بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن
بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن
اصناف
إن المسجد الكبير لا يتميز إلا بطراز بنيانه المسيحي. يعود بدء عهده إلى زمن الصليبيين؛ إذ كان كنيسة على عهد القديس يوحنا، كما تكلمت عن ذلك في فصل سابق، وأقول الآن: إن هندسته تشبه هندسة تلك الأبنية التي هي من نوعه، ولا تزال بعض بقاياها قائمة على الشاطئ الواقع بين يافا والكرمل.
ويزعم أبناء البلاد أن كنزا كبيرا مدفون هناك. ومصدر هذا الزعم ضعف عقلية الشرقيين بوجه عام؛ فجميع الأبنية القديمة تخفي - حسب زعمهم - كنوزا تقدر بمبالغ ضخمة.
أما المساجد الأخرى فلم توح إليهم زعما خاصا؛ لأنها - كما يظهر - قليلة الدوطة ... ولا يمكننا أن نقارن بينها وبين مساجد المدن التركية الأخرى التي تملك بعض المدخول المخصص للنفقات الدينية.
تدخل الكتب أيضا في عداد الهبات التي تقدم للمساجد بغية تثقيف الشعب الإسلامي القليل المطالعة بطبيعته. وهذه الكتب تكون عادة مصاحف وشروحا وكتب عبادة أخرى.
وفي هذه المساجد يفتش الدراويش عن أسباب الارتزاق، وعن ملجأ يأوون إليه عندما يهبطون المدينة، وقد تكون أيضا ملجأ للذين لا يرتحلون، أو للمعتوهين. إنها تستخدم كبيمارستان للذين فقدوا عقولهم أو خلقوا مجاذيب.
يطوف هؤلاء الدراويش في الشوارع بألبسة غريبة، وعلى رءوسهم طرابيش طويلة، وقد يتسلح بعضهم بحراب، ويحملون في أيديهم صحيفة ضخمة تشبه شكلا نصف جوزة أو لوزة. أما الذين يفتقرون إلى قليل من الذوق فإنهم يستغنون عن ارتداء الثياب، ويكتفون بصلب أيديهم على صدورهم أو تركها مدلاة كرقاص الساعة.
إن رحالة لبيبا شاء أن يعتنق الدين الإسلامي عندما رأى الاحترام الذي يحاط به المعتوهون في تركيا فيخفف من بؤسهم وتعاستهم؛ فهم يحترمون ويجلونهم لأنهم - في نظرهم - أشخاص منحوا امتيازا دون غيرهم، فالله لم ينتزع عقلهم إلا لأنه كان راضيا عنهم. غير أنه يمكنني أن أضيف أن هذا الشعور لا يرد الموت عن هؤلاء الأولياء المساكين الذين يقضون في كثير من الأحيان لعدم الاهتمام بهم. إنه جسد ينطفئ، هكذا يقولون. أما القسم الجوهري - يعني الروح - فقد أصبح منذ زمن طويل عند أقدام خالقه.
تخيل أحد هؤلاء الدراويش - وقد أصيب بمرض جنون السلطة - وسيلة فيها بعض شفاء لجنونه هذا، وهي سهلة التنفيذ؛ اشترى من الأباريق الصغيرة مقدارا سمحت به ميزانيته، ولكي يملك منها أكثر عدد ممكن انتقاها مثلومة ومشققة ومصدعة، وبعد أن ملأها ماء صفها على منضدة صغيرة لعوام المسلمين، ليتناول كل منهم واحدا منها يستعمله عند الوضوء، ثم قعد قربها يلقي على المصلين أوامره، فكان يقول لمن يمد يده إلى الإبريق الأصفر: خذ الأحمر. وإلى الآخر: دع هذا وخذ ذاك. وإلى الثالث: دونك المستدير أو المشعث، أو الذي ليس له رقبة ... إلخ. وكان الحاضرون يتأملون ويتساءلون عما حدا هذا الرجل على القعود منهم هذا المقعد، دون أن يفهموا لأول وهلة ما هو الباعث على ذلك، وأخيرا عرفوا أنه كان موظفا وعزل ...
إن منائر بيروت تشبه كل الشبه منارات البلدان الأخرى، وهي قائمة كالشمعدان. أما السراي - أو مركز الحاكم - فليست سوى خربة مقوضة، ومع ذلك فمن يتأملها يمكنه أن يحكم على ما كان عليه سابقا قصر فخر الدين؛ لقد اقتبس هذا الأمير الكثير عن الأوروبيين في بناء قصر مدسيس، فأضفى على قصره تجميلات كثيرة دلت بحق على أنه أحسن الاقتباس.
أما المحكمة فهي في الواقع بيت سكن القاضي، وهو قصر العدل في تلك البلاد، وهنالك تعرض المظالم على اختلاف أنواعها.
نامعلوم صفحہ