أما في عملنا الثوري، فقد كنت شيئا آخر، كنت لا أطيق كل ما يمت إلى الأساليب الأوروبية بصلة، كنت هكذا بطريقة غريزية تلقائية، حتى الاشتراكية الأوروبية بنظامها وثورتها،
1
كنت أحس دائما أنها غريبة عني بقدر قرب النظرية مني، أحس أنها أسلوب ثوري خواجاتي، وأننا في حاجة لطرق أخرى من صنعنا نحن، أما ماهية تلك الطرق فلم أكن أعلم عنها شيئا، ولكني كنت متأكدا أنني أستطيع التعرف عليها حالا لو وجدت أو لو عثر عليها أحد.
وبنفس هذا الشعور المركب المتناقض اندمجت في الحركة الثورية، وكل ما حدث أن اندماجي هذا كبت اعتراضاتي وشعوري بالغربة، بل انقلب هذا الكبت إلى نوع من الموافقة والتأييد حتى جاء علي الوقت الذي أصبحت أرى فيه أن الأوروبية في كل شيء - حتى في الثورة - هي المثل الأعلى.
اندمجت وأصبحت واحدا من الحركة التي تتلمس طريقها في الظلام الكامل، وليس هناك ما يهديها إلا شعاع أبيض واحد قادم عبر البحر.
وفي تلك الظروف عرفت البارودي. كنت في بيت شوقي أزوره ووجدت عنده شخصا طويل القامة رفيعا يبدو أكبر من سنه بكثير، وعجبت لأن شوقي لم يقدمني إليه ولم يقدمه لي، وخجلت أنا أن أسأله، وتكلمنا ولم يتكلم ذلك الشخص الغريب الطويل، وكنت أتحدث عن مظاهرة قدناها نحن طلبة الطب، وفرقها البوليس. وانتهت زيارتي لشوقي، وحين كنت آخذ طريقي إلى الخارج سألني ذلك الضيف الرفيع إن كان من الممكن أن يقابلني مرة أخرى. ورحبت بالمقابلة، واتفقنا على ميعاد. وفي الميعاد ذهبت ولم أكن أعرف ماذا يريد مني ذلك الشاب العجوز الطويل، ولكن كان لدي إحساس مبهم أنه منهم، من هؤلاء الناس السريين الذين يدبرون للثورة وهم مختفون، وكنت أعرف أنه سيكون لي معه شأن، وأي شأن، وأن لقاءنا هذا لن يكون الأخير.
وفعلا لم يكن لقاؤنا هو الأخير، كان مجرد اللقاء الأول، ومن يومها بدأت شيئا فشيئا أدخل إلى ذلك العالم الغريب، عالم الأبطال الخفيين، عالم ظللت فيه إلى أن بدأنا نخرج للناس ونصدر المجلة وأصبح من محرريها. عالم كنت أندفع فيه بكل طاقتي وحماسي وقدرتي على العمل والتضحية والمثابرة.
والزمن كان قد أفلح في تعليمي أشياء كثيرة؛ فلم يعد ذلك العالم ظلاما مثلما كان. تعلمت أن أرى من خلال ظلماته، وأن أتلمس الأشياء، وأتعرف الخطأ من الصواب، وكنت مستعدا لأن أفعل أي شيء في سبيل إنقاذ بلدنا، ومدرك تماما ألا سبيل لإنقاذه إلا بواسطة ذلك العالم الصغير، وتلك المجموعة القليلة العدد الخطيرة الشأن من الناس.
كان يبهجني أن أسمع عن بطولتهم، ويبهرني أن أراهم يفكرون ويعملون وينظمون؛ فقد كنت أعلم أن كل هذا من أجل بلدنا، ومن أجل الشعب، الشعب الذي لا أعرف متى أدمنت حبه أو لماذا أدمنته، والبلد الذي نشأت أحس به كأمي الكبيرة التي لا تموت، ولا تهرم ولا تنتهي. حبي له لم يكن حبا بتعقل كحبنا للرجل الأب، كان حبا بلا حدود كحبنا للمرأة الأم.
وظل البارودي يقودنا ويرأس تحرير المجلة، نجمع تكاليفها من التبرعات، ونرتب حروفها، ونحمل رصاصها، ونشترك في توزيع نسخها، ونجتمع بعد سهر أسبوع أو أكثر حول طبق فول أو عدة سندويتشات جبنة نتخاطفها ونحن نضحك، ونحن نختلف ونتناقش ونعمل ونقترح، وفي داخلنا قوة يخيل إلينا أنها كفيلة بسحق أقوى الأعداء، قوة إيماننا بما نفعله وإيماننا بأن ما نفعله حق.
نامعلوم صفحہ