Benefits from the Farewell Sermon
فوائد من خطبة الوداع
اصناف
فوائد من خطبة الوداع [١]
تعتبر خطبة حجة الوداع من الخطب التي أرسى فيها النبي ﵊ معالم هذا الدين، وحدد لهذه الأمة هويتها وشخصيتها، وبين مميزاتها وخصائصها عن سائر الأمم الأخرى، فعظم شأن الدماء والأموال والأعراض، وأبطل كل ما هو من أمر الجاهلية، وأوصى بالنساء خيرًا، وأمر بالتمسك بكتاب الله ﷿، فإن به النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
1 / 1
دروس وعبر من خطبة حجة الوداع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
صعد النبي ﷺ في عام حجة الوداع ليحدد لهذه الأمة هويتها وشخصيتها، ويبين لها ميزتها على بقية الأمم، فقال في نمرة في هذا المسجد المبارك -ومسجد نمرة بعضه في أرض عرفات، وبعضه الآخر في نمرة- وصية جامعة، سمعه فيها (١١٤٠٠٠) من أصحابه ﵃ أجمعين، فكان مما قاله كما عند الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري ﵄: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وإنما دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، فإنه موضوع كله، وربا الجاهلية موضوع كله، وإن أول ربًا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه؛ فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، وإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنتي، وإنكم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: يا رسول الله! نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فأشار بالسبابة إلى السماء وهو يقول ثلاثًا: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد).
يستشهد الله ﷿ على أصحابه الذين شهدوا أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وهذه وصية جامعة من وصاياه ﷺ في آخر حياته في عام حجة الوداع، بين فيها شخصية هذه الأمة، ومعالم الطريق لهذه الأمة المباركة حتى لا تضل.
1 / 2
حرمة الدماء وعصمتها في الإسلام
بين في هذا الحديث أن الدماء حرام، وأن الأصل فيها العصمة، وليس فقط دماء المسلمين، وإنما دماء المعاهدين وأهل الكتاب وغيرهم من الوثنين والمشركين الذين بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، ما داموا يحافظون على هذا العهد ويعملون بمقتضى هذا الميثاق، فإن نقضوا العهد والميثاق صاروا محاربين، ووجب على إمام المسلمين أن يقاتلهم وأن يريق دماءهم، وهذه عزة الإسلام، ولذلك قال ﵊: (إن دماءكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)، أتعلمون أن هذا البلد حرام، وأن هذا الشهر حرام، وأن هذا اليوم حرام؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فكما تعلمون ذلك فيجب عليكم أن تعلموا أن الأصل في الدماء العصمة، وأن الأصل في الدماء الحرمة.
وقال النبي ﵊ مبينًا حرمة دم المعاهد فيما أخرجه البخاري في صحيحه: (من قتل معاهدًا -أي: في عهده، سواء من أهل الكتاب أو من غيرهم- لم يرح رائحة الجنة)، وقال ﵊: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منها (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، وروي عن عبد الله بن عمر كما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)، قال عبد الله بن عمر -وهو راوي هذا الحديث، وهو أفهم الناس له ولروايته-: إن من ورطات الأمور التي إذا دخل فيها العبد ربما لا يجد منها مخرجًا: إصابة دم بغير حق.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، وربما ضاق على العبد بقتل نفس بغير حق.
وقال النبي ﵊: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وقال ﵊: (من بدل دينه فاقتلوه)، فالأصل في الدماء الحرمة، وهي شهادة شرعية من النبي ﵊، ومن رب العزة قبل ذلك، حتى حرمة دماء الكافرين ما داموا يحترمون عهودهم ومواثيقهم، وما داموا يجنحون إلى السلم حقيقة لا زورًا ولا بهتانًا كما يفعله كفار هذا اليوم، فينادون بالسلام وهم أبعد الناس عن السلام، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ [الأنفال:٦١] أي: إن جنحوا هم مع الذل والصغار والهوان، ومع عزة الإسلام وارتفاع أهله، فحينئذ اجنحوا يا مسلمون إلى السلام ما دام أن أهل الكفر قد طلبوا ذلك منكم، إذ هو بمثابة طلب الأمان وحقن الدماء، فإن احترموا عهودهم ومواثيقهم فلهم ذلك، إلا أن يخونوا فلا نحترم لهم عهدًا ولا نوفي لهم بذمة حينئذ؛ لأنهم بدءوا بنقض العهد كما هو حال الأمم الكافرة من اليهود والنصارى، وأقولها بملء الفم: إن اليهود والنصارى في هذه الأيام أو في هذه الأعوام لا عهد لهم ولا ميثاق في شتى بقاع الأرض؛ لأنهم هنا وهناك ينقضون العهد ويقتلون الأبرياء والمدنيين من المسلمين، رجالًا ونساءً وأطفالًا وأجنة، فيبقرون البطون ويخرجون الأجنة ويقطعون رءوسها ويلعبون بها كما يلعب الصبيان بالكرة، وما يحدث في أيامنا هذه أعظم ناقض للعهد.
فهذه الدماء التي تراق في أفغانستان وفي فلسطين وفي الشيشان وفي بورما وفي كشمير وفي تايلاند وفي كل بلاد الإسلام والمسلمين لابد لها من ثمن، ولابد أن يدفع اليهود والنصارى ثمنها، إي والله، ولا خير فيكم إن لم تأخذوا بثأر إخوانكم، كما لا خير في حكومة تولت أمر المسلمين في بلد من البلدان أو في بقعة من البقاع ولم تأخذ على عاتقها رد كرامة وإهدار هذه الدماء، وهذا واجب على الشعوب كما هو واجب على الحكام جميعًا، وليس هناك حكومة شرعية ولا دولة إسلامية تحترم إلا إذا رفعت راية الجهاد، وأخذت بثأر إخواننا وأبنائنا ونسائنا وأطفالنا هنا وهناك، حتى يندحر العدو في بيته، وحتى يدفع الجزية عن يد وهو صاغر، ثم إن الإذعان والخضوع لله ﷿ لا يكون إلا برفع راية الجهاد، فإذا كانت دماء المسلمين حرامًا بين بعضهم مع البعض، فمن باب أولى أن تكون حرامًا على غير المسلمين، ولكنهم لا يطالبون في أرجح الأقوال بفروع الشريعة، فحينئذ فإن الغنيمة الباردة أن يريقوا دماء المسلمين، فمن المسئول عنها حينئذ؟! أهؤلاء الأطفال والنساء والأبرياء الذين لا حيلة لهم ولا قوة؟! إن المسئول عن ذلك بالدرجة الأولى هم حكام المسلمين؛ إذ إن هذه الدماء معلقة في رقابهم يوم القيامة يسألون عنها؛ لأنهم هم الذين قتلوها بسكوتهم عن هذا العدو الغاشم الظالم.
1 / 3
وجوب عودة أبناء الأمة الإسلامية إلى الله لتحقيق التمكين
ولذا لابد لهذه الأمة أن تعود إلى الله ﷿، وأن تدافع عن هذه الدماء، وأن تحمي هذه الشريعة، وأن تطبق حدود الله، وأن تحكم بشرع الله، بل لا عز لها ولا تمكين حتى تتكون هذه الأمة تكوينًا صحيحًا كما كون النبي ﵊ أمة الإسلام الأولى، فقد ظل ﵊ سنين طويلة يربي أصحابه على العقيدة الصحيحة؛ إذ لا عزة لهذه الأمة إلا بعقيدة سلفها رضي الله تعالى عنهم.
وعند ذلك فإن النصر آت لا محالة، وسيظهر دين الله لا محالة، ولذلك لما تلت عائشة ﵂ قول الله ﷿: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:٣٣]، قال النبي ﵊: (لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى.
قالت عائشة: يا رسول الله! لما تلوت هذه الآية ظننت أن الأمر قد تم.
فقال النبي ﵊: سيكون من ذلك ما شاء الله أن يكون).
وقال النبي ﵊ فيما أخرجه مسلم من حديث شداد بن أوس: (إن الله زوى لي الأرض) أي: جمعها وضمها، (فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها).
وفي مسند أحمد وسنن الدارمي أن النبي ﷺ قال: (لا تقوم الساعة -وفي رواية: لا ينقضي الليل والنهار- حتى يظهر الله تعالى هذا الدين ويدخله في كل بيت مدر ووبر) يعني: في بيوت الحضر والبدو، لابد أن يسمع بهذا الدين كل أحد.
قال ﵊: (حتى يدخل هذا الدين في كل بيت مدر ووبر بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله تعالى به الإسلام وذلًا يذل الله تعالى به الكفر).
هذا الدين لابد أن يظهر، ولا يظهر جزافًا ولا فجأة، بل لابد من العمل لإظهار هذا الدين، ولذلك بشارة عظيمة جدًا قالها النبي ﵊: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون فيكم خلافة راشدة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم إذا أراد الله أن يرفعها رفعها، ثم يكون ملك عاض، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم إذا شاء أن يرفعه رفعه، ثم يكون ملك جبري) وهذا هو الذي تمر به الأمة اليوم، إذ يتجبر الطغاة ويتسلطون على هذه الأمة، ثم قال: (ثم يكون ملك جبري فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم إذا شاء الله أن يرفعه رفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، ثم سكت النبي ﵊.
فهذا دليل على أن خلافة النبوة قادمة لا محالة، لكن لابد من العمل لها، ولابد من تهيئة الظروف والمناخ لهذه الخلافة الراشدة، ولا نركن لظهور المهدي أو ظهور الخليفة الراشد، وإنما لابد من العمل لهذه الخلافة الراشدة، بالدعوة إلى الله ﷿، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحياء فريضة الجهاد، ودحر العدو في بيته، والنبي ﵊ يقول: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، فيسمع العدو بجيش المسلمين على مسافة شهر كامل فينهزم نفسيًا، وأعظم الهزائم الهزيمة النفسية، فإذا انهزم الإنسان في نفسه فلابد أن ينهزم ماديًا، مهما بلغت قوته.
وقال الله ﷿: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال:٦٠]، فهذه رهبة للعدو، ونكر الله ﷿ (القوة) في سياق الأمر ليفيد العموم والشمول، فلابد من إعداد العدة حتى نبلغ أوج الدرجات وأعلى المراتب، قوة في السلاح وفي العدة والعتاد، قوة علمية وثقافية، قوة في التقدم، قوة في صناعة الطائرات والدبابات، قوة في شتى المجالات والميادين؛ إذ إن العدو لا يندحر إلا بذلك، مع الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب سنة من سنن الله الكونية، ولذلك أعظم الناس وأكرم الناس على الله هو نبينا ﷺ، وكان بإمكانه أن يدعو وهو في بيته فينصره الله ﷿، لكنه ﷺ علم السنن الكونية الربانية في الخلق، وأنه لابد من اتخاذ الأسباب، فكان يجهز الجيوش، ويحثهم على العبادة والطاعة، ثم ينطلق بهم وهو في أولهم لمقاتلة العدو، فإذا ما نزل بهم البأس، وحشرجت الصدور، وبلغت القلوب الحناجر، توجه النبي ﵊ إلى ربه رافعًا يديه إلى السماء، فيدعو الله تعالى أن يغيثه بجند من السماء، كما حصل في غزوة بدر، فقد سقط رداء النبي من عاتقه، فأخذه أبو بكر الصديق ﵁ فوضعه على عاتقه، وقال: يا رسول الله! والله لا يخزيك الله أبدًا، والله إن الله سينجز لك ما وعدك ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:٧]، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط
1 / 4
التكوين طريق إلى التمكين
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن حال المسلمين في كل مكان في قمة الحزن والأسف، والنهوض بهذه الأمة ليس من الأمر المستحيل كما أنه ليس بالأمر السهل، وطريق ذلك أن ترجع الأمة إلى ما كان عليه سلفها، إلى ما كانت عليه القرون الخيرية، في هذه القرون في عقيدتهم وعبادتهم وأخلاقهم وسلوكهم، لابد أن ترجع الأمة إلى ربها ودينها وشرعها، وإلا فهم والعدو سواء عند الله ﷿ نصرًا وهزيمة، ولا تنتصر هذه الأمة إلا بتقوى الله ﷿، ودون ذلك إن انتصر المسلمون مرة نصر الله عليهم العدو ألف مرة، فلابد من الرجوع إلى الله تعالى ولكتابه وسنة رسوله، ولابد لشرع الله أن يسود ولسنة النبي ﵊ أن تحكم هذه الجموع الغفيرة من أمة محمد ﵊.
قال العلماء: لابد لهذه الأمة أن تبدأ من الآن مرحلة التكوين حتى يأتي بعد ذلك مرحلة التمكين، وقد صنفوا في ذلك كتبًا كثيرة، منها: (دولة الإسلام بين التكوين والتمكين)، وأجمعوا جميعًا على لزوم مرحلة التكوين أولًا، وهذا مأخوذ من سيرة النبي ﷺ مع أصحابه، فقد كون العقيدة في قلوب أصحابه، ثم بعد ذلك انطلق ليبني الدولة في المدينة، ثم انطلق شرقًا وغربًا حتى اتسعت الفتوحات في زمن الخلفاء الراشدين لتشمل المعمورة كلها، فلما طغى الكفر والفسوق والعصيان على أهل الأرض جميعًا -إلا من رحم الله ﷿ انتفش الباطل وعلا بساقه فوق هامات الموحدين، حتى صارت أحذية ونعال الكافرين فوق هامات المؤمنين؛ لأنهم أخذوا بأسباب النصر وتخلفنا نحن عن أسباب النصر، وأسباب النصر -كما سمعت في الآية- بوعد الله تعالى الذي لا يتخلف: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [المائدة:٩]، فلابد من الإيمان وعمل الصالحات.
وغير ما آية قرن الله تعالى فيها العمل الصالح بالإيمان، ويحفظها الكبار والصغار، بل لو قلت لطفل: (إن الذين آمنوا) لأكمل لك: (وعملوا الصالحات) فالإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن الأعمال ما هو شرط صحة في الإيمان، ومنها ما هو شرط كمال، وضابط ذلك: نص، أو إجماع علماء السنة وأهل الإسلام، ومن قال بغير ذلك فهو من المبتدعة، أي: قال بغير ما قال به النبي، وبغير ما نطق به القرآن، فلابد أن تستكمل الأمة أركان الإيمان وشروط الإيمان ومستحبات الإيمان حتى يكتب لها النصر، وأن تعمل بمقتضى هذا الإيمان، وأن تجد وتسعى في النهوض بشأنها، وأن تعرف دورها الريادي في العالم كله، وأن الله تعالى قد كتب لها الخيرية فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:١١٠]، فذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان؛ لأنه السياج الذي يحيط بالإيمان ويحفظه من كل جوانبه، وأعظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجهاد في سبيل الله ﷿، إذ لا حياة لهذه الأمة إلا بإحياء هذه الفريضة، ولا عز لها إلا برفع راية الجهاد، وما دون ذلك خرط القتاد، فلابد لهذه الحكومات التي تولت أمر المسلمين أن ترفع هذه الراية، ثم إن الموت واحد والأسباب متعددة، فلم نضن على أنفسنا بموتة شريفة هنية في سبيل الله ﷿؟! ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة:١١١] فأعظم الإيمان وأعظم الجهاد: الجهاد بالنفس، والجهاد بالمال، وهما معًا أفضل الجهاد وأشرفه على الإطلاق، إلا أن يخرج رجل في سبيل الله بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء.
و(سئل النبي ﵊ عن أفضل الجهاد فقال: من أهريق دمه وعقر جواده)، فتبذل مالك، وتقدم نفسك لله رخيصة في سبيل الله لهو من أعظم الأبواب التي تؤدي إلى الجنة، وإن الذي يفهم الجهاد على أنه إراقة للدماء وتشريد وتقتيل وفقر وظنك لا يعرف حقيقة الجهاد، ولا صلة له بالإسلام وأهله ولا يعرف الكتاب العزيز، كما أنه لا علاقة له بسنة النبي ﵊.
أما الذين لهم علاقة قوية بالله تعالى فيتمنون أن يلقوا الله ﷿، فهذا واحد من أصحاب النبي ﵊ لما (قسم له النبي قسمًا من الغنائم قال: ما هذا يا رسول الله! والله ما على هذا اتبعتك، قال: فعلى ماذا اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أضرب هنا.
وأشار إلى حلقه، فقال النبي ﵊: إن تصدق الله يصدقك) فقامت المعركة فدخل هذا الرجل في ساحة الوغى فأصيب بسهم في نفس الموضع الذي أشار إليه، رجل صادق مع نفسه ومع ربه ومع دينه ونبيه وشرعه، وهذا هو الصدق مع الله، قال تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:١١٩]، وقال ﵊: (لن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة) صبروا وصدقوا، ﴿
1 / 5
فوائد من خطبة الوداع [٢]
لقد تضمنت خطبة حجة الوداع فوائد عظيمة، منها: تحريم الدماء والأموال والأعراض، والوصية بالنساء، والاستمساك بكتاب الله تعالى، كما أن من فقهها جواز القياس في الأحكام الشرعية.
2 / 1
فوائد من خطبة الوداع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:
2 / 2
جواز القياس
فإن موضوعنا هو خطبة النبي ﷺ التي خطبها بعرفة في عام حجة الوداع، والتي حدد فيها هوية هذه الأمة ومميزاتها وخصائصها، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر ﵁، أن النبي ﷺ قال: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد).
في مطلع هذا الحديث يتكلم ﵊ عن جواز القياس، وكأنه قال: كما أنكم تعلمون حرمة هذا اليوم، وحرمة هذا الشهر، وحرمة هذا البلد؛ فكذلك يجب عليكم أن تعلموا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم؛ لأنه ربما يجهل بعض الناس ذلك، فالذي يجهل حرمة الدماء أو حرمة الأموال أو حرمة الأعراض ينبغي عليه أن يعلم علمًا يقينيًا بحرمة هذا كما يعلم بحرمة الشهر واليوم والبلد، قال ﵊: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا).
فهذا نص في جواز استخدام القياس الذي أنكره الظاهرية وقال به جماهير العلماء، وهو الحق من أقوالهم.
2 / 3
حرمة الدماء في الإسلام
كذلك بين ﵊ حرمة الدماء، وقد تكلمنا عنها بما يغني ويكفي، لكننا نشير إشارة سريعة إلى أن الدماء مصونة في أصلها ومحرمة في مبدئها، ولا يجوز إهدارها إلا بحقها، وحقها قد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي ﵊، وذكرنا طرفًا من ذلك فيما مضى، ولأهمية الدماء قال النبي ﵊: (إن أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء).
وكأنه أشار إلى أن من نجا من هذا فهو لما بعده أنجى وإلا فلا، والدماء مصونة ليس فقط دم الغير من الاعتداء عليه، وإنما كذلك دم الذات والنفس، فلا يحل لأحد أن يقتل نفسه، ولذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي ﵊ قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه -أي: على سبيل الانتحار- فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن وجأ نفسه بحديدة -أي: طعن نفسه بحديدة- فقتل نفسه فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا).
فهذا النص محمول على الوعيد الشديد، وإن كان لا يكفر الفاعل لذلك إلا إذا استحل مع قيام الحجة عليه، فإذا أصر على ذلك كفر وخرج من الملة؛ لأنه في هذه الحالة كفر باستحلال ما حرمه الله ﷿ لا بمجرد قتل نفسه، لذا فالإنسان مسئول عن بدنه فيم أبلاه، كما قال ﵊: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟)، فأنت مسئول عن المال، ولذلك عطفه النبي ﵊ على الدماء فقال: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم)، ولأجل ذلك حد الإسلام الحدود، ولما حدها وبينها قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا﴾ [البقرة:٢٢٩]، فلا يحل لأحد قط مهما كان شأنه وبلوغ أمره أن يتعدى حدًا من حدود الله ﷿، لا بالشفاعة ولا بالزيادة فيه ولا بالنقصان منه إلا أن يموت المحدود في أثناء قيام الحد، فيجب أن يتوقف الضارب لمن كان محدودًا.
فإذا كنت تحده ثمانين جلدة فمات عند الثلاثين أو الأربعين أو أقل من ذلك أو أكثر فينبغي أن تمسك عن استمرار الحد، وبعض أهل العلم قال: يحد وإن مات، وهذا رأي شاذ ضعيف، فانظروا إلى حفاظ الإسلام على حرمة الآدمي، حتى وإن كان كافرًا فإنه لا يضرب بعد موته ولا يمثل به، ولذلك كان النبي ﵊ إذا أرسل سرية قال: (سيروا باسم الله على بركة الله ولا تمثلوا) أي: لا تقطعوا الجثة أجزاءً بعد موتها، ولا تقطعوا أطرافها وهي حية احترامًا للآدمي، بصرف النظر عن كونه مسلمًا أو غير مسلم، فلا تمثلوا ولا تغدروا ولا تغشوا، وكذلك كانت وصية الخلفاء الراشدين لسراياهم وجيوشهم التي كانوا يرسلونها لمقاتلة الأعداء، وهناك قوانين شرعية اكتسبت منها القوانين الدولية البعض وتعامت عن الكثير، لكن الإسلام رحمة عظيمة جدًا لأبنائه ولغير أبنائه، وكما قلت: هذه شهادة في الدماء والأموال والأعراض سجلها الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام للحفاظ على آدمية الآدمي وإنسانية الإنسان، وليس كما تفعله تلك القوانين الجائرة التي يسمونها مرة بقوانين العدالة، أو قوانين الديمقراطية أو غير ذلك، فكل هذا كذب وزور، وهم يعلمون أنهم كاذبون ومزورون، والذين ينعقون خلفهم يعلمون أنهم ينعقون خلف الكذبة والمزورين كذلك، إذ إن شرع الله تعالى حق كله ومصلحة كله، وحيث ما كان الحق والمصلحة فثم شرع الله ﷿، وما دون ذلك خرط القتاد، لذا لا يصح لأحد أن ينابذ بكتاب الله وبسنة النبي ﵊ قانونًا من تلك القوانين الأرضية السفلية، ومن رجح قانونًا أرضيًا على قانون السماء أو ساواه به فقد كفر بالله ﷿، وفارق ملة الإسلام، وانتقل منها إلى وحل الكفر والنكران والجحود، ومصيره يوم القيامة الخلود في نار جهنم مع فرعون وهامان.
فشرع الله تعالى مصلحة كله، سواء كان هذا الشرع للمسلمين أو لغير المسلمين، والصادقون مع أنفسهم من أهل الكتاب يعلمون تلك الحقائق من دين الله ﷿، ولذلك نجدهم أحيانًا يثنون على دين محمد ﵊، فهم اتصفوا بالعدل في بعض القول لا في كل القول، وإلا فالأصل أن صدورهم قد امتلأت غلًا وحقدًا وحسدًا على الإسلام وأهله، قال تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء:٨٩]، وقال: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [البقرة:١٢٠]، فدين الله تعالى هدىً كله، أما القوة اللازمة لأهل الإسلام فهي قوة في قمة اليسر والسهولة، ولو أن كل مسلم أدى ما عليه لله ﷿ ولرسوله الكريم
2 / 4
مسئولية الحكام تجاه المسلمين
قوله: (حرام عليكم) أي: أن الدماء والأقوال حرام كلها إلا ما أحله الله تعالى ورسوله، ومن باب أولى حرام على غيركم، فإذا اعتدى الغير على دمائكم وأموالكم وأعراضكم فيجب عليكم وجوبًا شرعيًا أن تنفروا جميعًا أو أشتاتًا لدفع هذا الظلم وهذا العدوان، حكامًا ومحكومين، والمسئولية بالدرجة الأولى لحماية الإسلام وبلاد الإسلام وشريعة الإسلام إنما هي على الحكام، وإلا فلماذا عينوا حكامًا؟! ولماذا تولوا ولاية الإسلام؟! إنهم في هذه المناصب وتلك الأبهات والكراسي، وهذه الصولات والجولات للدفاع والذود عن حياض الإسلام والحفاظ عليه من كل اعتداء في الداخل والخارج، فما بالنا في هذه الأيام نجد من الاعتداءات على كفاءات الإسلام وعلى قدرات المسلمين في الداخل أكثر منها في الخارج؟! فهؤلاء الكتاب والصحفيون والسفلة من علية القوم بضاعتهم الطعن في دين الله ﷿، وتقييد القدرات، مع أنه لا تفلح أمة قط ينال من أبنائها، وما سمعنا أن حكومة اليهود قتلت أبناءها أو سجنت أبناءها، بل إن طلبة العلم من اليهود لهم ميزة خاصة على شعب اليهود عامة، ولا أقول: العلماء فيهم، وإنما طلبة العلم الذين يلبسون تلك القلنسوات السوداء على جانب من قرن رءوسهم، فمن خصائصهم وميزاتهم أنهم لا يحملون حقائبهم، وإنما يعين لهم من يحمل حقائبهم، ويعين لهم من يحمل نعالهم إذا خلعوها، ولذلك لما تزيا طالب فلسطيني بتلك القلنسوة وحمل شنطة في يده بها متفجرات أيقنوا أنه ليس يهوديًا؛ لأنه لو كان يهوديًا لكان معه من يحمل له الحقيبة، فقبضوا عليه فانفجرت الحقيبة به وبمن قبض عليه.
والشاهد من هذا أن أهل العلم لهم منزلة ومكانة، وما سمعنا بأمة من أمم الكفر قبضت أو سجنت أو اعتقلت هذه الكفاءات عندها، فما بالنا قد وصل بنا الحال إلى هذا الحضيض والدون؟! اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم أرجعهم إلى منابرهم أقوى مما كانوا، اللهم أرجعهم إلى منابرهم أقوى مما كانوا، اللهم أرجعهم إلى منابرهم أقوى مما كانوا، اللهم كن للمجاهدين في شرق الأرض وغربها، اللهم كن للمجاهدين في شرق الأرض وغربها، اللهم كن للمجاهدين في شرق الأرض وغربها، اللهم أمدهم بمدد من عندك، وأنزل عليهم جندًا من جندك، اللهم انصرهم وثبتهم على النصر يا رب العالمين، اللهم انصرهم وثبتهم على النصر يا رب العالمين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
2 / 5
إبطال كل ما هو من أمر الجاهلية
ثم يقول النبي ﵊ بنبرة استعلاء المؤمن بإيمانه على هذا الواقع الباطل: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، فانظروا إلى هذه النظرة الاستعلائية على كل شيء من أخلاق الجاهلية، وصفات الجاهلية، وأعراف الجاهلية، وأحكام الجاهلية، ومنها: أن رجلًا من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار من خلفه فوقع على الأرض، فقام الأنصاري وقال: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! أخذًا بأعراف الجاهلية: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) على ظاهر النص.
فلما اجتمع الصفان وكادا أن يلتحما خرج إليهما النبي ﷺ وهو يمشي مطأطئ الرأس، فقال: (دعوها فإنها منتنة)، فانصرف المهاجرون إلى رحالهم والأنصار إلى رحالهم عملًا بقول النبي ﵊، وامتثالًا لأمره ﵊، وانتهت هذه الدعوى الجاهلية.
وكذلك لما عير أبو ذر بلالًا بأمه فقال له: يا ابن السوداء! فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: (يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، قال: أو على حين ساعة يا رسول الله! -أي: بعد هذا العمر في الإسلام والإيمان والعمل الصالح- قال: نعم، إنك امرؤ فيك جاهلية).
وبوب البخاري لهذا الحديث بقوله: المعاصي من أمر الجاهلية.
ولذلك كل من فيه معصية واحدة ففيه خلق من أخلاق الجاهلية، وإذا كان اثنتان فاثنتان، وعشر فعشر، ومن شاء أن يستزيد زاد، ومن شاء أن يستقل استقل، ففي كل منا أخلاق الجاهلية على قدر ما فيه من المعاصي التي حرمها الله علينا الله تعالى ورسوله الكريم ﷺ.
وقال النبي ﵊ فيما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية -يعني: أخلاق الجاهلية- وفخرها بالآباء؛ مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس لآدم وآدم من تراب، وليدعن أقوام فخرهم بآبائهم إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها).
فإما أن تدع أخلاق الجاهلية وإما أن تكون عند الله أهون وأحقر من تلك الحشرات التي تدفع النتن بأنفها، فتكون هذه الحشرات أكرم على الله ﷿ منك أيها العاصي والمنافق والكافر والمعاند لربك.
فهذا حكم من عاند الله تعالى ورسوله، ومن جحد دين الله، وجحد شرع الله، قال النبي ﵊: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، والنائحة إن لم تتب قبل موتها أتت وعليها سربال من قطران ودرع من جرب).
وقال النبي ﵊: (ليس منا من غير منار الأرض، ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، يعني: أفسدها على زوجها، وغير ذلك من أقواله: ليس منا، ليس منا، ليس منا، وكذلك قوله: من فعل كذا فأنا منه بريء، من فعل كذا فقد خرج من ذمة الله، وغير ذلك من النصوص الوعيدية التي تدل على أن الجرم كبيرة من الكبائر، وأن المجرم والفاعل لذلك يجب عليه أن يتوب إلى الله، أو يقام عليه الحد إن استوجب فعله الحد، أو أنه في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
ثم يبين النبي ﷺ القدوة من نفسه لهذه الأمة المباركة، حتى لا يقول أحد: لم يأمرنا النبي بفعل شيء ولا يفعله، أو ينهانا عن شيء ويأتيه؟ كما جاء في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد ﵁، أن النبي ﷺ قال: (يلقى بالرجل في نار جهنم فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه الناس فيقولون: يا فلان ما بالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، فهذا جزاؤه وإن كان عالمًا، وإن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلا أنه استوجب النار بتركه العمل بما علم، وكذلك يمكن للمرء أن يكون عالمًا عاملًا بما يعلم، لكنه ليس مخلصًا، فيكون جزاؤه النار كذلك.
ولذا قال ﵊: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة، وعدَّ: المجاهد والعالم والجواد)؛ لأنهم ما فعلوا ذلك، وما عملوا بما علموا إلا ابتغاء مدحة الناس، أما لو مدح المخلصون بغير طلب منهم ولا سعادة بذلك ولا انتظار لذلك فهذا من عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا، بينما الإنسان الذي لا يعمل العمل إلا لأجل مدحة الناس وثناء الناس عليه فإن هذا قد أهلك نفسه بنفسه، ثم يقول النبي ﵊: (أبغض الناس إلى الله من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية)، أي: أبغض الناس إلى الله من حكم في المسلمين شرعًا غير شرع الله، كأن يحملهم على أحكام وقوانين أوروبا وأمريكا، فهذا لا ينفع المسلمين ولا ينفع بلاد الإسلام، وإن ينفع فر
2 / 6
إبطال الإسلام للربا
وكذلك الربا موضوع كله، فلا يحل لأحد أن يطالب به بعد الإسلام فيقول: هذا حقي الثابت لي قبل الإسلام.
لا، ليس حقًا لك، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم:٣٩]، أي: الذين يضاعف لهم الثواب، وقال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة:٢٧٦]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ [البقرة:٢٧٨ - ٢٧٩] أي: أصول الأموال، ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٧٩].
فهذا هو دين الله، ولذلك قال النبي ﵊: (درهم ربًا يأكله الرجل وهو يعلم -أي: أنه ربا- أشد عند الله من ست وثلاثين زنية)، وقال ﵊: (الربا اثنان وسبعون حوبًا، أيسره كالذي ينكح أمه في الإسلام)، وقال ﵊: (الربا اثنان وسبعون بابًا أدناه كالذي يزني بأمه في الإسلام).
ولست بذلك أهون من شأن الزنا، وإنما أشدد في أمر الربا، وهكذا تحمل هذه الزواجر وهذه النواهي على المزيد في المبالغة في الزجر والوعيد والتهديد، لا التهوين من شأن المضروب به المثل، ولذلك قال النبي ﵊: (ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا عمهم الله بعذاب)، أي: الصالح والطالح، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال:٢٥]، وإنما تصيب العامة ويبعث الناس على نياتهم.
لذا أقول: إن الربا قد دخل في كل بيت، بل للربا فتاوى رسمية وعمائم تبدو تارة حمراء، وتارة زرقاء، وتارة خضراء، فيزينون لهم القبيح ويحلون لهم الحرام! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله لديننا، حسبنا الله في نبينا، حسبنا الله لشرع نبينا، حسبنا الله للحلال والحرام الذي ضاع في هذا الزمان على أيدي أناس من أبنائنا، يتكلمون بألسنتنا، ويدينون بديننا، وينهجون غير نهج سلفنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
2 / 7
الوصية بالنساء
ثم قال ﵊: (واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، قال الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء:١٩]، وقال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:٢٢٨]، وقال النبي ﵊: (النساء شقائق الرجال) في كل شيء، إلا في شيء خص الله به النساء أو خص الله به الرجال، أما تلك الدعوة المسعورة هنا وهناك بالتسوية والمساواة بين الرجل والمرأة، فهل يستطيعون أن يسووا بين الرجل والمرأة في الحمل والنفاس والرضاع والجهاد وغير ذلك من أحكام الرجال؟! يجب على هذه الألسن أن تخرس، وهذه الأقلام أن تكسر، فهذا هو دين الله، فإما أن تكسر هذه الأقلام وتخرس هذه الألسنة بالأدب وبالذوق وبسحب النائم كما يقولون، وإما أن تكسر بالقوة والشكيمة، إن لم يكن في الدنيا فلا أقل من أن يكون ذلك في الآخرة، فيقذفهم الله تعالى في نار جهنم غير مبال بهم.
إن هؤلاء الذين يحاربون دينه بالليل والنهار حتى لا يكاد يجد الدعاة إلى الله وأهل العلم فرصة لتعليم الناس أمر دينهم، بل أصبحت معظم هذه الدعوة إلى الله ما هي إلا ردود أفعال، وردودًا على الشبهات، وما صرنا نتفرغ لتعليم الناس أمر دينهم، وما يكاد يمر يوم علينا إلا وتطرح شبهات وشبهات تحتاج إلى رد لعصمة الناس وحماية الناس وحفظ الناس من الاندراج في هذه الشبهات وتلك الأهواء والآراء، وما صرنا نجد وقتًا لطلب العلم أو لتعليم الناس، فأرهقونا وأنهكوا قوانا، والسبب في ذلك غياب الحارس، إذ لو كان الحارس قائمًا بأمر الله لأخرست تلك الألسنة، وكسرت تلك الأسنة والرماح الباطلة.
وقال: (فاتقوا الله في النساء)، وانظروا إلى كلمة: (اتقوا الله)، فالمؤمن التقي يقف عند هذا التنبيه، ويعلم أنه قادم على النار إن ظلم؛ إذ التقوى: أن تتقي عذاب الله، وأن تتقي نار الله، لذا فهم السلف ذلك ففازوا ونجوا، فهذا عمر ﵁ عندما يكون في ثورة غضبه إذا قيل له: اتق الله يا عمر وقف وربما بكى؛ لأنه يعلم من هو الله، ويعلم من يتقي وماذا يتقي؟ بينما الواحد منا يأخذ هذه الكلمة بسخرية ضحك ولعب واستهزاء، وهي كلمة عظيمة ينبغي أن يتوقف عندها البدن ويخشع لها القلب ويذل وينكسر.
قال: (فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم)، أي: أسيرات عندكم، ولذلك قال ﵊: (علام يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من الليل؟!)، وقال ﵊: (علام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة، فلعله يطلبها من الليل؟!)، فأنا لا أتصور رجلًا صالحًا مؤمنًا تقيًا يتقي الله في نفسه ويضرب امرأته بالنهار ثم يطلبها للفراش بالليل، إن هذا ليس من شأن الحيوانات والله، فضلًا أن يكون هذا من شأن الآدمي أو المسلم أو المؤمن التقي.
قال: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
قوله: (بكلمة الله) أي: بالإيجاب والقبول، قال تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء:٣]، فهذه امرأة طيبة طابت لك، وطيبها الله ﵎ لك، فلا تكن أنت فتنة لها وسببًا في بعدها عن دينها.
ولكم عليهن ألا يدخلن بيوتكم من محارمهن أحدًا، لا من الرجال ولا من النساء إذا علمت صراحة أو ضمنًا أنك تكره هذا الشخص أو تكره تلك المرأة، وإن كان من محارمها فإنه لا يحل لها أن تدخله إلا برضًا منك، وإلا فهذا من المحرمات عليها (ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه) ومن حمل ذلك على الأجانب فقد أخطأ خطأً فادحًا؛ لأن المرأة لا يحل لها أن تدخل أحدًا من الأجانب حتى وإن رضي زوجها بذلك، هذا من المحرمات وعلى ذلك الإجماع انعقد.
قال: (فإن فعلن ذلك) وخالفن ما تحبون وما تكرهون (فاضربوهن ضربًا غير مبرح)، والتبريح ورد في رواية عند أبي داود: ألا تشق رأسًا وألا تكسر عظمًا.
وإنما ضرب للتأديب كما كان النبي ﵊ يفعله مع عائشة أو غيرها، فيضربها بسواكه أو ينهزها بيمينه، قالت عائشة: (نهزني النبي ﵊ في جنبي أو في منكبي نهزة أوجعتني) نهزة يسيرة، فما بالك بمن يجلد امرأته كما لو كانت قد ارتكبت حدًا من الحدود؟! نستغفر الله تعالى مما كان، ونستغفر الله تعالى جميعًا مما كان، ونعاهد الله تعالى جميعًا أن نحسن فيما بقي من أعمارنا رجالًا ونساءً.
قال: (اتقوا الله في النساء)، (فأيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)، وقال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها يوم القيامة
2 / 8
الوصية بالتمسك بكتاب الله ﷿
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فقال ﵊: (وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي).
إن كتاب الله دستور -إن صح اللفظ والمصطلح- لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واعقد مقارنة بين كتاب الله وبين حثالة عقول البشر منذ أن أرسل الله تعالى رسوله إلى قيام الساعة أو إلى ساعتنا هذه، فلا تجد قانونًا من القوانين الأرضية لا يمر عليه عام إلا ويبدل أو يغير أو يحذف منه أو يزاد عليه أو يثبت بطلانه أو غير ذلك، فهل تجدون شيئًا من ذلك في كتاب الله؟! حاشا وكلا، فكلام اللطيف الخبير الذي خلق الخلق، وهو أعلم بما يصلحهم وما يضرهم، فأمرهم بالتمسك بهذا الكتاب، قال ﵊: (كتاب الله هو حبله المتين، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به، وعليكم بسنتي).
وانظروا أيضًا إلى الوصية الجامعة كما عند الترمذي وأبي داود بسند صحيح عن العرباض بن سارية ﵁ أنه قال: (وعظنا النبي ﷺ موعظة بليغة -ذات غداة- ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! لعلها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة -لأهل العلم والأمراء ما داموا موحدين- وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) فقد أمرنا بتقوى الله، والسمع والطاعة لمن أمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر من السلاطين والحكام والأمراء والعلماء، ثم بين النبي ﵊ أنه ربما يكون هناك من السلاطين عبيد، مع أن العبد لا يتولى إمرة الحر، لكن النبي ﵊ يضرب أسوأ الفروض ويمثل بها، وفي هذه الحالة يجب السمع له والطاعة من باب حقن الدماء، ولذلك قال: (فاسمعوا له وأطيعوا)، ثم قال: (وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، فيه حض وحث وأمر، ثم يأتي الشق الثاني من النصيحة مشتملًا على التحذير فيقول: (وإياكم ومحدثات الأمور)، أي: البدع والأهواء المضلة والفتن المتلاحقة، (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، نعم، فلا يستقيم الأمر إلا بالتقرب إلى الله بأخذ ما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، وهذا هو دين الله ﷿، وهذا هو الحلال والحرام، وأعظم ذلك العقيدة الصحيحة التي كان عليها السلف، أما رأيتم أن أهل البدع إذا ما وجدوا أحدًا يكفرونه أو يفسقونه أو يضللونه استداروا على أنفسهم فكفروا أنفسهم؟! لأن أخلاقهم قد جرت على التكفير والتفسيق والتبديع بغير حق، أما أهل السنة والجماعة فلا يكفرون إلا من استحق التكفير بعد توافر الشروط وانتفاء الموانع، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو ما يشهد به القرآن والسنة، أما غيرهم فيأتون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وهذه ميزة أساسية تميز أهل البدع عن غيرهم، إذ إنهم يسبون ويشتمون أهل السنة والجماعة؛ ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل يسب أهل الحديث فاعلم أنه زنديق.
لأن أهل الحديث هم الطائفة المنصورة التي قال فيها النبي ﵊: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
ولما سئل الإمام أحمد عن تلك الطائفة المنصورة الظاهرة قال: إن لم يكن هم أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟ وعليه فإذا رأيت الرجل يقع في أهل العلم وفي أهل السنة والجماعة فاعلم أنه على غير الهدى المستقيم، وأنه على غير صراط النبي ﵊.
لذا نجد في بلاد الحجاز من يسب العلماء وطلاب العلم، كما نجد في مصر من يسب أهل العلم وطلاب العلم، ويزعمون أنهم هم السلفيون، فأي سلفية هذه؟! وأي دين هذا؟! وأي أخلاق هذه التي تبيح لهم السباب؟! والعجب أنهم يطلقون على أنفسهم علماء الجرح والتعديل، وفي الحقيقة هم -والله- علماء السباب والشتائم والجرح وليسوا من أهل التعديل، بل إنهم من ساقطي العدالة، فلا وزن لهم ولا كرامة حتى يرجعوا إلى عقيدة ومنهج السلف في الآداب والأخلاق، لذا فإن الذي يتقرب إلى الله بسب أهل العلم وشتمهم، في الوقت الذي يثني فيه على أهل الباطل وأهل الفساد إنما هو على دين أهل البدع والأهواء، ومن قال بغير ذلك فهو ملحوق بهم تابع لهم، وإني أدعو هؤلاء جميعًا، سواء في اليمن أو في مصر أو في بلاد الحجاز، وإن شئت فقل: في أمريكا وأوروبا؛ لأن تلاميذهم قد انتشروا انتشار النار في الهشيم، والبدعة سهلة على القلوب، والسنة ثقيلة على القلوب؛ لأنها تكليف بشيء ثقيل، ولذلك سمى الله تعالى التكاليف الشرعية والأحكام الشرعية تكاليف فقال: ﴿لا يُكَلِّفُ
2 / 9
فوائد من خطبة الوداع [٣]
لقد بين النبي ﷺ في خطبة حجة الوداع جملًا عظيمة من مهمات التشريع، فقد عظم فيها ﷺ جناب الدماء والأموال، ووضع فيها أمور الجاهلية وأخلاقها تحت قدميه.
3 / 1
الدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: إخوتي الكرام الأعزاء! في العام التاسع الهجري أرسى النبي ﷺ قواعد هذه الأمة المباركة في حجته المشهورة حجة الوداع، هذه الحجة التي لم يحج غيرها ﵊، كما أخبر جابر بن عبد الله ﵄ فيما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الحج: أن النبي ﷺ خرج بهم من المدينة للحج، فأخبرهم وأعلمهم، بل رأوه عيانًا في مناسك الحج، ومن بين هذه المناسك: أن النبي ﵊ لما أتى بطن وادي عرنة -وهو ليس من عرفة على الراجح- صعد فخطب خطبة عصماء بين فيها هوية هذه الأمة، وأنها تختلف عن بقية الأمم، فقد أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح أن النبي ﵊ قال: (كونوا كأنكم شامة بين الناس)، أي: علامة ظاهرة، هذه الأمة لها شخصيتها التي تختلف عن بقية الشخصيات، ولها هويتها التي تختلف عن بقية الهويات، ولها سمتها التي تختلف عن بقية السمات، قال النبي ﵊: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب -عم النبي ﷺ فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد)، أي: أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وهذه من آخر وصايا النبي ﵊، وهذا الحديث فيه من الفوائد والشواهد والفرائد الشيء الكثير، ويكفي أنه كان نصيحة عامة حضرها الألوف المؤلفة ممن حج مع النبي ﵊، وسمعت بها الأمة بأسرها، أقصاها وأدناها، قريبها وبعيدها، لكن من عمل بها؟
3 / 2
تعظيم شأن الدماء وجرم إراقتها بغير حق
إن النبي ﵊ (سأل الناس في يوم النحر فقال: في أي يوم أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ظنًا منهم أنه سيسميه بغير اسمه، وإلا فمن يخفى عليه ذلك اليوم؟! ثم قال لهم: في أي شهر أنتم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ظنا منهم أيضًا أنه سيسميه بغير اسمه، وإلا فمن يخفى عليه أن الحج في أشهر الحج؟! ثم قال: في أي بلد أنتم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، ومن يخفى عليه أنه في ذلك اليوم في منى أو في مكة المكرمة؟! ولكنه الأدب بين يدي النبي ﵊ أنهم ينسبون العلم إلى الله ﷿ وإلى رسوله، ثم قال: ألستم في بلد الله الحرام؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أليس هذا يوم النحر؟ أليس هذا شهر ذي الحجة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا).
أي: لما كانت الحرمة لهذا اليوم ولهذا الشهر ولهذا البلد مستقرة في نفوس العباد جميعًا -حتى قبل مبعث النبي ﵊ أراد النبي ﵊ أن يلحق بهذا المعلوم يقينًا، ربما كان مجهولًا لدى البعض في الدماء والأموال، وكأنه قال: كما أنكم تعلمون أن هذا اليوم حرام، وأن هذا الشهر حرام، وأن هذا البلد حرام؛ فإن دماءكم حرام عليكم، أي: أن الدماء لا بد أن تحفظ، ولا بد أن تصان، لكن لو نظرنا إلى دماء المسلمين لوجدنا أنها تراق في أنحاء كثيرة من العالم، وأن الذي ينظر إلى خريطة العالم الآن لا بد أن يجد البقعة الإسلامية فحسب ملتهبة مشتعلة دامية، على أيدي اليهود والنصارى ومن عاونهم ممن كلفهم الله ﷿ في بلاد المسلمين بحفظ الدماء عامة، وممن يدور على مائدة اتفق عليها اللئام في الداخل والخارج، لذا لو نظرت مثلًا إلى اليهود والنصارى في أمريكا -بل في العالم أجمع- لوجدت أن أمنيتهم واحدة بمجرد أن ظهر البترول في السعودية، وهي: أن نبني لهم قواعد عسكرية في وسط بقعة الخليج العربي، لكن ردهم فيصل عليه رحمة الله، وردهم خالد ﵀، وسعى القاصي والداني في إبعادهم وعدم الاستجابة لمطالبهم، مع أنهم كانوا يبذلون المال لدول العرب من أجل الحصول على قواعد عسكرية، وقواعد للطيران في أرض الجزيرة، فلما لم يفلحوا يمنة ولا يسرة لعبوا لعبة خبيثة، فلم يجدوا في المنطقة العربية أخبث ولا أنكى من ذلك الطاغية صدام حسين قصمه الله ﷿ بقدرته، فاتفقوا معه على تلك المسرحية التي يسمع بها كل إنسان الآن، مع أن أمريكا غير عاجزة عن أن تبعد صدام من حكم بلاده بعد أن نشرت تفصيلًا دقيقًا عن ملابسه الداخلية، لكنه الورقة الرابحة لها، ووجوده ضرورة حتمية لأجل بقائهم في هذه البلاد، والجنود يأتيهم الطعام من دول أوروبا وأمريكا، في الوقت الذي لا يجد أي جيش من جيوش العرب لقمة العيش، بل يعيش على ما دون الكفاف.
إذًا: وجود صدام كان لقمة سائغة وغنيمة باردة، وهذه المسرحية مكشوفة وأكذوبة مفضوحة لا تنطلي على أهل البصائر بإذن الله، وصدام حسين ليس حامي الحمى، وهو الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، لكن من أحصاها دخل النار، بخلاف الجبار ﵎ الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وانظروا إلى ما فعله صدام، لا أقول: بجيش العراق، ولا بشعب العراق الذي جوعه وأعراه وأنهكه في عقر داره، وإنما تعدى شره للشعب المسلم السني، أعني: شعب الأكراد، فسحقه سحقًا وسحله سحلًا، تارة بالكيماوي، وتارة بالدبابات، فكيف يؤتمن هذا على دين الله؟! بل كيف يؤتمن هذا على حزمة بقل؟! وانظروا -يا معشر الكرام- إلى شعب كوسوفا أو شعب البوسنة أو شعب فلسطين، إذ كل يوم نسمع عن دماء تراق بالمئات والألوف، وعلى مرأى من أسماع وأعين المسئولين وغير المسئولين ولا مجيب ولا أحد يتحرك، وكأن هذا الذي قتل أو أريق دمه ليس منا ولسنا منه، فهل لأننا نفهم القضية جيدًا؟ أبدًا، أم هل لأننا نخاف عدونا؟ نعم، والله نخافه؛ لأننا لا نخشى الله ﷿، ولأننا حرصنا على الدنيا، فهذه الملايين المملينة التي وضعت في تلك البنوك الغربية والشرقية أعظم عند أصحابها من إراقة دماء الأمة بأسرها.
قال النبي ﵊ فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود ﵁: (إن أول ما يقضى بين العباد يوم القيامة في الدماء)، أي: أول قضاء يقضى بين يدي الله ﷿ هو في فصل الدماء، ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قول النبي ﵊ (إن أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة)، فإن هذا حساب مخصوص لكل شخص، أما القضاء وفصل النزاع بين الناس فإنه يبدأ بالدماء أولًا، ويقول النبي ﵊ فيما رواه الشيخان أيضًا من حديث أبي هريرة ﵁: (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات التي تؤدي بأصحابه
3 / 3
حرمة قتل المسلم نفسه
كما أنه ليس للمسلم أن يقتل نفسه ويقول: أنا حر في بدني أفعل به ما أشاء، والدليل على ذلك: ما رواه مسلم أن النبي ﷺ قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًا -أي: شرب سمًا ليقتل نفسه، وما أكثرهم- فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها)، أي: يضرب بها بطنة في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا.
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: (من قتل نفسه بشيء عذبه الله ﵎ بما قتل به نفسه)؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وامتنع النبي ﵊ عن أن يصلي على من قتل نفسه، وليس كفرًا، وإنما زجرًا للأحياء أن يعملوا بعمله، أو أن يهتدوا بهديه ويستنوا بسنته، و(أخبر النبي ﵊ في غزوة من غزواته عن رجل لم يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا تبعها وقتلها، فقال الصحابة ﵃: والله ما نرى فلانًا إلا من أهل الجنة، فقال النبي ﵊: هو من أهل النار، ففزع الصحابة فزعًا شديدًا، حتى قال أحدهم: لأتبعنه.
فسار خلفه، فإذا وقف وقف، وإذا أقدم أقدم، حتى أصيب ذلك الرجل بسهم لم يقض عليه، فوضع ذبابة سيفه على صدره واتكأ عليه حتى خرج من ظهره فمات، فعاد الرجل إلى النبي ﵊ فقال: يا رسول الله! إن الرجل الذي قلنا عنه كذا وقلت عنه كذا قد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي ﵊: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
3 / 4
مسئولية الحكام تجاه الدماء التي تراق في بلاد المسلمين
وأقول: إن هذه الدماء التي تراق في بلاد المسلمين، وهذه الشعوب التي تباد بأسرها ليست من شأن الأفراد، فالله ﷿ لا يحاسب الفرد لم ترك المسلمين يموتون ويقتلون وتبقر بطون الحبالى في كوسوفا أو في البوسنة أو في فلسطين أو في كشمير أو غيرها؟ وإنما سيسأل الحكام عن ذلك؛ لأن هذه مسئوليتهم، ولا فكاك لهم أمام الله ﷿ إلا أن يرفعوا راية الجهاد، ولو رفعوها حتى كذبًا لاندحر العدو في بيته، وصدق النبي ﵊ حين قال: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، فلو أن العدو سمع بجيش المسلمين الذي يبعد عنه مسيرة شهر لانهزم نفسيًا في عقر داره؛ لأنه يعلم أن المجاهد حقًا إنما أراد إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، إما النصر في الدنيا والغنيمة، والعيش غنيًا بعد أن كان فقيرًا، وإما أن يعيش في غنىً دائم في جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فالعدو يعرف هذا، وكثير من المسلمين -للأسف- لا يدركون هذه الحقيقة، أما دماء المسلمين في الداخل فالمسئول عنها جهات متعددة، فقد يدخل فيها الأفراد؛ لأن الأفراد تمتد أيديهم كذلك بالقتل، ولا نعدم صحيفة أو مجلة كل يوم إلا وفيها: أن فلانًا قتل أباه يتعجل الميراث، أو أن فلانًا قتل أمه، وامرأة قتلت زوجها، وزوجًا قتل امرأته، مع أن ذلك كله ليس من أخلاق أهل الإسلام.
3 / 5
بيان جرم العبث بأموال المسلمين
قال ﵊: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم)، فحرام تبذير وإسراف المال، ووضعه في غير موضعه، وحيازته من غير طريق شرعي، وإنفاقه في غير ما أمر الله، وحرام نهب أموال المسلمين جميعًا وعلى رأسها أموال البترول التي هي ملك للأمة جميعًا، لقد أخذوا بضاعتنا وتفاخروا علينا بعد ذلك بمدنيتهم وحضارتهم، ونسي هؤلاء أنه لولا نحن ما كانوا هم، وكان بإمكاننا أن نمنع عنهم البترول، لكن تلك العقول السخيفة التي عاشت لنفسها ولشهواتها تأنف أن تستثمر أموالها في بلاد المسلمين، وإنما تستثمرها في أمريكا أو في سويسرا أو في أي بنك ربوي من بنوك العالم الغربي، ولو نظرتم إلى تلك الحرب المصطنعة التي نشبت في أرض الجزيرة في التسعين على يد الغاشم المجرم صدام حسين، واعتدائه على العزل والأرامل، بل والمرفهين والمترفين في الكويت، لوجدتم في أعقاب ذلك -بل في أثناء الحرب- أن رجلًا من الكويت سافر إلى بريطانيا وتصدق بعشرة ملايين دولار لحديقة حيوانات في لندن! فأي نصر نرجو؟! وأي تأييد وتمكين ننتظر إذا كانت العقول هكذا؟! قال النبي ﵊: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، إن بعض المسلمين اليوم أصيب بتخمة عظيمة جدًا من كثرة المال لا علاج لها، وإن كثيرًا من المسلمين أصيب بضعف وهزال وأنيميا لا علاج لها قط، مع أن هذا من فرائض الإسلام، والنبي ﵊ لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال: (يا معاذ! إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله ﷿ فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله ﷿ افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) فأين الأغنياء؟ بل أين الأثرياء؟ أين أصحاب الملايين والمليارات؟ أين هم من اليتامى والمساكين والأرامل وذي الحاجة وابن السبيل؟ أيعيشون في غفلة؟ أم أنهم أفقه من النبي ﵊؟! أم أنهم يردون ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله؟! فليختاروا لأنفسهم أي ذلك شاءوا، فإنهم معرضون وبعيدون عن الله ﷿، لا تزول أقدامهم في موطن الحساب إلى الجنة إلا أن يأتوا بين يدي الله ﷿ بجواب سديد، فليختاروا لأنفسهم ما شاءوا.
3 / 6