وجاء جميل الحمزاوي بكرسي وهو يرحب بمقدمه، فأمره والده بالجلوس فقرب الشاب الكرسي من مكان أبيه وجلس، وبدا لحظات كالمتردد، ثم زفر ثائرا بتردد وقال بنبرات متهدجة وفي اقتضاب مؤثر: المسألة أن أمي شارعة في الزواج!
ومع أن السيد توقع خبرا سيئا إلا أن خياله لم يجنح في جولته التشاؤمية إلى تلك الناحية التي أودعها ركنا مهجورا من ماضيه؛ لذلك لقيت منه المفاجأة صيدا غافلا، وسرعان ما قطب كما يقطب كلما عرض له عارض من ذكريات زوجه الأولى، وتولاه لذلك ضيق، ثم انزعاج لما يمس ابنه مباشرة في صميم كرامته، وكشأن السائلين الذين يلقون السؤال لا ليعرفوا جديدا ولكن ليلتمسوا منفذا للنجاة من الواقع وهم يائسون، أو ليهيئوا لأنفسهم مهلة للتروي وتمالك الأعصاب، وسأله: ومن أدراك بهذا؟ - قريبها الشيخ حمدي، زارني اليوم بمدرسة النحاسين، وألقى علي الخبر مؤكدا بأنه سيتم في ظرف شهر.
الخبر حق لا ريب فيه، وما هو بالأول من نوعه في حياتها، ولن يكون الأخير إذا اتخذ الماضي مقياسا للمستقبل، ولكن أي ذنب جناه هذا الشاب ليلقى هذا الجزاء الصارم المتجدد الأذى؟! ووجد الرجل نحو ابنه رثاء وعطفا، وعز عليه أن يقف من آلامه موقف العجز وهو الذي يقصده الناس في الملمات، وتساءل فيما بينه وبين نفسه ماذا تكون حاله لو كان هو المبتلى بهذه الأم! ... فانقبض صدره وتضاعف رثاؤه وعطفه نحو ابنه، ثم شعر برغبة تدفعه إلى السؤال عن ذلك الزوج المنتظر ولكنه لم يستسلم لها؛ إما لأنه أشفق من أن تزيد جرح ابنه عمقا واتساعا، وإما لأنه أنكرها على نفسه لما آنس بها من حب استطلاع لا يليق بالمأساة الراهنة، موجه إلى المرأة التي كانت زوجا له، بيد أن ياسين قال منفعلا من تلقاء نفسه وكأنه يجيب خاطرته: وممن تتزوج! ... من شخص يدعى يعقوب زينهم صاحب مخبز في الدراسة ... في الثلاثين من عمره!
واشتد انفعاله وتهدج صوته، وهو ينطق العبارة الأخيرة كأنما يلفظ شظية، فانتقل إحساسه إلى أبيه تقززا واشمئزازا، وجعل يردد في سره: في الثلاثين من عمره ... يا له من عمل فاضح! ... إنه فسق في ثياب زواج ... غضب الرجل لغضب ابنه، وغضب لحساب نفسه هو كما اعتاد أن يغضب كلما ترامى إليه نبأ من مباذلها، كأنما يتجدد شعوره بتبعته في اعتبارها يوما زوجا له، أو كأنما يعز عليه - ولو بعد كرور ذاك الزمن الطويل - أنها أفلتت من تأديبه والإذعان لسنته! وإنه ليذكر أيام معاشرته لها - على قصرها - كما يذكر الإنسان حمى هاضته، وربما كان مغاليا في تصوره، ولكن رجلا في مثل اعتداده بنفسه جدير بأن يرى في مجرد الرغبة عن الإذعان لمشيئته جريمة لا تغتفر وهزيمة قتالة. ثم إنها كانت - ولعلها لا تزال - جميلة مترعة أنوثة وجاذبية، فنعم بمعاشرتها أشهرا حتى بدا منها شيء من المقاومة لإرادته التي نزع إلى فرضها على المتصلين به من آله، ولم تر بأسا في الاستمتاع بالحرية ولو بالقدر الذي يتيح لها زيارة أبيها من آن لآن، فغضب السيد وحاول منعها بالزجر أولا ثم بالضرب المبرح أخيرا، فما كان من المرأة المدللة إلا أن فرت إلى والديها! وأعمى الغضب الرجل المتعجرف فظن أن خير سبيل إلى تأديبها وإرجاع عقلها إلى رأسها هو أن يطلقها إلى حين - إلى حين طبعا لأنه شديد التعلق بها - فطلقها، وتظاهر بإهمالها أياما وأسابيع وهو ينتظر آملا أن يجيئه وسيط خير من آلها، فلما لم يطرق بابه أحد داس كبرياءه وبعث هو من يجس النبض تمهيدا للصلح، فعاد الرسول يقول إنهم يرحبون به على شرط ألا يسجنها أو يضربها ! ... ولكنه كان ينتظر موافقته بلا قيد ولا شرط، فثار غضبه ثورة عاتية وأقسم فيما بينه وبين نفسه ألا يضمهما رباط إلى الأبد. هكذا ذهب كلاهما إلى حال سبيله، وهكذا قضي على ياسين أن يولد بعيدا عن أبيه، وأن يلقى من حياته في بيت أمه ما لقي من ضروب المذلة والألم.
ومع أن المرأة تزوجت أكثر من مرة، ومع أن الزواج كان - في نظر ابنها - أشرف سقطاتها، إلا أن هذا الزواج الجديد المتوقع بدا أفظع من سوابقه وأمعن في الإيلام؛ لأن المرأة استوت على الأربعين من ناحية، ولأن ياسين اكتمل شابا مدركا بوسعه إذا شاء أن يدفع عن كرامته الإساءة والهوان من ناحية أخرى، فقد جاوز إذن موقفه القديم الذي ألزمته إياه حداثة سنه، حين كان يتلقى الأنباء المثيرة عن أمه بالدهش والانزعاج والبكاء إلى موقف جديد بدا فيه أمام نفسه رجلا مسئولا، لا يصح له أن يلقى الإساءة مكتوف اليدين. دارت هذه الخواطر بذهن السيد، وقدر خطورتها بقلق، ولكنه صمم على التهوين من شأنها ما وسعته الحيلة ابتعادا بابنه الأكبر عن المتاعب، فهز منكبيه العريضين متظاهرا بالاستهانة، وقال: ألم نتعاهد على اعتبارها كشيء لم يكن؟!
فقال ياسين في حزن وقنوط: ولكنها شيء كائن يا أبي! ... ومهما يكن من أمر تعاهدنا فلن تزال أمي إلى ما شاء الله، سواء في نظري أم في نظر الناس جميعا ... لا مفر ولا خلاص.
ونفخ الشاب من الأعماق، ورنا إلى أبيه بعينيه السوداوين الجميلتين - اللتين ورثهما عنها - في استغاثة صارخة وكأنه يقول له: «إنك أبي الجبار القادر فمد لي يدك.» فبلغ التأثر بالسيد غايته ولكنه واصل تظاهره بالهدوء المقرون بالاستهانة قائلا: لا أنكر عليك تألمك، ولكني أنكر عليك أن تغالي فيه، كذلك يطيب لي أن أعذرك على غضبك ولكن قليلا من العقل حري بأن يردك بلا عناء، سائل نفسك في هدوء ماذا عليك من زواجها؟ ... امرأة تتزوج، كما تتزوج النساء كل يوم وكل ساعة، وليست هي بالتي تحاسب على مثل هذا الزواج لما سلف من سلوكها، بل لعلها خليقة بأن تشكر عليه، وكما قلت لك مرارا لن يرتاح لك بال حتى تسقطها من حسابك كأنها لم تكن، فافعل بالله وأرح نفسك، وتعز - مهما يكن من أمر القيل والقال - بأن الزواج علاقة مشروعة ... شريفة.
قال السيد هذا بلسانه فحسب - إذ كان يناقض كل المناقضة ما طبع عليه من غيرة متطرفة فيما يتصل بالآداب المطلقة للأسرة - ولكنه قاله بحرارة كالصدق، منشؤها ما مارسه من لباقة أهلته لأن يكون الحكم الحكيم ووسيط الخير الذي لا يعجزه فض نزاع بين الناس، ومع أن كلامه لم يضع هباء - حيث إنه من المستحيل أن يضيع كلام للسيد هباء حيال أحد من أبنائه - إلا أن غضب الفتى كان أعمق من أن يتبخر بنفخة واحدة، فوقع منه موقع قدح بارد من إبريق بالماء المغلي، وما لبث أن خاطب أباه قائلا: هو علاقة مشروعة حقا يا أبي، ولكنها تبدو أحيانا أبعد ما تكون عن الشرع، إني أسائل نفسي عما يدفع هذا الرجل إلى الزواج منها؟!
وبالرغم من خطورة الحال قال السيد لنفسه في شيء من السخرية «أولى بك أن تسأل عما يدفعها هي!» وقبل أن يحاور ابنه واصل ياسين حديثه قائلا: إنه الطمع ... ولا شيء غيره! - أو لعلها رغبة صادقة في الزواج منها.
ولكن الشاب هاج ثائره وهتف في حنق وألم معا: بل الطمع وحده.
نامعلوم صفحہ