وكان ياسين يعطف على آمال أخيه، ولكن في هدوء متسم بقلة الاكتراث، تمنى مثله أن ينتصر الألمان وبالتالي الترك، وأن تسترد الخلافة سابق عزتها، وأن يعود عباس ومحمد فريد إلى الوطن، ولكن أمنية من هذه الأماني لم تكن لتشغل قلبه في غير أوقات الحديث عنها، وقد قال وهو يهز رأسه: مضى أربع سنوات ونحن نردد هذا الكلام.
فقال فهمي برجاء وإشفاق: لكل حرب نهاية، ولا بد أن تنتهي هذه الحرب، ولا أظن الألمان ينهزمون! - هذا ما ندعو الله أن يتحقق، ولكن ماذا يكون رأيك لو وجدنا الألمان كما يصفهم الإنجليز؟!
ولما كانت المعارضة تشعل حدته، فقد علا صوته وهو يقول: المهم أن نتخلص من كابوس الإنجليز، وأن تعود الخلافة إلى سابق عظمتها، فنجد طريقنا ممهدا ...
وتدخلت خديجة في الحديث متسائلة: ولماذا تحبون الألمان وهم الذين أرسلوا زبلن ليلقي قنابله علينا!
وراح فهمي يؤكد - كعادته - أن الألمان قصدوا الإنجليز بقنابلهم لا المصريين، فانتقل الحديث إلى مناطيد زبلن، وما يقال عن ضخامتها وسرعتها وخطورتها، حتى استوى ياسين في جلسته ونهض إلى حجرته ليرتدي ملابسه تمهيدا لمغادرة البيت إلى سهرته المعتادة، وعاد بعد فترة وجيزة وقد تهيأ وأخذ زينته، فتراءى أنيق الملبس، جميل المظهر، وبدا بجسمه الضخم وفحولته الناضجة وشاربه النابت أكبر من سنه كثيرا، ثم حياهم وانصرف وشيعه كمال بنظرة تنم عما يغبطه عليه من التمتع بحريته في انطلاق ساحر، فلم يغب عنه أن أخاه لم يعد يحاسب - منذ تعيينه كاتبا بمدرسة النحاسين - على ذهابه أو إيابه، وأنه يسهر كما يشاء ويعود حين يشاء، ما أجمل هذا وأسعده، وكم يكون إنسانا سعيدا لو ذهب وجاء كما يحب، ومد سهرته إلى حين يشاء، وقصر القراءة - حين تتم له أداتها - على الروايات والأشعار، ثم سأل أمه فجأة: أيمكنني إذا وظفت أن أسهر في الخارج كياسين؟
وابتسمت الأم قائلة: ليس السهر في الخارج بالغاية التي يصح أن تحلم بها من الآن!
فصاح محتجا: ولكن أبي يسهر، وياسين يسهر كذلك.
فرفعت الأم حاجبيها ارتباكا وتمتمت: شد حيلك أولا حتى تصير رجلا ثم موظفا، ووقتها يفرجها ربنا!
ولكن كمال بدا متعجلا فتساءل: ولماذا لا أتوظف بالابتدائية بعد ثلاثة أعوام؟
وصاحت خديجة في سخرية: تتوظف دون الرابعة عشرة! ... وماذا تصنع إذا بلت على نفسك في الوظيفة؟!
نامعلوم صفحہ