منذ خمس سنوات فقدت سميرة ابنته طفلا في سن توتو، فعزاها باكيا وهو يقول: كان الأجدر أن أموت أنا.
وخيل إليه وهو في المأتم أن الأعين ترمق شيخوخته بدهشة، مستحضرة التناقض الصارخ بين بقائه هو وذهاب حفيده في الثالثة. وليلتها قال لزاهية ممتعضا: طول العمر لعنة.
ولكن ما أرقها إذ قالت له: كلنا فداك .. أنت الخير والبركة.
وعند الأصيل عاد صابر من عمله، فقال لأبيه: ما دمت لا تريد أن تذهب معنا إلى النادي، فاختر مقهى في مصر الجديدة، مقاهي مدينتنا جميلة وقريبة من البيت.
قد يكون هذا هو المعقول، ولكنه يحب قهوة ماتاتيا. إنها مجلسه المختار طيلة دهر طويل. ومضى إلى محطة الأوتوبيس، وهو يسير إذا سار وئيدا، ولكن بقامة مرتفعة، ويستعمل العصا ولكنه لا يتوكأ عليها، وكثيرون هم الذين يتطلعون إليه في دهشة مقرونة بإعجاب. واتخذ مجلسه بالقهوة تحت البواكي، وهو يقول لنفسه فيما يشبه المداعبة: ما بال القهوة خالية! ولم تكن القهوة خالية. ولا كان بها من الترابيزات الخالية إلا عدد محدود. ولكنها خلت من الأصحاب والمعارف. ومن عادته أن يرنو إلى الكراسي التي حملت قديما الأعزاء الراحلين، فيتخيل وجوههم وحركاتهم، والمناقشات حول أخبار المقطم، ومباريات النرد الحامية، والسياسة. قضى الله أن يشيعهم واحدا بعد آخر وأن يبكيهم جميعا. وجاء زمن لم يجد فيه من رفيق سوى واحد هو علي باشا مهران. وهذا الكرسي كان مجلسه. يجلس عليه قصيرا نحيلا مكوما فوق عصاه، وحافة طربوشه تماس حاجبيه الأشيبين النافرين، ويرمقه بنظرة هشة شبه دامعة من نظارة كحلية، ثم يتساءل: من منا يا ترى سيسبق صاحبه؟
ثم يغرق في الضحك، وكانت يداه قد استوطنتها رعشة الكبر رغم أنه كان يصغره بعامين. ولما مات في الخامسة والثمانين حزن عليه طويلا، ومن بعده خلت الدنيا وخلت القهوة. وها هي العتبة الخضراء تدور كعادتها أمام عينيه الكليلتين، ولكنها ميدان جديد. وماتاتيا نفسها لم يبق من أصلها إلا الموضع، ولكن أين صاحبها الرومي الودود، وأين النادل ذو الشوارب البلقانية؟ والكراسي المتينة البنيان، والترابيزات الرخامية الناصعة، والمرايا المصقولة، والبوفيه العامر بالمشروبات والنراجيل أين؟ وفي ليلة شم النسيم من عام 1930 أحيل إلى المعاش. وسهر ليلتها في مسرح الأزبكية هو ومجموعة من الأصدقاء حيث جلجل صوت الطرب، أما النهار فقد قضوه في القناطر الخيرية محتفلين بوداعه، وألقى الشيخ إبراهيم زناتي قصيدة. وليلتها شرب من الكونياك حتى ثمل، وهو يطرب للصوت المنشد «يا عشرة الماضي الجميل». ولما نام آخر الليل حلم بأنه يلعب في الجنة. ودعا له إبراهيم زناتي مفتش اللغة العربية بمائة عام من العمر المديد في قصيدته. والدعوة يبدو أنها ستستجاب. ولكن القهوة خالية، والشيخ زناتي نفسه رحل وهو ما يزال في الخدمة. واقترب النادل منه ليأخذ الصينية، ولكنه تراجع كالمعتذر. فذكره بفنجال القهوة المنسي الذي لم يمسه.
وعندما رجع إلى البيت وجده راقدا في السكون ، وصاحبه لم يعد من النادي. ووجد عشاءه من الزبادي على خوان. وغير ملابسه في بطء وجهد ودون معاونة أحد. وجلس لتناول العشاء فتذكر نرجس. لو تشاركه القطة الصغيرة عشاءه؟ ما ألطف أن يوثق علاقته بها فهي ستكون أنيسه الحقيقي في هذا البيت المشغول بنفسه. لعلها في موضع ما بالصالة. ومال نحو الباب قليلا، وهتف: «بس .. بس». وقام فمضى إلى الخارج، وصاح: «نرجس، بس .. بس ...» فجاءه النواء من وراء الباب التالي لحجرته، حيث ينام توتو وخادمته. وتفكر قليلا ثم اقترب من الباب ففتحه برفق، فمرقت منه نرجس رافعة ذيلها الدسم كالعلم.
ارتاح الشيخ فعاد نحو حجرته وهي تتبعه، ولكن صرخة توتو دوت غاضبة. وقال الشيخ لنفسه باسما: إن الصغير لم يكن استغرق في النوم. وجاء توتو جريا فانقض على القطة، ثم قبض على قفاها بشدة. وربت جده على رأسه قائلا برقة: خفف يدك يا توتو.
ولكن الآخر ضاعف ضغطه حتى خيل إلى الشيخ أن نرجس ستختنق، فقال برجاء: اذهب أنت، وسأحملها إلى فراشك.
ولكن توتو لم يسمع له؛ فمال الشيخ نحوه وخلصها من يده، وهو يقول: سأطعمها ثم أعيدها إليك.
نامعلوم صفحہ