8
ظل «عنتر» البيضاوي الجسم الذي تستقر فوق بيضاويته رأس كروية دسمة الملامح، ظل قرابة شهرين كلما رآني يقول: ما تياالله يا دكتور، الراجل ساب العيادة وح يموت، خدها.
يقولها بصوته الهادئ الهائم كغبار الدقيق الناعم، يقولها بلا حماس وهو يمسحني بعينيه الواسعتين العبيطتين، ثم يسبلهما علامة الولاء والتقدير التام لشخصي ومصلحتي.
كل يوم كنت أراه فيه كان يقول لي هذا، وكثيرا ما كنت أراه؛ فبعدما يخف ازدحام العمال في حجرة الكشف، وتنقضي ساعات الأزمة وتئوب أعصابي التي احترقت إلى رماد خامل، أبدأ أتمطى وأسأل عم مرسي الباشتمرجي إذا كان قد بقي أحد بلا كشف؟ فيقول: مافيش. وأعيد السؤال فيقول: ما فيش إلا عنتر وعبلة، و«عبلة» كان عاملا في قسم النجارة اسمه كيرلس، وربما أطلق عليه اسم عبلة؛ لأن اسمه الحقيقي كان معقدا؛ فهو يكتب كيرلس، وينطق كوروللس، وربما أطلقوه عليه لشدة ملازمته لعنتر. وعلى العموم فلم يكن كيرلس أول عامل يطلق عليه اسم مضحك؛ فقد اكتشفت أن كل عامل من عمال الورشة له اسم كهذا يعرف به في الورشة ولا ينادى بسواه، والتسمية تبدأ حين يدخل العامل صبيا فيرتكب خطأ، أو ينطق اسم قطعة عدة نطقا مضحكا، أو أحيانا بلا سبب، فيخلع عليه الأسطى معلمه اللقب، ويظل لاصقا به بعد أن يكبر ويصير أسطى ورئيس عمال. أسماء غاية في الغرابة لا ضابط بينها أو رابط؛ حنتيتة، وإسطبة، وشادية، وبن جوريون، وأبو ورك، وبقبق، وشالوم، ورجل على رجل، والشيخ الشريب، والسبنسة، وأبو زلومة، وابن زليخة، وكانوا يقولون لي إنه سمي هكذا لأنه في أول يوم لاستلامه العمل في الورش وهو لا يزال صبيا جديدا طلب منه الأسطى أن يحضر له شيئا ما فأحضر غيره، فسأل الأسطى بتريقة: أمك اسمها إيه يا ولد؟ فأجابه بجد: اسمها زليخة ياسطى. وأصبحت نكتة تروى وتضحك عليها الورشة، وتضاف إلى تراث ضخم من المواقف والحوادث والمضحكات التي حدثت من عشرات السنين ووجدت وحورت وأضيف إليها، ولا تزال تكبر وتحيا وترويها الأجيال الماضية للحاضرة والمقبلة.
كان عنتر وعبلة يكونان وحدة غير متناسقة الأوصاف؛ فعنتر كان بيضاويا قصيرا، وعبلة كان عموديا طويلا رفيعا قليل الكلام كثير الابتسام، يكاد لا يفقه من أمور الدنيا إلا أنه صديق عنتر وملازمه الدائم.
ولا أذكر كيف نشأت علاقتي بهما، ولكن يبدو أنهما كانا من ذلك النوع من الناس الذي يحب مجالسة كبار الموظفين ليتحدث لزملائه بعد هذا عن الصداقة الوطيدة التي تربطه بهم، وعن كيف أمضى الليلة الماضية ساهرا مع مهندس الكهرباء، وكيف عزمه دكتور الورش على العشاء. ومع أن عنتر كان عاملا في قسم الخراطة أو الميكانيكا لا أذكر، وكان أبوه أيضا عاملا في نفس الورش، وجده كذلك، إلا أنه كان يمتلك بيتا من بابه. بيت هاكع كئيب من البيوت المكدسة المتزاحمة في المنطقة الكائنة خلف شركة النور، وكان قد أجر الدور الأرضي الذي يتكون من شقة واحدة مظلمة ذات حجرتين إلى طبيب اسمه عطوة كان يعمل في الحكومة ثم أجبر على الاستقالة لسوء أخلاقه، ولم يكن الدكتورة عطوة طبيبا فقط، كان مدمن أفيون أيضا، ومدمن جلسات مع الحانوتية وأصحاب الدكاكين جيرانه في العيادة، وإذا رأيته لا يمكن أن يخطر ببالك أنه طبيب؛ فقد كان نحيفا طويلا ذا قتب، له ملامح تصلح لفتوة من الفتوات الذين يستأجرهم أصحاب السينمات الشعبية لكبح جماح رواد الدرجة الثالثة. وهو دائم الكحة دائم العطس والتمخط والبصق، ولا يحلو له البصق إلا أمامك على الأرض. إذا تكلم خرج صوته متحشرجا مبحوحا، ولا ينطق كلمة إلا ويتبعها بسباب قذر ولو كان يتحدث عن أبيه.
والعيادة على هذه الصورة لم تكن تأتي بإيراد يذكر، وكان طبيعيا أن تتراكم الديون على الدكتور عطوة ويتراكم الإيجار حتى اضطر أخيرا للتنازل لعنتر صاحب البيت عن العيادة مقابل الإيجار المتأخر، وأصبح عنتر بين يوم وليلة مالكا لعيادة لا يدري ماذا يصنع بها. كان أول الأمر يذهب ويجلس فيها ويستقبل أصدقاءه وهو سعيد بالجلوس على مكتب الدكتور عطوة الكالح، وإذا قابله أحد أصدقائه أو معارفه قال له: ما تخلينا نشوفك. - أشوفك ازاي؟ - تعالى لي العيادة يا أخي.
وتندمج بيضاويته بالسعادة حتى يكاد يتحول إلى كرة.
غير أنه بعد وقت تبين أنه الخاسر، وأن عليه أن يبيعها. وهكذا بدأ «يشتغل» علي لأشتريها، ولكنه كان يخاف إن أنا عرفت قصة الإيجار المتأخر والخسارة أن أرفض الشراء، فادعى لي أن الدكتور عطوة فوضه في بيعها، وأنه يريد خدمتي فقط، وكل يوم يراني فيه يقول: ما تياالله يا دكتور، الراجل ساب العيادة وح يموت، خدها بقى.
وفي البداية لم أكن أنصت لكلامه أو أعيره اهتماما؛ فلم يكن في نيتي أبدا أن أفتح عيادة، كنت أريد إكمال دراستي العليا في الكلية، وكل عام كنت أقول لنفسي سألتحق هذه المرة بالدبلوم. ويأتي أول أكتوبر ويذهب تاركني أحلم مرة أخرى بالحصول على الدبلوم، ثم جاء الوقت الذي صرفت النظر فيه عن أي أمجاد طبية وشهادات واستسلمت للأمر الواقع، ولوظيفة طبيب الورش وغمها ونكدها. والحقيقة لم يكن استسلامي استسلاما كاملا، وكانت أحيانا تنتابني لحظات أقرر فيها أن أغير مجرى حياتي تغييرا جذريا وأسلك طريقا آخر.
نامعلوم صفحہ