ومضى إلى المضمار بنشاط متجدد. استقل سيارة فبدأ الرحلة المكهربة. اندفعت السيارة بقوتها الذاتية، ولم يكن عليه إلا أن يوجهها بعجلة القيادة، متفاديا إذا شاء السيارات التي تجول حوله كالكواكب. ووقعت ارتطامات عن قصد أو عن عجز، فاستمتع بالهجوم وبالهروب على السواء، حتى رأى سيارة تحمل فتاة قد تكالبت عليها السيارات ناطحة، والفتاة لا تني تضحك. عند ذاك دب فيه حماس جديد فاستجد لجولته معنى، وطارد سيارة الفتاة والشرر يتطاير من عجلات سيارته. وبدا عسيرا أن يستخلصها لنفسه من المتنافسين، ولكنه احتك بها مرة، والتحم بها أخرى في عناد فدارا معا حول أنفسهما حتى ألقت به سيارة متحدية بعيدا. وكان عليه أن يدور دورة كبيرة قبل أن يتمكن من استرداد ما فقده غير أن الجرس رن معلنا انتهاء الدورة. ورأى الفتاة تغادر سيارتها فغادر سيارته. تبعها محاذرا حتى يبعد عن مجال الأعين التي توقع تجسسها عليه، ثم أخذ يقترب منها. سمعت وقع أقدامه، فنظرت وراءها لحظة فداخلته طمأنينة إلى النجاح. وأبطأت عند سياج مطرز بالياسمين والبنفسج يحيط بمطعم كباب مترام في الهواء الطلق ففغمتهما رائحة الشواء الدسمة ممتزجة بعبير الأزهار. همس: أنت سائقة ماهرة!
فابتسمت، فقال لنفسه إنها جاءت لذلك. وقدم لها ذراعه فترددت قليلا ثم تأبطتها. ودعاها إلى قدحين من البيرة. اسمي حسن، واسمي سعاد. ودمعت الأعين والشراب البارد ينساب إلى الأعماق. وسكب مكبر الصوت ألف ليلة، أما القمر فقد ارتفع فوق الصاري نائيا بنفسه عن برج الأضواء وصخب الهاتفين. - ليلة بديعة ولكن أجمل ما فيها هو أنت. - أنت ظريف جدا. - هل يعجبك القطار؟ - ولو أنه مرعب أحيانا.
جلسا جنبا إلى جنب في المقعد الأخير من العربة الأخيرة، ولحظ ابتسامتها وهو يختار المكان المنعزل فتوترت أعصابه، وتناول يدها في يده والقطار يتحرك. سار القطار على مهل حتى اعترضته هضبة فاندفع صاعدا، وضاعف اندفاعه وهو يهبط. وجرى بسرعة فوق متتابعات من المرتفعات والمنخفضات فطوقها بذراعه. ودار حول منعطف في تمهل ماكر، وراح يرتقي جبلا في صمت ينذر بالخطر، ثم انحط من عل كأنما يهوي في فراغ وارتفع الصراخ. شد على خاصرتها فمال رأسها على ذراعه، فطبع على شفتيها قبلة طويلة. لم يكد ينتبه بعد ذلك إلى معاكسات القطار حتى رجع إلى المحطة. وقال لها ومشروعات الليل تتواكب في رأسه: خير ما نفعل الآن أن نستريح في مشرب.
وتبادلا «صحتك» مرة أخرى، وتحرك دبيب النشوة في قلبه. ونظر في مرآة مكللة بورد من البلاستيك فوق الطاولة، فأعجبه شاربه الأسود وخداه الموردان. وحدثها عن الليل فأحنت رأسها بالإيجاب، ولما غنى الصوت الملائكي سألها: تحبين الغناء؟
فأجابت بحماس: والرقص. - وأي لعبة تودين؟ - الحظ.
وجدا حلقة الحظ كثيرة الزحام، فبلغا سياجها بعد مشقة. وتناول كل منهما حلقاته الخشبية الخفيفة، وهو يتفحص الأهداف المنشورة في تقارب معجز للصائد. سددا نحوها الحلقات فطاشت جميعها، وابتاعا مجموعة ثانية وثالثة من الحلقات، وهو يحلم طيلة الوقت بعلبة فضية لا يدري شيئا عما بداخلها، على حين ركزت هي على زجاجة فلير دامور. وبعد الجهد والبذل أصاب زجاجة نبيذ، وكسبت هي عروسا عارية. وذهبا وهو يفض سدادة الزجاجة، ثم تناول منها شربة بعد أخرى. وركبا في أثناء ذلك الساقية، فارتفعت بهما إلى جبين القمر، ثم رقصا فوق سطح الغربال، ودارت الخمر برأسه فأفرط في مداعبتها، حتى همست في أذنه: حذار أن تلفت لنا الأنظار.
فقرصها في ساعدها البض، فقالت بشيء من الحدة: لا.
وانتزعت منه الزجاجة فأحكمت سدها، ووضعتها في الصندوق الكرتوني لصق العروس. واستقلا تروللي غابة الأشباح فالقارب المتزحلق، ثم وجدا نفسيهما أمام وادي التيه المعروف بحجرة جحا. هتف بسرور: عز المطلوب.
لكنها قالت بفتور: لا أحبها، سنتيه في سراديبها؛ حتى نفقد الصبر.
فتناول يدها ضاحكا ثم دخلا. قطعا أمتارا في مدخل مربع ينتهي بسد في الأمام، وعن اليمين وعن اليسار نفقان يستديران إلى الداخل. ولاحظت تردده بين النفقين، فقالت محتجة: من أولها حيرة!
نامعلوم صفحہ