بين الجزر والمد
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
اصناف
ويصدق هذا على اللغات الأخرى: هاك الألمانية مثلا، لغة العلم والتجارة والكبرياء، التي يطمع أهلها في إحلال الثقافة الجرمانية محل الثقافة اللاتينية في أنحاء المعمور، فإن الأطفال يتعلمون بها أبجديات أربعا: اثنتين منهما الكبيرة والصغيرة
Majuscule & Minuscule
من الكتابة التي يسمونها لاتينية، واثنتين أخريين من الكتابة التي يسمونها جرمانية، ولكل من الكتابتين حروفها وخطها كأنهما لغتان لا تتشابهان. وما هذه إلا إحدى صعوبات تلك اللغة العصية، إلا أنها لم تحل دون تقدم الألمان في ميادين العلم والاقتصاد والفلسفة والآليات والرياضيات ... إلخ، وهم يباهون بهذه الصعوبة، وينظرون ببعض الازدراء إلى اللغات المشتقة من اللاتينية، وينكرون عليها اسم اللغات، بل يقولون إنها «لهجات».
حتى الفرنساوية تجد في كتابتها صعوبة لا شبه لها في اللغة العربية؛ فما قد يكتب عندنا بثلاثة حروف يقتضى أحيانا عندهم سبعة حروف، والحركات التي تجد اليوم عندنا من يثور عليها، ويطلب حذفها موجودة عند الفرنسويين، وإن اختلفت وظيفتها اللفظية بعض الاختلاف، وتصريف الأسماء الذي يحرجنا في العربية موجود عند الألمان وعند اليونان الذين يضرب بهم سبيرو بك المثل. إن اليونانية الحديثة بتصريفها وحركاتها وقواعدها ليست دون العربية صعوبة، وتزيد عليها في اشتباك الأبجدية. وحسبي أن أذكر من ذلك أن حرف الياء يكتب عندهم على سبعة أنواع؛ تارة بالحرف المفرد، وطورا باتحاد حرفين من حروف العلة.
الإصلاح ليس الهدم دواما، بل هو في الغالب تبديل وصقل وتكييف؛ إذ ليس في صالح الأمة إنكار الماضي الزاخر بالمجد الأدبي والحكمة، وكما أن الفرد الواحد من الناس لا يأتي العالم مستقلا عن أمسه وغده، بل يأتي متصلا على رغم منه بما سبقه وبما سيلحقه، فكذلك اللغة التي هي وحدة حية ورثناها وورثنا معها الحق في أن يكون لنفسيتنا مجموعا وأفرادا أثر فيها. أما نبذها والاستعاضة عنها باللغة العامية فاعتراف بالعجز والخذلان؛ لأن اللغة تنتعش بانتعاش الأمة وتجمد بجمودها، وأدل دليل على ذلك أن أساتذة الأزهر - وهم أئمة اللغة والساهرون على كيانها القديم - كانوا - على ما قيل لي - يلقون الدروس على تلاميذهم منذ نحو قرن باللغة العامية. ولا عجب في ذلك والأمة يومئذ في سبات عميق!
3
لذلك كان اقتراح سبيرو بك بالاكتفاء باللغة العامية غريب في بابه، ولا أدري هل في التاريخ مثال واحد من نوع هذا التنازل والتجرد؟!
لئن اكتفى اليونان والطليان بلغتهم الحديثة دون القديمة؛ فلأن الشعبين الأولين اندثرا، والذين يعيشون في إيطاليا وبلاد اليونان لا يتحدرون منهما مباشرة، بخلاف العرب الذين نجد بينهم عائلات متسلسلة منذ عهد صدور القرآن، والشعبان الأجنبيان ينطقان بلغة جديدة مشتقة من القديمة، ولكن لها قواعدها وأصولها وضوابطها، لا لهجة من لهجاتها الاصطلاحية.
إن تضاعف اللغة أمر طبيعي عند جميع الشعوب؛ ففي قومية واحدة ذات لغة كبرى تتفاهم بها جميع أنحاء الوطن الواحد، تجد لكل إقليم لهجته الاصطلاحية الخاصة، يخلد هذه اللهجة الشعراء والكتاب الأوفياء لبيان «وطنهم الصغير» بتجديدها دون أن يكون ذلك تهديدا لكيان اللغة الجامعة الكبرى.
عن طريق إحياء اللهجات الإقليمية نشأت شهرة نفر من كتاب الفرنسويين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ أمثال: ميسترال، ورومانيل، وأوبانيل مجددي لهجة بروڤنسا، واللهجات الأخرى من لسان أوك
نامعلوم صفحہ