بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
اصناف
كان فيلسوفنا يشعر إذن بعظم المهمة التي ألقاها القدر على عاتقه، وبأن أعماله باعتباره رجلا من رجال الدولة تكاد لا تدع له الوقت الكافي للقيام بما شرع فيه؛ ولذلك نراه في آخر الجزء الأول من تلخيصه «للمجسطي» يقول إنه وجب عليه أن يقتصر في شرحه على إيراد النظريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، ويشبه نفسه برجل رأى فجأة النار تلتهم منزله، وليس لديه من الوقت إلا ما يلزم لاستنقاذ أثمن ما عنده من متاع وما لا غنى عنه للحياة.
كما نراه يخصص كل وقته ليؤدي كما ينبغي رسالته التي أخذها على نفسه، فيعتزل منصبه عند تقدم السن به، وذلك ليتوفر على أعماله الفلسفية خشية أن يحين أجله قبل أن ينتهي منها.
ولما توفي الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، وولي الحكم بعده ابنه يعقوب الملقب بالمنصور سنة 580ه، نال ابن رشد لديه الحظوة والمنزلة التي كانت له لدى أبيه، إلا أن القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه. •••
وقبل البحث في هذا، نرى أن في حياة ابن رشد حتى الآن ما يستدعي أن نقف وقفات قصيرة:
أولا:
لقد كان إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة على اختلاف موضوعاتها، وكان إلى ذلك من أشد الناس تواضعا، فهل هذا كان علة لذاك؟ يعتقد أن ذلك هو الحق، وأنه الذي يتفق مع طبائع الأمور.
إن الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم، ولو كان أمرها هينا، تاه بها وظن أنه قد أوتي من العلم ما لم يؤت غيره، وليس كذلك العالم الذي يتنقل من ضرب من ضروب المعرفة إلى ضرب آخر، وكلما فرغ من حل مشكلة علمية تبدت له أخرى، فهو دائما في كد عقلي وتعب فكري.
وخاتمة المطاف هي شعوره بقلة علمه، وإحساسه بعجز عقله عن أن يحيط بالكون كله: أراضيه وسماواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك من مقام الألوهية الذي جل عن أن يحيط به عقل أو إدراك ، والنتيجة الطبيعية والنفسية كذلك أن يغدو كلما عمق علمه لان جانبه واشتد تواضعه.
وثانيا:
إن الذين ترجموا له وصفوه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية، أي إن النظر العقلي والقياسي في الأحكام الفقهية كان أغلب عليه من الاعتماد على كل ما يقع له من الأحاديث، وأقوال الفقهاء السابقين، وهذا ما يتيح لنا أن نقرر أن نزعته إلى النظر العقلي والتفلسف بدت أول ما بدت في الفقه.
نامعلوم صفحہ