لماذا؟
كان يحلو له آخر النهار ومع حلول المساء اصطحابها من عند الباب الخارجي المطل على حديقة تفضي إلى سلالم المستوصف، حين كانت تمد له ذراعيها الاثنتين القصيرتين كمثل عصفور جريح محلق، ومن فورها تلقي بنفسها بين أحضانه لاثمة مطلع عنقه، ويمضيان يجوبان الشوارع ولهما هيئة أب وابنته ... وحيدته.
يغوصان في أوحال المخيم، يتطلعان خلسة إلى الوجوه المحاصرة في صمتها المطبق كمثل ذبائح الضحية، يعملون: يبيعون ويشترون ويتزاورون، ويتحلقون حول دكاكين وعربات الأكل والفاكهة وخبز الزعتر، انتظارا لأن تعمل بدورها آلات الحرب الأمريكية القادمة عبر البحر فعلها في لحم أجسادهم وفقرهم «الدقة»، كما لو أن الهدف الفعلي هو اندثارهم: الفقراء.
كانت كثيرة التساؤل بلا كلمات: لماذا الأمر على هذا النحو؟
أما هو فكان يجيبها بأنه لا يصدق، وأكثر ما يضايقه هو هذا الأمر، أن لا تصدق ما ترى وتشهد إلى حد الدهشة.
صحيح أن مثل هذا الأمر كان من الممكن أن يصادفه عبر حكايات القرى والحقول، حين كان صاحب النجمة المسدسة يحرث أجساد أعدائه الفلسطينيين والأردنيين بالنوارج، والباجات ذات اللفافات حصدا جماعيا.
لعله ما يحدث أو يقاربه؛ فالحصاد هذه المرة يجيء نيرانا ونابالما عبر الزوايا الست أو المسدسة، بالإضافة طبعا لمكبرات الصوت والبث ذات اللهجة المهذبة التي تطالب أشلاء سكان هذه المدينة وغيرها بالفرار هربا بالجلد. - إلى أين؟
الناس لا يكفون عن الفرار، إن جنوبا أو عبر أحياء العاصمة وشقوقها وأطرافها المقطعة وضواحيها، لا شيء أصبح يمكن أن يرى سوى وفود وكوميونات المهجرين يسدون كل منفذ ومدخل لبناء، أو حديقة هامة، أو واجهة سينما بالحمراء.
وحيث كثيرا ما يأخذان طريقهما إليها، يمضيان هكذا متسكعين من طوار لآخر بلا هدف واحد، سوى مجرد التطلع إلى وجوه وهيئات ما تبقى من أحياء، وحتى يحين الحين، بانتظار ما يستجد من أدوار وحصد.
وذات يوم، وجدا نفسيهما على مقربة من البناية التي فيها كان يقيم المهاجر، والتي لحقها القصف الجوى فتهدم طابقها العلوى ومدخلها الذي سد تماما، فشلت حركتها، وعنها رحل سكانها.
نامعلوم صفحہ