فعرض عليه الإمبراطور لويس وظائف شتى سامية فرفضها، ثم منحه لقب بارون، وجعل هذا اللقب لأولاده من بعده، وأحال إليه كل مشروعات المملكة، وخصه بالامتيازات الجليلة.
ودعي فركنباك إلى مرقص أعده الإمبراطور في قصره، فأخذه هذا وانفرد به في غرفة صغيرة وقال له: قد أمرت أن تصنع لك شارة شرف تعلق على بابك، فماذا تحب أن يكتب عليها؟ فأجابه فركنباك من فوره: «أبقى مخلصا ما حييت»، فسر الإمبراطور، وفي اليوم الثاني طار الخبر إلى جميع الأنحاء، فكتبت الجرائد وأطنبت بمدح المحسن والمحسن إليه.
ولما وصل جورج فركنباك إلى هذه المكانة من الثروة والرفعة، زعم أن وقت الراحة قد جاء، وأن الزمن الذي أنفقه في الجهد والتعب آن أن يبدل بأقل منه في المسرات واللهو، فانغمس بياض شيخوخته بالشهوات السوداء، وأضله الهوى ما شاء، ولم يمض عليه القليل من الزمن حتى اعتل وصار كأنه ميت بصورة حي، ثم مات أيما ميتة.
فبكيت الدموع ملء المحاجر، ورثيته بما استطاع الخاطر، وشيعت معه كل عبارات الأسى والأسف، هذا تاريخ بيت فركنباك، ولم يبق منهم غير جستاف الحالي، وإنك تعرفه أحسن مني فقلت: أريدك أن تفيدني عن شئونه الداخلية، فإنك أدرى بها مني، فقال: إن لجستاف اجتهاد جده وأخلاق أبيه، على أن حديثه ألطف من حديثهما، وهو أحب إلى الناس من كليهما، وقد يكون من أسعد البشر لو رزقه الله ولدا.
فسألته عن امرأته فقال: إنها من انجة، وقد تزوج بها عن غرام رغم إرادة أبيه، وكان زواجه بها أشبه بتمثيل رواية، على أنهما عاشا سعيدين في الدنيا واستقبلا الأيام بهناء ونعمى.
وكانت الشمس قد قاربت الغروب، وكست غيوم السماء بردا قرمزية، وكأنها شاءت أن ترينا بقية ما عندها من البهاء قبل أن تتوارى في لجتها، وتهبط في غير هذه السماء، فغيرنا الحديث.
الفصل الثالث
يحدث للإنسان في ظروف أنه يغيب في عالم الخيال، فيسافر إلى الشمس تارة، وإلى القمر أخرى، وطورا يرى أنه يطوف في أقاصي الدنيا، بين أجم ملتفة تفوح عطرا وندا، ويرى أسراب الطيور شتى هنا وهنالك، تتغنى بألحان هي نهاية ما عند الموسيقات الطبيعية من الألحان الحسنة التوقيع الشديدة التأثير، وبينا هو على تلك الحال من المغيب، يحدث له ما يعيده إلى ذاته ويرده إلى حاله المعتادة، فينظر إلى ما حوله نظرة المفيق ويودع العيد بحزن شديد.
فلما عدنا من جوانفيل رأيت على مكتبي كتابا من عمي فقرأته، وبعد أن تأملت ما فيه من النصائح الأبوية، وقفت وقفة من كان متغيبا في مثل الغيبوبة التي وصفناها.
وكان في الكتاب سلام من عمي إلى البارونة، ففرحت فرحا شديدا وعزمت أن أبلغها سلامه بأقرب وقت.
نامعلوم صفحہ