بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
اصناف
استدلال ابن رشد للعقائد الدينية
سنرى في هذا الفصل كيف رأى فيلسوفنا أن يدلل لما جاء به الوحي من عقائد لا يقوم الدين بدونها، بطريقة تلائم عقول طوائف الناس جميعا، وذلك من غير ضرر بالدين أو الفلسفة، وقد خصص لهذه الغاية من مؤلفاته رسالته المسماة: «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.»
وقد كان من الضروري حقا أن يخصص بعض مؤلفاته لهذه الغاية؛ لأنه متى سلمت هذه العقائد وقامت عليها الأدلة، دون أن يكون في ذلك ما يتعارض مع النظر الفلسفي الصحيح، لم يكن لأحد أن يذم الفلسفة أو يشكو منها، وكان هذا خطوة طيبة حاسمة في سبيل التوفيق بين الوحي والعقل.
وسنعرض لأمهات هذه العقائد واحدة بعد أخرى على اختلاف ضروبها، أي: سواء منها ما يختص بحدوث العالم عن عدم، ووجود الله ومعرفته ووحدانيته، وما يختص بصفات الكمال التي يجب أن يتصف بها، والأخرى التي يجب أن يتنزه عنها، وما يختص بالحاجة إلى الرسالات الإلهية للناس، والعدل والجور، والمعاد في الدار الأخرى وما يكون فيه. (1) حدوث العالم
هذه العقيدة أولى العقائد الدينية بالبحث والاستدلال عليها في رأينا؛ فقد كانت هذه المسألة إحدى المسائل الثلاث التي كفر الغزالي الفلاسفة من أجل مذهبهم فيها، وربما ما تزال موضع نزاع بين رجال الدين وبعض المتفلسفين.
ونحب أن نقول من أول الأمر إننا لن نتعرض هنا فيما يختص بهذه المسألة وغيرها من مسائل هذا الفصل، لتقرير رأي ابن رشد والحكم بينه وبين رجال الدين، فلهذا موضع خاص يجيء بعد هذا الفصل، كما نلاحظ أن ابن رشد في هذه المسائل يجعل القرآن عماده في الاستدلال لجميع العقائد الدينية، فهو لا يعتمد على الاستدلال الذي يقوم على المقدمات المنطقية التي لا تطيقها العامة وأحيانا لا تكون يقينية؛ ولهذا يرفض غالبا أدلة رجال علم الكلام، على ما سنرى أثناء البحث.
هذا، ويبدأ فيلسوف قرطبة ببيان أن الشرع أو القرآن بصفة خاصة دعانا في آيات كثيرة إلى معرفة العالم وفهمه، وذلك لنصل من هذه المعرفة إلى أنه صنع صانع حكيم هو الله جلت حكمته.
ثم أخذ بعد ذلك في نقد طريقة المتكلمين الأشاعرة لإثبات هذه العقيدة، مبينا أنها ليست الطريقة الشرعية التي أشار القرآن إليها، وأنها مع هذا لا تصلح للعلماء؛ لأنها ليست يقينية، ولا للجمهور لأنها ليست بسيطة قليلة المقدمات التي تكون نتائجها قريبة من المقدمات المعروفة بنفسها.
وذلك بأن طريقة هؤلاء القوم لإثبات حدوث العالم تنبني على القول «بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث، والأجسام محدثة بحدوثه، وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد، طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور، ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري.»
1
نامعلوم صفحہ