بما مضى أم لأمر فيك تجديد
ذلك لأن هؤلاء الناس يرون أشياء لا تراها الحكومة، أو لا تحب أن تراها، أو لا تحب أن يظهر أنها تراها، وهم حين يرون هذه الأشياء يشعرون بأن هذه السعادة الظاهرة ليست من السعادة في شيء، وإنما هي تجلد على احتمال الشر، وتكلف لاحتمال الشقاء، واحتيال للتخلص من المكروه. فهؤلاء الذين أذنت لهم الحكومة بالراحة من الاختلاف إلى الدواوين لا يسعدون بالراحة، كما أنهم لا يسعدون بالعمل، وإنما هم أشقياء حين يذهبون إلى مكاتبهم، وأشقياء حين يستقرون في بيوتهم، وأشقياء حين يختلفون إلى أنديتهم، وحين يتجاذبون أطراف الحديث يأتيهم الشقاء المر من هذه النفوس التي خلقت لتحدث في الحياة أمورا ذات خطر، فردت إلى الخمول والخمود، والرضى بالقليل، والقناعة بما لا يقنع به إلا العاجزون الذين فرض عليهم التواضع في الآمال والأماني، وفي المطامع والمآرب فرضا.
يأتيهم الشقاء المر من هذه النفوس التي كان يمكن أن تكون كبارا، فاضطرت إلى أن ترضى بالصغر والضآلة، وتقنع بالهين من الأمر، فترضى بالعمل الذي لا يغني حين تعمل، وترضى بالراحة العقيمة المجدية حين تستريح.
إن هذه الثغور الباسمة لا تصور نفوسا باسمة، وإنما هو ابتسام يصور الكآبة، وابتهاج يصور الحزن، ورضى يصور السخط الذي عجز حتى عن أن يعلن نفسه إلى أصحابه؛ فاستقر دفينا في أعماق القلوب، يملأ نفوس أصحابه استخفافا بالحياة، وانصرافا عن جلائل الأعمال، ويقنعها بما كتب لها من هذه الحياة التافهة التي تمر بأصحابها وبمن حولهم وبما حولهم كما يمضي الماء الرفيق على الحجارة الملس، فلا يترك فيها أثرا يسيرا أو عميقا.
إن هذه الأعلام التي تخفق مع الريح لا تصور خفقات القلوب ولا خلجات النفوس؛ لأن القلوب لا تخفق، ولأن النفوس لا تختلج، وإنما هي حياة راكدة لا تدل على شيء، لا تصور فوزا قد ظفر به أصحابها، ولا تصور أملا يطمح إليه أصحابها، وإنما تصور أياما تمضي يتتابع فيها الليل والنهار في غير طائل ولا غناء. لقد وفى النيل للمصريين بالري والثراء، ولكن ما حظ المصريين من هذا الري؟ وما نصيب المصريين من هذا الثراء؟ إنهم يبلغون ما يقرب من عشرين مليونا من الناس قد وفى لهم النيل جميعا بالري والثراء، فكم منهم يستمتع بهذا الري؟ وكم منهم ينعم بهذا الثراء؟ آحاد الألوف أو عشرات الألوف أو مئات الألوف إن شئت، ولكن هناك ملايين وملايين من المصريين لا ينعمون بهذا الري؛ وإنما يشربون ماء يحمل إليهم المرض والأذى والعناء، ولا يستمتعون بالثراء وإنما يصارعون البؤس والحرمان، فيصرعهم البؤس والحرمان آخر الأمر وهم يسمعون أن حكومتهم تحتفل بوفاء النيل، وهم يعلمون أن النيل قد وفى، وهم يحتفلون بالعيد؛ لأن الأعياد قد خلقت للاحتفال بها، وهم يرضون عن وفاء النيل ويبتهجون به؛ لأن وفاء النيل شيء يسر ويشيع الابتهاج.
ولكن وفاء النيل بالقياس إليهم معناه: الكد الذي لا يعصم صاحبه من الجوع، والعناء الذي لا يحمي صاحبه من الحرمان. معناه: العمل لتمتلئ بعض الأيدي، وتظل يد العامل خالية لا تمسك شيئا. معناه: الشقاء لتكتظ بعض البطون، ويظل بطن العامل خاليا يمزقه الجوع. معناه: العمل لينعم فريق من الناس، وليمعن أكثر الناس في هذا الابتئاس البغيض الذي ألفه أصحابه حتى رأوه حقا عليهم، وحتى وثقوا بأنه نصيبهم من الحياة؛ فرضوا به واطمأنوا إليه، ولم يحاولوا تغييره ولا التخلص منه؛ لأنهم لا يستطيعون مغالبة القضاء؛ فهم ماضون في شقائهم، محتملون لآلامهم، راضون بما قسم لهم. والمتنبي وأمثاله ينظرون إليهم فيفهمون عن صمتهم، ويبينون عن غيهم بهذا البيت:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
كذلك يحتفل المصريون بوفاء النيل، فأما احتفالهم بالاستقلال فليس أقل روعة ولا بهجة ولا جمالا، هو ملائم كل الملاءمة لحياتهم المادية التي يحيونها.
كانوا يظنون أن إمضاء المعاهدة خطوة تقرب من الأمل، وتدني من الحق، وكانوا يظنون أنهم قد دافعوا عن الديمقراطية، وأبلوا في الدفاع عنها بلاء حسنا، وكانوا يظنون أنهم قد صبروا حين قل الصابرون، وأنهم قد وفوا حين قل الأوفياء، وأنهم قد ثبتوا حين زاغت الأبصار، وطارت النفوس، وبلغت القلوب الحناجر، وأن هذا كله سيبلغهم آمالهم، ويكسبهم حقوقهم، ولكنهم نظروا فإذا الذين لم يصبروا ولم يثبتوا ولم يفوا أحسن منهم حالا، وأدنى منهم إلى تحقيق الآمال وإرضاء المطامع والمآرب.
نامعلوم صفحہ