فقال دون تردد: أمرك يا أبي ...
أي عيشة وأي بيت وأي أب، زجر وتأديب ونصائح، ازجر نفسك ... أدب نفسك ... انصح نفسك، أنسيت زبيدة؟ ... وجليلة؟ ... والغناء والشراب؟ ثم تطالعنا بعمامة شيخ الإسلام وسيف أمير المؤمنين، لم أعد طفلا، اعتن بالقصر ودعني وشأني، تزوج ... أمرك يا افندم ... طلق ... أمرك يا افندم ... ملعون أبوك.
61
خفت حدة المظاهرات شيئا ما في حي الحسين بعد احتلال الجنود الإنجليز له، فأمكن للسيد أحمد أن يستأنف ممارسة عادة قديمة انقطع عنها مضطرا إلى حين، أمكنه أن يصطحب أبناءه إلى مسجد الحسين لتأدية صلاة الجمعة ... عادة قديمة دأب عليها منذ عهد بعيد ... كان يدعو ابنه إليها حالما يبلغ صباه؛ ليوجه قلبه إلى العبادة مبكرا، مستوهبا من ورائها البركة لنفسه ولأبنائه وللأسرة جميعا. ربما كانت أمينة وحدها التي لا ترتاح إلى تحرك القافلة في نهاية كل أسبوع حاملة رجالها، ثلاثة رجال كالجمال طولا وعرضا إلى فتوتهم وإشراقهم، كانت تتبعهم ناظريها من خصاص المشربية، فيخيل إليها أنهم ملتقى الأنظار، فتجزع وتدعو الله أن يقيهم شر العين، وما ملكت يوما أن أفضت بمخاوفها إلى السيد، فبدا وكأنه تأثر لتحذيرها حينا، بيد أنه لم يستسلم للخوف طويلا وقال لها: «إن بركة الفريضة التي نذهب لتأديتها حقيقة بأن تحفظنا من كل شر.»
وكان فهمي يلبي دعوة الجمعة ببشاشة قلب أولع بتأدية الفرائض منذ الصغر، مطيعا في ذلك - قبل إرادة أبيه - عاطفة دينية صادقة. تمتاز إلى صدقها بقدر من الاستنارة لا بأس به، استمده مما اطلع عليه من آراء محمد عبده وتلاميذه ... لذلك كان الوحيد في الأسرة الذي يقف من إيمانها بالتعاويذ والرقى والأحجبة وكرامات الأولياء موقف المتشكك، وإن أبت عليه دماثة خلقه أن يجهر بتشككه أو يعلن استهانته، بل كان يتقبل حجاب الشيخ متولي عبد الصمد الذي يجيء به أبوه بين حين وآخر برضا ظاهري. أما ياسين فكان يلبي دعوة أبيه؛ لأنه لم يكن من تلبيتها بد، لعله لو ترك لشأنه ما فكر يوما في أن يدس جسمه الضخم في زحمة المصلين، لا عن تزعزع في العقيدة، ولكن استهانة وتكاسلا ... لذا كان ليوم الجمعة عنده هم يكابده مع مطلع الصباح، فإن حان وقت الذهاب إلى الجامع ارتدى بدلته في شيء من التذمر، ثم يسير وراء أبيه كالأسير، ولكن كلما اقترب من الجامع خطوة تخفف من تذمره رويدا، حتى يدخل الجامع منشرح الصدر، فيؤدي الصلاة ويدعو الله أن يغفر له ويعفو عن ذنوبه، دون أن يسأله التوبة كأنما يشفق في أعماقه أن يستجاب دعاؤه، فينقلب زاهدا في اللذات التي يحبها حبا لا يرى للحياة بدونه معنى. كان يعلم علم اليقين أن التوبة واجبة، وأن مغفرة لن تكتب له بدونها، ولكنه كان يرجو أن تجيء في الوقت «المناسب» حتى لا يخسر الدارين؛ ولذا كان على تكاسله وتذمره يحمد في النهاية الظروف التي تدفعه إلى تأدية فريضة هامة كفريضة الجمعة يمكن - عند الحساب - أن تمحو بعضا من سيئاته وتخفف من أوزاره، خصوصا وأنه لا يكاد يؤدي غيرها فريضة.
أما كمال فلم توجه إليه الدعوة إلا حديثا، مذ جاوز العاشرة ، فنهض إلى تلبيتها في زهو وخيلاء وفرح، شعر شعورا غامضا بأنها تتضمن اعترافا بشخصه، وأنها تمنحه مساواة من نوع ما مع فهمي وياسين وأبيه نفسه، ثم سره على وجه الخصوص أن يسير في ركاب أبيه آمنا أي دون أن يتوقع من ناحيته شرا، وأن يقف في الجامع إلى جانبه على قدم المساواة مؤتمين جميعا بإمام واحد. بيد أنه كان يستغرق في صلاته اليومية - في البيت - استغراقا لا يظفر بمثله في صلاة الجمعة بالنظر إلى ما يعتريه من ارتباك لقيامه وسط خلق لا يحيط بهم حصر، ولإشفاقه من أن تند عنه هفوة فتلتقطها إحدى حواس أبيه، إلى أن شدة شعوره بالحسين - الذي يحبه أكثر من نفسه - وهو في مسجده كانت تحول بينه وبين التوجه الخالص لله كما ينبغي للمصلي.
هكذا رآهم طريق النحاسين مرة أخرى وهم يحتثون الخطى إلى بيت القاضي، السيد في المقدمة وياسين وفهمي وكمال وراءه صفا، حتى اتخذوا مجالسهم في الجامع، وراحوا ينصتون إلى خطبة الجمعة بين رءوس مشرئبة إلى المنبر في صمت شامل، لم يكن السيد على شدة إنصاته يكف عن الدعاء الباطني، وتوجه قلبه إلى ياسين خاصة، كأنما رآه بعدما لحق به من عثار الحظ أحق بالرحمة، فدعا الله طويلا أن يصلح من شأنه ويقوم ما اعوج من أمره ويعوضه عما فقد خيرا ... على أن الخطبة جبهته بمعاصيه، أخلت ما بينه وبينها، فطالعها وجها لوجه في هالة مرعدة من صوت الواعظ الجهوري الرنان الناقد، حتى خيل إليه أنه يعنيه بالذات، وأنه يشد على أذنه صارخا فيها بأعلى صوته، وأنه لا يستبعد أن يخاطبه باسمه قائلا: «يا أحمد ازدجر ... تطهر من الفسق والخمر وتب إلى الله ربك.» فألم به قلق وضيق كما ألما به يوم ناقشه الشيخ متولي عبد الصمد الحساب، وهو ما يقع له كثيرا عند سماع الخطبة، فيسترسل في طلب الغفران والعفو والرحمة، ولكنه - كابنه ياسين - لم يكن يطلب التوبة، وإن طلبها فبلسانه دون قلبه، يقول بلسانه: «اللهم التوبة» على حين يقتصر قلبه على طلب الغفران والعفو والرحمة كأنهما آلتان موسيقيتان تعزفان معا في أوركسترا واحد، فتصدر عنهما نغمتان مختلفتان؛ لأنه لم يتصور أن يرى الحياة بغير العين التي يراها بها، ولا أن تبدو له بغير الوجه الذي تبدو به، فإذا ألح عليه القلق والضيق المستوليان عليه نهض للدفاع عن نفسه ... ولكنه يلقي دفاعه في صورة دعاء واستغفار فيقول: «اللهم إنك أعلم بقلبي وإيماني وحبي، اللهم زدني استمساكا بتأدية فرائضك، وقدرة على صنع الخير، اللهم إن الحسنة بعشر أمثالها، اللهم إنك أنت الغفور الرحيم» ... وبهذا الدعاء تعاوده الطمأنينة رويدا.
لم تكن لياسين مثل هذه المقدرة على التوفيق، أو أنه لم يشعر قط بحاجة إليها، لم تكن موضع تفكيره يوما، يهيم بالحياة كما يشتهي ويؤمن بالله كما يؤمن بوجوده هو، ثم يستسلم للتيار دون مقاومة أو ممانعة. قرعت أذنيه كلمات الواعظ، فتحرك صوته الباطني سائلا الرحمة والمغفرة بطريقة آلية وفي طمأنينة شاملة، دون أن يستشعر خطورة حقيقية، إن الله أرحم من أن يحرق مسلما مثله بهفوات عابرة لا تؤذي أحدا من عباده، ثم هنالك التوبة! ... ستأتي «يوما» فتمحو ما قبلها، واسترق نظره إلى أبيه وتساءل وهو يعض على شفتيه كأنما يكتم ضحكة نافرة مما عسى أن يدور بخاطره، وهو ينصت بهذا الاهتمام البادي إلى الخطبة؟ ... أهو يعاني العذاب كل صلاة جمعة أم تراه ينافق ويخادع؟ ... كلا ... لا هذا ولا ذاك ... إنه مثله - ياسين - يؤمن برحمة الله الواسعة، لو أن الأمر بالخطورة التي يصفه بها الواعظ لاختار أبوه إحدى السبيلين، استرق إليه نظرة أخرى، فرآه كالجواد الكريم الجميل بين القاعدين المتطلعين إلى المنبر، شعر نحوه بإعجاب وحب خالصين، لم يعد للحنق أثر في نفسه، ومع أن الغضب بلغ به مداه يوم الطلاق، حتى بث همه إلى فهمي قائلا: «لقد خرب أبوك بيتي، وجعلني أضحوكة بين الناس.» إلا أنه تناسى الآن حنقه كما تناسى الطلاق والفضيحة وكل شيء، ثم هذا الواعظ نفسه ليس خيرا من أبيه ... بل هو على وجه اليقين أمعن في الضلال، حدثه عنه مرة أحد الأصحاب في قهوة أحمد عبده فقال: «إنه يؤمن بشيئين ... بالله في السماء وبالغلمان في الأرض، إنه من طراز حساس ترف عينه وهو في الحسين إذا تأوه غلام في القلعة.» بيد أنه لم يحقد عليه لذاك، وعلى العكس وجد فيه كما وجد في أبيه ما يجد الجندي في الخنادق المحفورة في الخطوط الأمامية التي على العدو أن يقتحمها قبل أن يصل إليه.
ثم دعا الداعي إلى الصلاة، فقام الرجال قومة واحدة، وقفوا صفوفا متراصة ملأت صحن الجامع الكبير، صار المسجد أجسادا ونفوسا، ذكر كمال احتشادها مشهد المحمل في النحاسين. واتصلت الأزياء في خطوط طويلة متوازية وحدتها البدل والجبب والجلاليب، ثم انقلب الجمع جسما واحدا تصدر عنه حركة واحدة مستشرفا قبلة واحدة، وترددت التلاوات الهامسة في همهمة شاملة، حتى أذن بالسلام ... عند ذاك انتثر سلك النظام، استردت الحرية أنفاسها، نهض كل لوجهته، منهم من قصد الضريح للزيارة، ومنهم من اتجه نحو الأبواب للخروج، ومنهم من تلبث للحديث أو تريث حتى يخف الزحام ... فاختلطت تياراتهم أيما انتشار، أزفت الساعة السعيدة التي مني كمال بها ... ساعة الزيارة ولثم الجدران وقراءة الفاتحة أصالة عن نفسه وإنابة عن أمه كما وعدها، بدأ يتحرك ببطء في ركاب أبيه ... وما يدري إلا وشاب أزهري يبرز من الزحمة فجأة، فيعترض سبيلهم في حركة عنيفة لافتة للأنظار، ثم بسط ذراعيه لينحي الناس جانبا، ومضى يتقهقر أمامهم وهو يتفحص ياسين بنظرات ثاقبة مريبة وقد عبس وجهه، وتطايرت نذر الغضب من صفحته المكفهرة. عجب السيد له، فجعل يردد بصره بينه وبين ياسين، على حين بدا ياسين أشد عجبا، فراح بدوره يردد بصره بينه وبين أبيه متسائلا، ثم انتبه أناس إلى المشهد فركزوا فيه أنظارهم مترقبين في دهشة واستطلاع، وعند ذاك لم يتمالك السيد أن خاطبه متسائلا في استياء: ما لك يا أخي تنظر إلينا هكذا؟!
فأشار الأزهري إلى ياسين وصاح بصوت كالرعد: جاسوس!
نامعلوم صفحہ