بين الجزر والمد
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
اصناف
فن اللاتين كآدابهم منقول عن الفن الإغريقي، إلا أنهما يختلفان في أن الأول يقلد الثاني بلا أمانة، ثم يخلطه بصنوف فنية أخرى؛ فيحرمه قالبه المجرد وبساطته الأنيقة. والزخارف القليلة التي كان يستعملها الإغريق بمنتهى التحفظ كان الرومان يغدقونها على أبنيتهم وصروحهم بلا حساب، بيد أن الآثار الرومانية إذا كانت دون الآثار اليونانية دقة وسذاجة، فهي لا تعدم عظمة وجلالا يلقيان التهيب في نفوس الناظرين.
وامتاز فن النحت في روما بما لم يكن ليعنى به الإغريق كثيرا، وهو تماثيل الأحياء؛ لأن من عادات الرومان قبل اتصالهم باليونان أنهم كانوا يحفظون في منازلهم صور آبائهم وجدودهم، وكانت تلك الصور والتماثيل تصنع من الشمع أو الخشب، ثم تحسنت بانتعاش الفن فصارت تحفر في الرخام. والرغبة في التزلف إلى القياصرة وتملق الكبراء كانت تؤدي إلى الاهتمام بتماثيلهم ووضعها في الأبنية العمومية وصروح الحكومة؛ ومن هنا تعدد التماثيل اللاتينية والباعث على إتقانها.
أما في غير ذلك فقد قال الشاعر اللاتيني: «إن بلاد الإغريق المغلوبة أغارت على قاهرها فاكتسحته في دورها.» (4) عند العرب
سقطت روما العظيمة، فتساءل العالم أي شعب قدر له أن يحمل مصباح الحضارة باعثا بأشعته إلى القارات الثلاث؟ فإذا بحركة جديدة تنشأ في أرض بعيدة بين قوم جهلت أسماءهم سجلات التاريخ.
قضت مدنية الإغريق طفولتها في حضن المدنية الفينيقية، ثم دفع اليونان الآسيويين عنهم فنمت مدنيتهم وترعرعت في أرض خصيبة، جميلة الموقع، معتدلة الهواء، عذبة الماء، ثم نسخ اللاتين مدنية الإغريق مكيفيها في قالب يلائم سليقتهم، ويتمشى مع روح لغتهم، وقد كانت بلادهم في منطقة تسهل لأهلها الانطلاق إلى الخارج وبسط سلطانهم على ما حولهم.
ولكن كيف تكونت المدنية العربية، وهي التي انبثق نورها الأول في شبه الجزيرة حيث تستعر الرمضاء ليل نهار؟
نعم، إن بعض الجهات الساحلية مثل: اليمن، والحجاز، وحضرموت كثيرة الخصب تنتج البن، والقطن، واللبان، والمر، والند، والبلح، والموز، والمشمش، والحنطة، والذرة، والعدس، وقصب السكر، وشجر النارجيل (جوز الهند)، وأنواع الطيوب العربية على اختلافها. غير أنها بعيدة عن أوساط التمدن والعمران، بعيدة عن تأثير الإغريق ونفوذ الرومان، فأي سر أوجد تلك الحضارة التي انتشرت بسرعة لم تظفر بها حضارة، فعبرت من قارة إلى قارة تحمل عز العرب، باسطة تمدنهم على آسيا، وأفريقيا، وبعض أوروبا، جالبة ثروة، وعلما، وانتعاشا حيثما نشر القوم أعلامهم؟
تنتنمي اللغة العربية إلى طائفة اللغات السامية، وهي ثالث فروع أصلية ثلاثة: الآرامية والكنعانية والعربية. فالآرامية تشمل الكلدانية والسريانية والآشورية (الميتة منذ زمن طويل)، وهي لغة عامية يقال إن السيد المسيح كان يخاطب بها تلاميذه. وتتكون الكنعانية من العبرانية والفينيقية. فالعبرانية لغة اليهود المقدسة، ومع أنها تختلف اليوم كثيرا عن العبرانية الأصلية؛ فإنها ما زالت مستعملة عندهم في الطقوس الدينية، ولهجة من الفينيقية (وهي البونيقية) استعملت مدة طويلة في قرطاجنة وعلى شواطئ إسبانيا، ولها بالعبرانية قرابة لفظية شديدة.
أما العربية فتشمل العربية الفصحى ولهجات مختلفة تكلمتها القبائل القاطنة في جنوب بلاد العرب وبلاد الحبشة وغيرها، وهي اللغة التي فازت بالبقاء على حين أخواتها وبنات عمها طوين في عالم النسيان منذ أمد مديد.
ظلت العربية منزوية إلى أواسط القرن السادس، فبرزت بغتة تتمتع بقوة بالغة أشدها، فما عرف لها التاريخ أدوار الطفولة والنمو، وذلك لا ينفي أنها قد تكونت في زمن بعيد القدم، أو أنها قد تكون شعبة من لغة سامية سابقة فقدت في مجاهل التاريخ؛ لأن بعض خصائصها اللغوية (كجمع التكسير مثلا) يميزها عن العبرية والآرامية، فيجعلها أشمل منهما للمعاني وأوفى للأغراض، ومن ذا الذي لم يسمع بغناها في المفردات والمرادفات؟ ذاك الغنى الذي يعد عجيبا إذا ما قوبل بفقر اللغات السامية الأخرى.
نامعلوم صفحہ