بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن
بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن
اصناف
إن هؤلاء يجدون ربحهم في الواردات، بينما إن ما يقدمونه للشرقيين هو الصادرات التي يستطيعون الحصول عليها بقيمة تنقص عن 25 بالمائة عما يحصل به عليها الأجانب.
وهذه ليست سوى صورة مصغرة عن نتائج المزاحمة السيئة التي لاقتها تجارتنا وجعلت الكثيرين من تجارنا يملون ويقنطون. وقد اضطروا إلى الإحجام عن دفع نفقات مؤسساتهم بعد أن خدعهم سماسرتهم، وسرقهم مشتروهم، واستذلهم رجال الجمرك، شركاء التجار المواطنين.
والذين لم يتخلوا عن مركزهم استسلموا للتيار وماشوا الظروف، وعرفوا أن يستعيدوا مكانتهم. إن هنالك قسما قد آثر أن يتعاطى العمولة، وآخر اكتفى بقبض جعالة زهيدة.
2
أما المحلات التجارية الراسخة القدم فلم تخفها المزاحمة وإن ضايقتها كثيرا. حولت نظرها إلى تعاطي التجارة المحلية فكفل لها تفوقها - في العدة - عجز العرب عن تقليدها؛ وهذا ما بحثته حين تكلمت عن طريقة حل الحرير الغليظة في هذه البلاد. إن المقدرة التي يتصف بها التاجر الأوروبي تساعده - ولا شك - في المهمة التي يتعاطاها؛ فعليه قبل مباشرة عمله أن يظفر بثلاثة أشياء: معرفة البلاد، لغتها، سمسار قدير. فلا بد إذن من معرفة بعض نقاط تصلح لأن تكون قاعدة ومقياسا لأعمالنا، وتمكننا من مفاوضة المشترين مباشرة. إلا أنه لا ينتظر أن نتفوق على رجل هو تاجر وسمسار في وقت معا، ولا سيما إذا كان يتحلى بشيء من المقدرة وبكثير من الثقة. إنها قضية حياة أو موت لكل مؤسسة تجارية. ولقد توافرت لدي عدة شواهد على هذه النقطة تمكنني من إبداء رأي هو غاية في المتانة: إن تاجرا عنده سمسار قدير، يمكنه أن يجمع بين المقدرة الأوروبية والحيلة الشرقية. وقد ثبت أن مهمة السماسرة كانت جد مجدية وضرورية، حتى إن الحكومات سعت لدى السلطات لتمتع هذه الطبقة من الموظفين بالامتيازات والحصانة الشخصية التي يتمتع بها التراجمة، فمن فور دخولهم في خدمة التاجر تفارقهم رعوية جلالته ويصبحون من رعايا قنصل الدولة التي يخدمونها.
كثيرا ما كان التجار الأوروبيون - قبل أن يمنحوا هذا الامتياز - هدفا للتعديات البالغة الحد؛ لأن السلطات التركية كانت تحرج إلى أبعد مدى موقف «الرؤساء» الذين عرفت أن فرنسا تدعمهم مدفوعة بحبها للإنسانية. إنه - والحقيقة تقال - ما من تضحية أسمى من التي يقوم بها تاجر بدافع الشفقة أو المصلحة لإنقاذ من هو موضع ثقته وأعماله ... وهكذا فإن كان يبذل ماله لينجي عميله المعرض لسيف العدالة الغادرة في هذه البلاد.
لاقيت بعض المشقات عندما دعوت إلى احترام مبدأ حماية السماسرة في بيروت؛ هذه الإسكلة الجديدة التي يجب أن نخلق فيها كل شيء. ولكم تألمت عندما رأيت هذا المبدأ ينهار لدى الذين اعتقدوا أنه يجب عليهم أن يكونوا أقل تسامحا مما هم عليه العثمانيون تجاهنا؛ إذ لم يظنوا مطلقا أننا نتطلب منهم أكثر مما تطلبنا من الآخرين.
3
فهمت بعد محادثة طويلة جرت بيني وبين إبراهيم باشا أن هنالك خطة مدبرة لكيفية معاملتنا في سوريا؛ فهو يعتبر «أن موقف الأوروبيين في مصر كان أقوى مما هو عليه في سوريا، إلا أن موقف أهالي سوريا كان أفضل من موقف شعوب البلد الآخر.» وهذا ما أكد لي - وكثيرا ما دلت عليه تصرفات السلطة - إن نائب السلطان كان ينوي التخفيف عن السوريين والانتقاص من امتيازات الأوروبيين الذين توسعوا كثيرا - حسب رأيه - في مصر بعد أن أثقل كثيرا عاتق المصريين التعساء.
إن التدابير الحليمة التي اختطها محمد علي لم تتبع في هذا الحقل كما اتبعت في كثير من الحقول الأخرى؛ فأفضل وسيلة لترويج منتوجات مصانعنا تكون في إنشاء مستودع ضخم (عنبر) يمكنه أن يقدم لتجار دمشق - في الداخل والإسكلة - الحاجيات اللازمة بأسعار معتدلة، وأن يهتم بأمر بضائع المقايضة التي يمكن هؤلاء التجار أن يقدموها، بشرط أن يسترجعوا الحاجيات التي يتبين أنها لا توافق بلداننا في المملكة العثمانية حيث تعود هؤلاء التجار أن يأتوا بأنفسهم إليها، ووفقا لهذه الطريقة يجب أن تورد المنتوجات إلى فرنسا، حتى إذا لم تتناسب وحاجيات البلاد أعيدت كتلك.
نامعلوم صفحہ