بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
اصناف
وهذا الاعتراض القوي من الغزالي الذي من اليسير تعزيزه بكثير من آيات القرآن، قد استوجب مجهودا غير قليل من ابن رشد في سبيل إبطاله ودفعه، إنه يوجب أولا أن نفرق بين علم الله بالكليات بما هو عقل، وبين علم الإنسان بالأمور الجزئية بالحواس، هذا من ناحية، وأن نفرق من ناحية أخرى بين علم الله الذي هو سبب وجود الموجودات، وبين علم الإنسان الذي هو مسبب عن وجود الموجودات، أي: معلول عن المعلول نفسه، فهذه التفرقة هي التي تنجينا من الخطأ الكبير والجدل الكثير.
ومتى فهمنا هذه التفرقة بناحيتيها، لم يكن لنا أن نقيس علم الله على علمنا، ولا يكون من المستطاع إلزام الفلاسفة إجازة علم الله بالأشخاص وأحوالها العديدة، ما داموا قد أجازوا علمه تعالى بالأجناس والأنواع العديدة، وذلك بأن العلم بالجزئيات يكون بالحس، ويوجب - مع تعدد العلم - تغير الإدراك بتغير الحالة المدركة! على أن العلم بالكليات (الأجناس والأنواع) لا يوجب التغير في العالم، لعلمه إياها بسبب علمه بأسبابها العامة والثابتة التي لا تتغير.
88
ونحن نكاد نفهم من هذا أن فيلسوف قرطبة يمس برفق مسألة حرية الإنسان في أعماله، إنه وإن كان من أنصار حرية الإنسان فيما يعمل، حتى يكون مسئولا عما يصدر عنه، يرى أن العمل الذي يكون عن المرء هو نتيجة أو مسبب عن إرادته التي يجب أن تكون متفقة آخر الأمر مع القدر الإلهي الثابت أزلا.
ومهما يكن من شيء؛ فإن ابن رشد يقر بأن الغزالي مصيب فيما لاحظه من أن التعدد في الأجناس والأنواع يوجب التعدد في العلم، وهذا ما يحذره ابن سينا وأمثاله؛ ولهذا ينتهي إلى تقرير «أن المحققين من الفلاسفة لا يصفون علم الله سبحانه بالموجودات لا بكلي ولا بجزئي» إلا أن هذا من علم الراسخين في العلم، ولا يجب أن يكتب ولا أن يكلف الناس اعتقاده.
89
وأخيرا هاتان الفكرتان: كون علم الله هو سبب وجود الموجودات وعلم الإنسان معلول عنها، وأن علم الله لا يصح وصفه بأنه كلي أو جزئي، نجد ابن رشد يتناولهما بالإيضاح في مواضع عدة من تهافته؛ ولهذا نراه يؤكد أن العلم الذي ينفيه الفلاسفة عن الله، هو ما يكون تعلم الإنسان ناتجا عن المعلوم لا علة له، وبعد هذا لا يرون مانعا من القول بأنه تعالى يعلم كل شيء حتى الأمور الجزئية من جهة أنه علة لها، كما جاء في قوله تعالى في سورة الملك:
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
ومن فهم هذه التفرقة بين علم الله وعلم الإنسان، فهم معنى قوله تعالى:
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ،
نامعلوم صفحہ