بل قد توهمت أحيانا عند إلحاحه عليها في الانتقال إلى بيته أنه يضمر نية استغلالية نحو معاشها وبيتها الذي سيخلو بعد انتقالها، ففزعت إلى الرفض لحد العناد الأعمى، ولما نزل السيد عند إرادتها قالت له بارتياح: «لا تؤاخذني بإصراري يا ابني، ربنا يكرمك بما أوليتني من عطف، ألا ترى أنه لا يسعني أن أهجر بيتي؟ ... وما أجدرك أن تجاري عجوزا مثلي على علاتها بيد أني أستحلفك بالله إلا ما سمحت لأمينة والأولاد بزيارتي الحين بعد الحين بعد أن أمسى خروجي من البيت متعذرا.» وهكذا بقيت في بيتها كما أرادت متمتعة بسيادتها وحريتها، وكثير من عادات الماضي العزيز. وإذا كان بعض هذه العادات، كالمغالاة الشاذة في الاهتمام بشئون البيت والمال، مما يتنافر مع هدوء الشيخوخة الحكيمة وتسامحها، وبالتالي مما يبدو كعارض من أعراض الهرم الانتكاسية، فثمة عادة أخرى مما حافظت عليه جديرة بأن تزين الشباب، وبأن تضفي على الشيخوخة جلالا، تلك هي العبادة. كانت ولم تزل مطمح حياتها ومشرق آمالها وسعادتها، رضعتها صغيرة في كنف أب شيخ من شيوخ الدين، وتغلغلت في أعماقها بزواجها من شيخ آخر لم يكن دون أبيها ورعا وتقوى. وظلت تمارس بحب وإخلاص غير مفرقة في إخلاصها بين ما هو دين حقا وما هو خرافة خالصة، حتى عرفت بين جاراتها بالشيخة المباركة. صديقة الجارية وحدها التي عرفتها بخيرها وشرها، فربما قالت لها على أثر مشادة مما ينشب بينهما: «يا ستي أليست العبادة أولى بوقتك من الشجار والنقار على التافه من الأمور؟!» فتجيبها محتدة: «يا لئيمة إنك لا توصيني بالعبادة حبا فيها، ولكن كي يخلو لك مجال العبث والإهمال والقذارة والسلب والنهب، إن الله يأمر بالنظافة والأمانة، فمراقبتك ومحاسبتك عبادة وثواب!» ولأن الدين قد شغل من حياتها تلك المكانة العالية، فقد سما أبوها ومن بعده زوجها إلى مكانة رفيعة من نفسها فوق ما كان لهما بحكم القرابة، وطالما غبطتهما على ما شرفا به من حيازة كلمات الله ورسوله في صدريهما، ولعلها ذكرت هذا حين خاطبت أمينة مواسية ومشجعة فقالت: ما أراد السيد بإخراجك من بيتك إلا إعلان غضبه على مخالفتك لأمره، ولكنه لن يجاوز حدود التأديب، أجل لن يحيق سوء بمن كان لها أب كأبيك أو جد كجدك.
وابتل صدر أمينة بذكر أبيها وجدها كما يبتل صدر المنقطع به الطريق في الظلمات، إذا ترامى إليه صوت الغفير وهو يهتف: «هوه» فآمن قلبها بقول أمها لا لتلهفها على الطمأنينة فحسب، ولكن لإيمانها قبل كل شيء ببركة الشيخين الراحلين، فلم تكن إلا صورة من أمها في جسمها وإيمانها وجل طباعها. وانثالت على وجدانها في تلك اللحظة ذكريات أبيها الذي أفعم قلبها وليدة بالحب والإيمان، فدعت الله أن ينتشلها من ورطتها إكراما لبركته. وعادت العجوز إلى مواساتها، فقالت وعلى شفتيها الجافتين ابتسامة رقيقة: إن الله يرعاك دائما برحمته، اذكري عهد الوباء لا أرجعه الله، وكيف نجاك الله من شره فقضى أخواتك ولم يمسك سوء!
غلبها الابتسام على كآبتها فابتسمت، وتفرست في غبش من الماضي كاد يمحوه النسيان فوضحت - بعض الوضوح - من خليط الذكريات صورة أحيت في نفسها أصداء من عهد الرعب، وهي صبية تحجل خارج أبواب غلقت على أخوات مستلقيات على أسرة المرض والموت، وهي وراء النافذة تنظر إلى سيل من النعوش لا ينقطع والناس تفر من طريقها، أو وهي تسمع إلى جماهير من الشعب التقت في ذعرها ويأسها برجل من رجال الدين - كما كان يتفق لأبيها - وراحت تجأر بالشكوى، وترسل الدعوات إلى رب السماء، وعلى رغم استفحال الشر وهلاك أخواتها جميعا، فقد أفلتت من براثن الوباء سالمة آمنة، لم يكدر صفوها إلا عصير الليمون والبصل الذي كانت تجبر على تجرعه مرة أو مرتين في اليوم. واستطردت الأم بصوت نمت رقته وحنانه على الاسترسال في الأحلام كأنما قد ردها التذكر إلى العهد الخالي، فاستعادت حياته وذكرياته - العزيزة الغالية لاقترانها بالشباب - خالصة من شوائب الألم المنسي، فقالت: ولم يقنع حظك السعيد بإنقاذك من الوباء، لكنه أبقاك وحيدة الأسرة، وكل ما لها في الدنيا من أمل وعزاء وسعادة، فترعرعت في صميم قلوبنا.
لم تعد أمينة ترى الحجرة - بعد هذا الخطاب - كما كانت تراها قبله، بعثت جدة الشباب في كل شيء، في الجدران والسجادة والسرير، في أمها وفيها هي نفسها، ورد أبوها إلى الحياة واتخذ مجلسه المعهود، وعادت تصغي إلى مناغاة الحب والتدليل، وتحلم بقصص الأنبياء والمعجزات، وتستعيد نوادر السابقين من الصحابة والكفار إلى عرابي باشا والإنجليز ، بعثت الحياة الماضية بأحلامها السحرية وآمالها الواعدة، وسعادتها المرجوة، ثم قالت العجوز بلهجة من يقرر النتيجة النهائية لما مهد به من مقدمات منطقية: أليس الله حافظك وراعيك؟!
بيد أن القول نفسه تضمن عزاء موحيا ذكرها بحالها الراهنة، فاستيقظت من حلم الماضي السعيد عائدة إلى كآبتها، كما يعود السالي إلى اجترار أحزانه بكلمة مواساة تلقى إليه بحسن نية، ولبثت إلى جانب أمها في حال من الفراغ الصارم لم تعهدها إلا حين مرضها، فأنكرتها وضاقت بها، ولم يشغل حديثها المتواصل مع أمها إلا نصف انتباهها على حين بقي النصف الآخر مرعى للضيق والقلق، ولما جاءت صديقة ظهرا بصينية الغداء، قالت لها العجوز بقصد تسلية ابنتها أولا: «جاءك رقيب ليكشف عن سرقاتك؟» ولكن أمينة لم يكن يهمها وقتذاك أن تسرق المرأة أو تلتزم الأمانة، ولم ترد الجارية على سيدتها إكراما للضيفة من ناحية ولأنها من ناحية أخرى ألفت مرارة سيدتها وحلاوتها، فلم يعد لها غناء عن الاثنتين. وباستدارة النهار اشتد تعلق فكرها ببيتها وتهالك عليه؛ لأنه في ذلك الوقت يعود السيد إلى البيت للغداء والقيلولة، ثم يرجع الأبناء تباعا عقب خروج الرجل إلى الدكان، فرأت، بخيالها الذي استمد من الألم والحنين قوة خارقة، البيت وآله كأنهم شهود. رأت السيد وهو يخلع جبته وقفطانه دون مساعدتها التي تخاف أن يكون قد ألف الاستغناء عنها منذ رقادها الطويل، وحاولت أن تقرأ ما يدور وراء جبينه من أفكار ونوايا، هل يستشعر الفراغ الذي خلفته وراءها، وكيف كان إحساسه حين لم يجد لها من أثر في البيت، ألم يرد لها ذكر على لسانه لسبب أو لآخر؟ ... وها هم الأبناء عائدون وها هم يهرعون إلى الصالة بعد طول اشتياق إلى مجلس القهوة، فيلقون مجلسها شاغرا، ويسألون عنها فتجيبهم نظرات أختيهم المتجهمة الدامعة، ترى كيف يتلقى فهمي الخبر، وهل يدرك كمال - وهنا خفق قلبها خفقة جارحة - معنى غيابها؟ أيتشاورون طويلا؟ ... ماذا ينتظرون؟ ... لعلهم في الطريق يستبقون إليها ... يجب أن يكونوا في الطريق، أم يكون قد أصدر أمرا بعدم زيارتها ؟ يجب أن يكونوا في الخرنفش ... سترى عما قليل. - أتحدثينني يا أمينة؟
بهذا السؤال قاطعت العجوز خيالها، فانتبهت إليها في دهشة ممزوجة بالحياء؛ إذ فطنت إلى أن كلمات - من حديثها الباطن مع نفسها - قد تسللت في غفلة منها إلى طرف لسانها محدثة الحس الذي التقطته أذن أمها المرهفة، فلم تر بدا من أن تجيبها قائلة: إني أتساءل يا أمي ألا يجيء الأولاد لزيارتي؟ - أظنهم جاءوا!
قالت العجوز وهي ترهف السمع مادة رأسها إلى الأمام، فأنصتت أمينة صامتة، فترامى إليها صوت مطرقة الباب، وهي ترسل ضربات سريعة متلاحقة كأنها صوت يبعث في لهفة بصرخات استغاثة حارة، فعرفت وراء هذه الضربات العصبية قبضة كمال الصغيرة كما كانت تعرفها وهي تدق عليها باب حجرة الفرن، وسرعان ما هرعت إلى رأس السلم، وهي تنادي صديقة لتفتح الباب، ثم أطلت من فوق الدرابزين، فرأت الغلام وهو يثب فوق درجات السلم، وفي أثره فهمي وياسين، وتعلق كمال بعنقها فعاقها قليلا عن عناق الآخرين، ثم دخلوا الحجرة وهم، من جيشان النفس وتبلبل الخاطر، يتكلمون في وقت واحد لا يبالي أحدهم ما يقول الآخرون، ولما رأوا الجدة واقفة مبسوطة الذراعين مشرقة الوجه بابتسامة ترحاب مفعمة بالحب أمسكوا عن الكلام إلى حين، وأقبلوا عليها تباعا فساد صمت نسبي تخللته همسات القبل المتبادلة، وأخيرا هتف ياسين بصوت ينم عن الاحتجاج والحزن: نحن الآن لا بيت لنا، ولن يكون لنا بيت حتى تعودي إليه.
وآوى كمال إلى حجرها كالهارب، وهو يقول مفصحا لأول مرة عن نيته التي طوى صدره عليها في البيت وفي الطريق: سأبقى هنا مع نينة ... ولن أعود معكما.
أما فهمي فقد رنا إليها طويلا صامتا، كشأنه إذا أراد أن يحدثها بالنظر، فوجدت في نظرته الصامتة خير معبر عما يعتلج في صدريهما معا. هذا الحبيب الذي لا يفوق حبه لها إلا حبها له، والذي يندر أن يشير في أحاديثه معها إلى عواطفه، ولكن تشي به خطرات نفسه وكلماته وفعاله، وقد قرأ الفتى في عينيها نظرة تدل على الألم والخجل، فاشتد تأثره وقال بحزن وتألم: نحن الذين اقترحنا عليك الخروج، وشجعناك عليه، ولكن ها أنت وحدك تتلقين العقاب.
فابتسمت الأم في ارتباك وقالت: لست طفلة يا فهمي، وما كان ينبغي لي أن أفعل.
نامعلوم صفحہ