بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
اصناف
وقد ظهر ميل الحكم لهذه العلوم أيام أبيه قبل أن يلي الملك، فبدأ يعنى وهو أمير بإيثار أهلها واستجلاب عيون التآليف في القديم منها والحديث، من بغداد ودمشق ومصر وغيرها من بلاد الشرق، وذلك لفرط محبته للعلم، وسمو نفسه إلى التشبه بأهل الحكمة، فكان هذا سببا قويا لكثرة تحرك الناس في أيامه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم.
11
ولكي نحكم على ما وصلت إليه الأندلس في ذلك العصر من العناية بالعلوم والآداب، نذكر أن بعض المؤرخين ذكروا أن فهرست كتب خزائن الحكم بلغت أربعة وأربعين مجلدا لا تشتمل إلا على أسماء الكتب وحدها، وأن عدد الكتب نفسها بلغ أربعمائة ألف مجلد، استغرق نقلها ستة أشهر.
كما نذكر أيضا أنه قد بلغت العناية بإيثار الأندلس بعيون المؤلفات، أن الحكم كان يعمل على إحضار الثمين من المؤلفات الحديثة العهد قبل أن تظهر في بلاد مؤلفيها، ومن ذلك أنه كما يقول المقري نقلا عن ابن خلدون: «بعث في كتاب الأغاني إلى مؤلفه أبي الفرج الأصبهاني، وأرسل إليه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق.»
وقد كان الحكم نفسه مشاركا إلى حد كبير في النظر في هذه العلوم، كما كان ثقة فيما ينقله، بهذا وصفه ابن الأبار وقال: «عجبا لابن الفرضي وابن بشكوال! كيف لم يذكراه، وقلما كان يوجد كتاب في خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان، ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته وما يتناقل عنه من غرائب الحكايات الخاصة به.»
12
وكان يذكي هذه الجهود ويدفع إلى الأمام تلك الحركة العلمية التي تعد من أزهى الحركات العلمية، ما ران أيام الحكم من التسامح «الذي لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرف له نظيرا أو مثالا واحدا، فأولئك العلماء المسيحيون واليهود والمسلمون كانوا يتكلمون لغة واحدة هي العربية، ويتناشدون الأشعار العربية، ويشاركون في الدراسات الأدبية والعلمية نفسها.
وهكذا، سقطت جميع الحواجز التي تفصل بين الناس، وصار الجميع في اتفاق وتعاون في إقامة صرح المدنية المشتركة، وصارت مساجد قرطبة بتلاميذها الذين يعدون بالآلاف مراكز عاملة للدراسات الفلسفية والعلمية.»
13
ولكن هذا العمل المجيد الذي شاده الحكم قضي عليه في شبابه، وهذا العهد الذهبي للدراسات العلمية والفلسفية لم يستمر طويلا، فقد تحالفت عوامل مختلفة على هدم ذلك الصرح العالي الذي أقامه نصير العلم والفلسفة بقرطبة، وعلى إطفاء ذلك المصباح الوهاج الذي كان ينير السبيل أمام طلاب هذه الدراسات.
نامعلوم صفحہ