بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
اصناف
هنا يقول فيلسوفنا بأن إعجاز القرآن، الذي يدل دلالة قطعية على صفة النبوة، يتبين لنا بوضوح متى قرأناه وفهمناه حق الفهم، فعرفنا أنه تضمن الإنباء بأمور غيبية لم يكن محمد يعرفها قبل الوحي، وتذوقنا نظمه وأسلوبه الغريبين عن كلام العرب جميعا، إلى آخر ما قال مما لا جديد فيه عما قاله المتكلمون في إعجاز القرآن.
49
لكن الذي أربى به عليهم حقا هو ما ذهب إليه من أن المعجزة يجب لتدل دلالة قاطعة على النبوة، أن تكون مناسبة لرسالة النبي، هذه الرسالة التي هي إرشاد الناس وهدايتهم بالشرع الذي يأتيهم به، كما يدل الإبراء من المرض على صناعة الطب لمن يدعيها، والقرآن هو المعجزة الكبرى من هذه الناحية «فإن الشرائع التي تضمنها من العلم والعمل ليست مما يمكن أن يكتسب بتعلم، بل هي بوحي.» هذه الشرائع التي غايتها سعادة الإنسانية والتي لا تنال إلا بعد معرفة الله والاتصال به، ومعرفة السعادة والشقاوة ما هما، وما هي الأمور التي توصل للأولى وتبعد عن الأخرى، إلى آخر ما يتصل بهذا كله من المعارف التي لا تتبين إلا بوحي أو يكون تبيينها بالوحي أفضل.
وأخيرا لما وجدت هذه الأمور كلها في الكتاب العزيز على أتم وجه، علم أن ذلك بوحي من عند الله، وأنه كلام ألقاه على لسان نبيه؛ ولذلك قال تعالى منبها على هذا (سورة الإسراء: 88):
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
وإذا ثبت أن القرآن معجز بنظمه وأسلوبه، ومن ناحية مناسبته تماما لرسالة الرسول من لدن الله لتعليم الخلق الشرائع الضرورية لسعادتهم، وأنه موحى به من الله؛ لأنه ما كان ممكنا أن يأتي به الرسول من نفسه كان طبيعيا ومنطقيا أن يكون من جاء على لسانه رسولا، وبخاصة أنه من المعلوم أنه نشأ أميا في أمة أمية، ولم يسبق له أن مارس العلم، ومحاولة فهم الكون كما عرف عن اليونان، وإلى هذا الدليل على أنه رسول أشار الله تعالى بقوله (سورة العنكبوت: 48):
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون .
ويضاف إلى ذلك كله أن وجود طائفة من الناس اصطفاهم الله لرسالاته لخلقه هو أمر بين معروف بنفسه، وقد اتفق عليه الفلاسفة والناس جميعا ما عدا من لا يعبأ بقولهم وهم الدهرية، وقد نبه القرآن إلى هذا بقوله تعالى (سورة النساء: 163 و164):
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
إلى قوله:
نامعلوم صفحہ