أعود إلى البيت لأتغدى فأجد ضجة الشارع وغباره وروائح الكبدة المقززة قد سبقتني إليه، وأجد طبيخ أم عمر ينتظرني، خضار ولحمة، ودائما خضار ولحمة والحلو برتقال، وأم عمر كأم قويق واقفة قبالتي تحاسبني على الطعام، وتغالطني علنا في الحساب.
وأتغدى، وتذهب أم عمر، وأقفل النوافذ، وأمنع النور والضجة، ويهدأ البيت قليلا وكذلك الحي، وأبدأ أنا أترقب الأصوات وأتسمعها وأميز، وقلبي يدق دقا خفيفا، ثم أرى شبح خيال يقلل الضوء المنعكس من زجاج الباب، ويدق قلبي دقة واحدة كبيرة ثم يسكت هنيهة، ومع عودة الدق يدق الجرس.
وأسرع ملهوفا وأفتح الباب، وإذا بابتسامة عذبة دائما، حلوة دائما، ووجه نحيف أبيض تحيطه هالة من الشعر الأسود، وكأنه حية دقيقة مرهفة تقول في همس مبتسم جميل: ممكن أدخل؟
6
وفي ذلك اليوم بالذات يدوخني همسها؛ إذ هو اليوم الذي كنت قد قررت أن أكشف لها فيه عن نفسي.
اليوم الذي اضطربت له كما لم أضطرب لأي امتحان دخلته، أو لأي موقف فاصل وقفته في حياتي، الحجرة حجرة المكتب في شقتي ببولاق، والدنيا بين الليل والنهار، والشيش مغلق وكذلك الزجاج، وجهودي كلها قد بذلتها منذ عودتي من عملي لمنع الضجة ورائحة الكبدة، وخلق جو «شاعري» غير مفتعل، الحجرة فيها مكتب وكنبة «ستوديو» وكرسي أسيوطي ذو مساند، ومكتبة صغيرة وجراموفون. الموبيليا الضرورية لحجرة تستعمل للجلوس والكتابة والنوم أحيانا بلا أناقة أو لمسات. وسانتي جالسة فوق الكرسي الأسيوطي وأنا حائر لا أستقر، والخطاب الذي كتبته لها يكاد يحرق بحرارته درج المكتب، ونحن الاثنان وكأننا نترقب شيئا كالجالسين ينتظران طلب قضيتهما أمام محكمة ما.
وكانت سانتي قد خلعت جاكتتها وبقيت ببلوزة لبني كالقميص، وفي خدودها احمرار وشعرها مشعث، وسحب الدخان تهيم وتتكاثر حولها.
وبدأت الكذب الواضح الذي لم أتعمد إخفاءه وقلت: أتعلمين شيئا؟ (وكانت هذه لازمتي معها.)
قالت بغير حب استطلاع: ماذا؟
قلت: صديقي الذي حدثتك عنه بالأمس، صديقي الذي كتبت له القصيدة ليعطيها للفتاة الأجنبية التي ...
نامعلوم صفحہ