صعوبات في ممارسة الجنس.
احمر وجهها: كيف عرفت؟
قلت: عمره وارتباطه بزوجته. أظن يكفي هذا الآن. يمكن أن نتحدث أيضا عن البارزين من رجال النظام، لكن دعينا نؤجل ذلك إلى التقارير القادمة. سترينه بالطبع مرة أخرى؟ - أجل. - في شقته؟
لم تجب.
قلت: انتظري. دعينا نكتب شيئا عن
نويمان . اكتبي رأي
هلمي
فيه: إنه مخلص للحزب ويقوم بالدور المرسوم له في العمل بدقة، ويفتقد روح الإبداع والابتكار. ويحلم بأن يعين مراسلا للوكالة في بلد عربي. - ألن يسيء هذا ل
نويمان ؟
قلت: بالعكس، سيسعدون بهذا التقييم ويحققون له حلمه.
نهضت واقفة، ورأيت وجهها يتضرج تدريجيا حتى اكتسى بحمرة قانية. ليست حمرة الخجل بأي حال.
نهضت بدوري ومضيت إلى جهاز البيك أب. رفعت غطاءه وقلبت بين الأسطوانات، ثم التقطت أسطوانة الموسيقى العربية. وضعتها فوق الجهاز.
شعرت بها تخطو حتى أصبحت خلفي، ثم فوجئت بها تقرب رأسها من كتفي وتتشمم عرقي. حركت الإبرة حتى استقرت فوق بداية إحدى المقطوعات القديمة التي يردد فيها كورال - من الدراويش في الغالب - كلمة أمان مفخمة بالنطق التركي.
استدرت إليها وسألتها: قولي لي. ماذا أعجبك في
نبيل ؟
تراجعت إلى الخلف، ثم تحولت عني، واتجهت إلى باب الغرفة وهي تجيب: يجيد الرقص. ويريد أن يتزوجني ويأخذني إلى
سوريا .
الفصل الخامس
ذاب ثلج الفريزر، فأفرغت محتوياته، ونظفته جيدا بالماء الدافئ والصابون، ثم جففته. استخرجت صندوق الخضراوات الزجاجي من قاع الثلاجة. ألقيت بمحتوياته في القمامة، وأزلت العفن المنتشر في أركانه، ثم وضعته تحت الصنبور. غسلته جيدا، واستأنفت تنظيف الثلاجة، العملية التي يواظب عليها اثنان فقط هما أنا و
هايدي ، ويتهرب منها الباقون بحجج مختلفة أهمها عدم تربيتهم على القيام بالأعمال المنزلية.
انتهيت من تنظيف الثلاجة وتجفيفها. فأعدت إليها محتوياتها، وأغلقتها، وأوصلتها بالتيار الكهربائي، ثم جففت الأرض أسفل الثلاجة والحوض، ومضيت إلى غرفتي، ولحظت أن جيراني في الشقة لم يفدوا بعد.
رفعت الصورة التي انتهيت من طباعتها في الضوء. كانت باهتة للغاية ضعيفة التباين. كما ظهرت بها بعض فقاعات الهواء. وضعتها جانبا وتناولت النيجاتيف ورفعته في الضوء. لم تكن المشكلة في التصوير ولا في التحميض. قررت أن أعيد الطباعة مع تغيير نوع الورق وتعديل كثافة محاليل الإظهار والتثبيت.
أغلقت باب الغرفة بالمفتاح، وأطفأت النور بعد إضاءة المصباح الأحمر. شغلت المكبر وأحكمت وضع العاكس. اخترت ورقة من النوع ذي السطح المصقول. وبعد 10 ثوان تحت المكبر وضعتها في صينية الإظهار. قلبتها بالملقاط حتى بدأت ملامح وجه
هايدي
تتضح.
طرق الباب وسمعت صوت
نبيل : العشاء جاهز. سمك مدخن.
صحت: بعدين.
نقلت الصورة بالملقاط إلى محلول التثبيت. وبعد عشر دقائق أخرجتها ووضعتها في صينية المياه، ثم حملت الصينية إلى الحمام وعرضتها للماء الجاري أسفل الصنبور.
كنت أرى من مكاني رفاقي الأربعة مجتمعين حول طاولة غرفة المعيشة يتناولون عشاءهم. خاطبتهم بالألمانية وأنا أقلب الصورة: خذوا بالكم يا جماعة عندما تستخدمون الصنبور.
تركت الصينية تحت الماء الجاري وعدت إلى الغرفة. نظفت لوح التجفيف المعدني جيدا بفوطة ناعمة، وأوصلته بالكهرباء حتى سرت فيه الحرارة.
تأكدت من مرور نصف ساعة، ثم أحضرت الصينية بعد أن أفرغت مياهها. جعلت جانب الصورة الذي تم إظهاره إلى أسفل وأمسكتها من زاويتين متقابلتين. وضعت وسطها أولا، ثم تركتها تنبسط إلى الناحيتين كي لا تتبقى فقاعات هواء تحتها.
ضغطت الصورة على اللوح بأسطوانة مطاطية لطرد الجيوب الهوائية. بعد حوالي 5 دقائق قفزت الصورة من تلقاء نفسها. وجدتها أكثر نقاء واضحة التباين، وبدا وجه
هايدي
مضيئا وقد أحاطت به ظلال قاتمة، أضفت عليه مسحة من الغموض.
وضعت الصورة جانبا وخرجت إلى الصالة. كان نورها مطفأ وقد انزوى
عدنان
و
هيلدا
في غرفتهما. وجدت
نبيل
و
هايدي
في غرفة المعيشة يشاهدان التليفزيون، فانضممت إليهما، وجلست أمام الطاولة التي حملت عشائي. كان
نبيل
يرتدي بيجامة، أما
هايدي
فكانت في بلوزة ملونة بأكمام طويلة وبنطلون من القطيفة الاصطناعية برتقالي اللون.
أكلت شارد الذهن، ثم حملت طبقي إلى المطبخ وغسلته. عدت إلى غرفة المعيشة وجلست إلى جوارهما. كان التليفزيون يعرض فيلما بلغاريا عن معسكر اعتقال أيام الاحتلال النازي، وتابعت المعتقلين وهم يهتفون في هستيرية بحياة
ديمتروف
الزعيم الشيوعي الشهير. نهضت
هايدي
وتقدمت من الجهاز وحولت مفتاحه إلى القناة الغربية، فطالعنا سيلا من الإعلانات، تبعها فيلم رسوم متحركة لمخرجة تشيكية معروفة.
شردت متخيلا فيلما يتألف من ديكورات كاملة لأحد العصور التاريخية، يتحرك فيها ممثلون من البشر بعد تصغير صورهم للغاية بحيث يبدون كالأقزام كما في فيلم «الأميرة والأقزام السبعة» مثلا. يمكن لمثل هذا الفيلم أن يقدم مفهوما حديثا للتاريخ، وأن يسخر من تطوراته، فضلا عن الجو الساحر الذي يشبع الحس الطفولي لدى المشاهدين.
انتهى الفيلم وشعرت بالعطش، فخرجت إلى الصالة لأحضر زجاجة بيرة من المطبخ. ودق جرس الباب عندما كنت بالقرب منه، ففتحته متعجبا لتأخر الوقت. وجدت أمامي
هلمي أليم .
رحبت به. وارتفع صوت
هايدي
من خلفي تشاركني الترحيب بالزائر غير المتوقع.
قال
هلمي
في ارتباك: آسف على الوقت المتأخر. كنت في زيارة بعمارة العزاب وفكرت في المرور عليكم.
أفسحنا له كي يدخل . خلع معطفه كاشفا عن بزة كاملة بالصديرية والكرافت. وعلقته على المشجب ثم أضفت إليه الملحقات المعهودة؛ الكوفية (من صوف فاخر) والقفاز (من الجلد الثمين المبطن بالفراء) والقبعة الروسية (من الفراء الطبيعي).
قدناه إلى غرفة المعيشة. وأشرت إليه أن يجلس على الأريكة، وجلست
هايدي
إلى جواره فصارت بينه وبين
نبيل .
خاطبته قائلا: ماذا تحب أن تشرب؟ بيرة؟
وضع يديه على ركبتيه وقال: لا. جئت بالسيارة.
سأله
نبيل : سيارتك؟
أجاب: أجل اشتريتها من أسبوع من
برلين الغربية .
قلت: شاي إذن. أوكي؟
أومأ برأسه. مضيت إلى المطبخ فوضعت الغلاية على النار، واستخرجت زجاجة بيرة من الثلاجة. نزعت سدادتها وجرعت منها مباشرة.
أعددت الشاي وحملته في صينية بعد أن وضعت إناء السكر. ووجدت أن
عدنان
قد انضم إليهما.
دار بيننا حديث متقطع أدلت فيه
هايدي
بالدلو الأكبر، وروى
هلمي
بعض المفارقات التي واجهته عند قدومه للبلاد، وشارك
عدنان
و
نبيل
بتجاربهما، وأجمعنا على أن بسطاء الألمان يتظاهرون بعدم الفهم إذا أخطأ أجنبي في نطق لغتهم المقدسة.
تساءل
هلمي
عما ننوي أن نفعله بمستقبلنا. لم أجب. بينما قال
عدنان
إنه ينوي دراسة الأدب في جامعة
همبولت . ونظر
نبيل
إلى
هايدي
ثم قال: سأعود إلى
سوريا . وأتزوج.
سأله
هلمي
باهتمام: سورية أم ألمانية؟
بدا التوتر على
هايدي
فسارعت إلى نجدتها.
سألته: هل لك مدة طويلة في جريدة
الجمهورية ؟
أجاب في تردد: كنت في وكالة الأنباء المصرية. - متى تركتها؟
قال في غير حماس: العام الماضي.
بالطبع كي يأتي إلى
برلين . له صلة برئيس الجريدة الجديد؟ أم قدرت الأجهزة المعنية أن
برلين
صارت مركزا مهما للأنباء (بكافة أنواعها)، أو تصاعدت أهميته في
الاتحاد الاشتراكي ، وقرروا مساعدته في شراء سيارة؟
تطلعت في ساعتي خلسة. كانت تقترب من العاشرة، موعد نومي. استأذنت منهم وحملت زجاجتي إلى المطبخ، وأودعتها سلة الزجاجات الفارغة. مضيت إلى الحمام فتبولت وغسلت أسناني . وعند خروجي سمعت
نبيل
يقول بالعربية ثم بالألمانية إنه سيذهب لينام بسبب تأخر الوقت. وردت عليه
هايدي
قائلة: سأبقى مع
هلمي
بعض الوقت .
اتجهت إلى غرفتي وتبعني
نبيل . أغلقت الباب وأطفأت النور. استلقيت على الفراش وسرعان ما رحت في النوم.
استيقظت فجأة شاعرا برغبة في التبول. رفعت يدي بالساعة ووجدت العقارب المضيئة تشير إلى منتصف الليل. غادرت فراشي وأضأت النور. ثم فتحت باب الغرفة وخرجت إلى الصالة. كان نورها مطفأ ويتسلل إليها ضوء خفيف من غرفة المعيشة. وفوجئت ب
نبيل
واقفا في الظلام على مقربة من بابها وهو يتنصت.
هممت بإشعال نور الصالة، فمنعني وهو يضع إصبعه على فمه طالبا مني التزام الصمت. ووقفنا ننصت في الظلام.
أتانا صوتا
هلمي
و
هايدي
في همهمة خافتة لم نتبين معها تفاصيل حديثهما. كانا قد أطفآ مصباح السقف واكتفيا بضوء المصباح الأرضي المجاور للأريكة. وكان الباب مواربا بحيث لا يراهما أحد من الصالة. وتخللت حوارهما فترات صمت طالت أحيانا.
حاولت أن أستشف شيئا من نبرات صوتهما لكني فشلت. مللت الإنصات بعد دقائق فأشرت ل
نبيل
أني سأدخل الحمام في هدوء. خطوت في حذر إليه وفتحت الباب في رفق ثم تركته مواربا. تبولت وغادرت الحمام. لم يكن
نبيل
قد تحرك من مكانه، فتركته ومضيت إلى غرفتي. أغلقت الباب، وأطفأت النور، واندسست في فراشي.
تقلبت عدة مرات قبل أن أستغرق في النوم من جديد. استيقظت مرة أخرى على صوت إغلاق باب الشقة. تطلعت في ساعة يدي فوجدتها تقترب من الثانية بعد منتصف الليل. سمعت خطوات
هايدي
المندفعة نحو غرفتها، ثم فتح بابها وإغلاقه، وتبع ذلك همهمة غاضبة ثم ارتفع صوت
نبيل . ساد الصمت لحظات ثم سمعت صوت باب غرفتهما يفتح ويغلق بعنف. وتبعت ذلك أصوات صادرة عن غرفة المعيشة. ثم ساد السكون. واستأنفت نومي.
أيقظني صوت المنبه كالمعتاد. قفزت من الفراش وغادرت غرفتي. كانت الشقة مظلمة فاتجهت إلى الحمام. تبولت واغتسلت ثم تناولت فرشاة أسناني. ضغطت أنبوبة المعجون فوقها، وشعرت بتيار من الهواء البارد قادم من غرفة المعيشة.
غادرت الحمام وفرشاة الأسنان في يدي. عبرت الخطوات القليلة حتى غرفة المعيشة التي كان بابها مفتوحا.
ولجت الغرفة ومددت يدي فضغطت مفتاح نور السقف. وطالعني منظر
هايدي
في البلوزة الملونة والبنطلون البرتقالي اللون مدلاة من باب الشرفة المفتوح.
كانت هناك أنشوطة تحيط برقبتها مثبتة في عارضة الإطار الخشبي العلوي لباب الشرفة. اقتربت منها مأخوذا، ومددت يدي إلى رقبتها عند الأنشوطة. تحسستها بأصابعي فوجدتها متحجرة.
تركتها وخرجت إلى الصالة وناديت على
نبيل . ولجت الحمام واستأنفت تنظيف أسناني، ثم مضيت إلى غرفتي فأحضرت الكاميرا.
التقاني
نبيل
في الصالة مبهوتا. وعندما رآني أحمل الكاميرا وأتجه إلى غرفة المعيشة حال بيني وبين ذلك. أذعنت وعدت بالكاميرا إلى غرفتي. وارتديت ملابسي. •••
ذهب
عدنان
إلى كشك التليفون القريب وتلفن للوكالة. وبعد نصف ساعة وصل
نويمان
وبصحبته أحد مديريها. ثم انضم إليهما ضابط شرطة. وحضرت سيارة إسعاف نقلت الجثة.
استمع الثلاثة إلى شهادة كل منا، وسمحوا ل
هيلدا
بمغادرة المنزل بعد أن أدلت بشهادتها، وأعفانا
نويمان
من النزول إلى العمل. ثم انصرفوا وتجمع ثلاثتنا في غرفة المعيشة.
جلسنا في صمت بعض الوقت. وفجأة انهار
نبيل
باكيا، وقال وهو يدفن وجهه بين كفيه: قلت لها إني لن أتزوجها، وطلبت منها أن تغادر المنزل.
انسحبت بعد قليل، وأخذت زجاجة بيرة إلى غرفتي. بسطت صور
هايدي
على سطح المكتب، ثم رفعت الصورة الأخيرة التي يتوسطها وجهها وتأملتها طويلا.
جمعت الصور وفتحت درج المكتب. وضعتها داخله، وقلبت بين أوراقي حتى عثرت على عقد العمل بيني وبين الوكالة.
استخرجته وقرأته بعناية عدة مرات مستعينا بالقاموس، ثم تأملته طويلا، وأخيرا أعدته إلى الدرج.
أبريل 2014
شكر واجب
للأصدقاء الذين دعموني بمودتهم وتكرموا بقراءة المخطوطة وتصحيح أخطائها وإبداء الملاحظات القيمة عليها:
المخرج السينمائي: «سمير نصر».
الشاعر: «حمزة قناوي».
الأديب: «علي الفارسي».
الأديب: «إيمان يحيى».
المصور الفوتوغرافي: «سيد مراد».
الروائي: «أحمد العايدي».
وكالعادة: «نادية محمد الجندي».
نامعلوم صفحہ