19
ورغم كل تلك التفصيلات فلا أستطيع أن أجزم إن كانت قد جاءت في ذلك اليوم أم لم تجيء؛ فمنذ ذلك الوقت وصور الأحداث في ذاكرتي أبقى أثرا من مواعيد حدوثها، ومع هذا فهي ليست أحداثا كثيرة أو عظيمة الأهمية، إنها بسيطة إلى درجة لا يستطيع معها الإنسان العادي أن يصدق أنها كانت وقائع مأساة كاملة؛ فقد تعودنا أن تراق في المآسي الدماء وتزلزل الزلازل وتنفجر البراكين.
كل ما حدث أني بدأت خلال مقابلاتي التالية لها أحس شيئا لم يكن موجودا، كانت مقابلاتنا السابقة تتم بلهفة، لهفة من جانبها ولهفة من جانبي، وطوال المقابلة أظل أتلهف على أية كلمة تخرج من فمها وتظل هي تترقب كل كلمة تخرج من فمي، أما أنا فقد ظللت على لهفتي، بل كادت لهفتي تتحول إلى نوع من السعار أو الجنون وإن كثرت محاولاتي لإخفائها، أما هي فقد قل ترقبها لكلماتي أو انعدم كمن يظل ينتظر حدوث حادث، فلما طالت المدة ولم يحدث بدأ ييأس، وبدأ ينتابه شعور من اللامبالاة تجاه حدوثه، وأصبح سيان لديه أحدث أم لم يحدث، حتى مواضيع الحديث خيل إلي أننا استنفدناها كلها حتى لم يعد ثمة موضوع جديد نطرقه، أو أي جديد نطرقه يبدو قديما معادا لا جدة فيه، ولست أذكر متى بدأ هذا يحدث، ولكنني أذكر أن سيرة شوقي جاءت مرة فلمحت بريق اهتمام خافت في عينيها، وحرارة ما قد شملت صوتها وهي تسألني عنه وعن أخباره، ولاحظت مرة أنها اشترت علبة سجائر أمريكية وكان شوقي يدخن سجائر أمريكية.
وبدأت أشك.
أنا أعرف أن شوقي من نوع لا يأبه للنساء كثيرا ولا يهتم بعلاقته بهن أو باستلفات أنظارهن. لم ألحظه مرة أنيقا، ولم أضبطه مرة متلبسا بفرق ولو صغير بينه حين يتحدث لرجل وبينه حين يتحدث لسيدة. كان على النقيض مني في تلك الناحية، ولكن من يصلح لصرف أنظار سانتي عني إلا إنسان على النقيض مني تماما؟ إنسان لا يبدو عليه أنه مهتم بها، إنسان غير محب للاستطلاع أو الاستلفات، إنسان يمضي في عمله كالسيف، إنسان كهذا لا يصلح سوى لتتعلق به واحدة كسانتي.
وبدأت أحداث كثيرة تقع وكأنما وقعت كلها في وقت واحد. مرة دون أن أتوقع وجدتها تدق بابي وفتحت لها وجلسنا نتحدث، ولم يطل حديثنا ولم تطل فرحتي لمجيئها؛ فقد دق الباب وإذا بالقادم شوقي، وكالشرارة لمع في ذهني خاطر، آه ... حتما تواعدا على اللقاء عندي! وجلس شوقي وجلسنا، وبدأنا نتحدث.
رحت أراقب نظراتها والطريقة التي تكلمه بها، والآن وأنا أكتب هذا قد أقول لنفسي إن البريق الملتهب الذي كنت ألمحه في عينيها وملامحها وهي تكلمه ممكن أن يكون بريقا صوره لي شكي الملتهب، ولكني ساعتها كنت متأكدا تماما من البريق الذي كان يشع منها كلما خاطبتني في أوائل علاقتنا. وفي تلك الليلة جاء البارودي يصحبه عطوة ورآنا جالسين، ومضى يعلق تعليقاته الخبيثة المغطاة، وكان لا بد أن أعتذر عن مجيئها أمامه بعدما أخبرني بأن مجيئها عندي أمر غير مستحب. وأخيرا انتقل من التلميح إلى الكلام المكشوف، وقال إن وجودنا معا في مكان واحد وبلا سبب ضروري مهزلة، وإن على سانتي أن تذهب. ولعنته في سري آلاف المرات وأنا أتساءل عن كنه هذا العفريت الذي يركبه كلما رأى سانتي عندي، ولكنها قامت لتنزل. وطلبت من شوقي أن تكلمه قبل أن تنزل على حدة، وخرج لها شوقي ووقفت معه في الصالة قريبا من الباب، وجلست أنا والبارودي في حجرة المكتب يأتي همسهما إلينا، ولا نتكلم نحن أو إذا تكلمنا أقول أنا كلمة فارغة تافهة أداري بها النار المتأججة في جوفي، أو يعلق البارودي تعليقا خبيثا مغطى.
وبدأ البارودي يضيق بصوت مسموع وينادي على شوقي، وسانتي تستمهله لتكمل الحديث معه، وأخيرا ذهبت وانضم شوقي إلينا، ورحنا أنا والبارودي نصب عليه نظرات كاوية لاذعة وهو يقابلها بابتسامات محرجة كمن ارتكب ذنبا لا يعرف على وجه التحديد كنهه.
وكل هذا يحدث وعلاقة لورا بي تزداد، أو في الحقيقة مطارداتها تزداد، تأتي كلما حلا لها المجيء. أعبس لها فلا ينفع فيها تكشير، وأعتذر فلا ينفع اعتذار، وفي فترات يأسي وضعفي أصمم على أن أسلي نفسي بها علها تفلح في إطفاء الحريق، وأواعدها مثلا على أن نلتقي في الجزيرة، ونلتقي ونتمشى، وأضع يدي حول خصرها وأضحك معها، بينما مرارة قاتلة تتصاعد من جوفي؛ لأني طوال الوقت أفكر في سانتي وخيبتي معها. ونلتقي مرة لنذهب إلى المعرض، وأفاجأ حين نقابل سانتي فوق الكوبري وتحيينا ونحييها. وأفرح جدا لأنها رأتني ذاهبا مع لورا إلى المعرض، وأصاب بأشد خيبات الأمل لأني لم أجد في عينيها اهتماما يذكر، وأقول لنفسي لا بد أنها بعد أن نبتعد عنها ستستدير، وأظل أتلفت لألمح استدارتها فلا أجدها تستدير أو حتى تتمهل.
وتأتي سانتي لي ذات يوم صدفة، فأحس بأن زيارتها جاءت هكذا، كأنما قد تعودت على زيارة مكان وانقطعت عنه مدة وتحس أحيانا بضرورة زيارته بحكم العادة، أو بحكم انقطاع العادة. تأتي وأعمل لها قهوة مثل أيام زمان، ونجلس نتحدث، ويخيل إلي أن كل شيء سيعود حتما إلى ما كان عليه، وستعود سانتي إلى حوزتي (وكأنها كانت في حوزتي)، ولأستثير اهتمامها أقول لها إني كتبت لها خطابا، ويسعدني بريق الاهتمام الصادق الذي بدر من عينيها، وبمحاولاتها الصبيانية لتفتيش أدراج مكتبي بحثا عن الخطاب، وطبعا كان لا يمكن أن تعثر عليه؛ فلم أكن قد كتبته أصلا، ولا كان في نيتي كتابته، ولكني أعاهدها أني سأقرؤه لها إذا جاءت في الغد، وقد آليت على نفسي أن أكتبه لها خلال الليل، وأجلس على المكتب بعدما ذهبت أحاول كتابة الخطاب ولا أستطيع، وكأن قوة غيبية قاهرة تمسك الكلمات في صدري وتحبسها ولا تستطيع إرادتي كلها بجماعها أن تخرجها، وأخيرا جدا قرب الفجر أكتب بضع صفحات لا حرارة فيها، كلها مرارة، وكلها ألم وسخرية، سخرية المتكبر العاجز الذي لا يريد أن يعترف بعجزه وتفاهته وضعفه.
نامعلوم صفحہ