بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
اصناف
إن إثبات النبوات والرسالات الإلهية للبشر من أعظم أركان الدين؛ ولهذا نرى علماء الكلام يخصصون مكانا لذلك في مؤلفاتهم؛ وذلك ليردوا على البراهمة الذين ينكرون بعثة الرسل عقلا؛ إذ يجدون في العقل الإنساني غنية عن الوحي الإلهي إلى رسل من البشر، ويرون هذا مستحيلا لحجج يحتجون بها.
44
ورجال علم الكلام يدللون على جواز أن يرسل الله رسلا من خلقه إلى خلقه «بأن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها، كاجتماع الضدين وانقلاب الأجناس (مثل انقلاب العصا حية) ونحوها؛ إذ ليس في أن يأمر الله عبدا بأن يشرع الأحكام ما يمتنع من جهة التحسين والتقبيح.»
45
وإذن، فالعقل لا يجعل محالا بعثة الرسل من هذه الجهة لو سلمنا جدلا بمبدأ التحسين والتقبيح العقليين؛ إذ بعثة الله رسلا من البشر إلى الناس يعتبر لطفا منه، جل وعلا، بهم؛ ليكون هذا سببا لإيمانهم بما وصلوا إليه بعقولهم، وأيدته الرسالة الإلهية، وليعرفوا الحقائق الأخرى التي يعجز العقل الإنساني عن معرفتها وحده.
وكذلك الله متكلم وقادر، فلا يوجد ما يمنع من أن يبلغ إرادته لمن يريد بإحدى الوسائل التي عرفناها: وحي، ملك، خلق أصوات في سمعه، إلخ.
وأيضا كما يجوز في المشاهد أن يرسل المالك رسولا إلى عبيده المملوكين له، يجب أن يكون هذا ممكنا وجائزا في الغائب، ما دام الله يملك الخلق، وله إرادته وقدرته على تبليغها لهم.
46
وابن رشد بعد إشارته هذه إلى طريقة المتكلمين في إثبات جواز البعثة، يقول: «وهذه الطريقة هي مقنعة، وهي لائقة بالجمهور بوجه ما ، لكن إذا تتبعت ظهر فيها بعض اختلال من قبل ما يضعون من هذه الأصول ...» إنه يريد أن ينقدها من ناحية كيف نعرف - على رأي المتكلمين، حين تظهر معجزة من شخص يدعي أنه نبي - أن هذه المعجزة هي العلامة التي يدل بها الله تعالى على أن من تظهر منه هو رسوله! «إنه محال أن يدرك هذا بالشرع؛ لأنه الشرع لم يثبت بعد ، والعقل أيضا ليس يمكنه أن يحكم أن هذه العلامة هي خاصة بالرسل، إلا أن يكون قد أدرك وجودها مرات كثيرة للقوم الذين يعترف برسالتهم ولم تظهر على أيدي سواهم.»
47
نامعلوم صفحہ