ونفس هذا الظلام كان يحدث أثرا مختلفا تماما عند بعض آخر. كنت تلقاهم قبل أن يطئوا بأقدامهم أعتاب ذلك العالم شبانا مستهترين أو تافهين ومنطوين، كل ما يشغلهم حفلة سينما أو بنت حلوة أو أحلام يقظة، وإذا بهم لا تكاد تمضي شهور حتى يحيلهم ذلك العالم الخافت الضوء البارق بشهب الاتهامات إلى رجال أقوياء، تنبت لهم شجاعة لا أعرف من أين، ويصح لهم حكمة غريبة على سنواتهم الغضة، وتحس أنهم إذا قالوا فعلوا، ولا يقولون إلا ما يفعلون، وتحس بفخر أنكم من شعب واحد، وأن جهودكم كلها ذاهبة إلى هذا الشعب.
وبنفس هذه الروح كنت أنظر إلى شوقي وقد ارتدى ملابسه وفي نيته أن يخرج معي لنبدأ جولة إصدار العدد القادم من المجلة.
كان من الواجب ألا يغادر البيت، أو يغادره متخفيا إلى مكان آمن؛ فمعنى القبض على فتحي سالم أنه هو الآخر مقبوض عليه لا محالة، فماذا يكون فتحي كاتب القصة بجوار شوقي رئيس التحرير المسئول؟ ولكنه سخر من مخاوفي وقال إن الطريقة الوحيدة لكيلا أعتقل أن تزول الظروف التي يعتقل الناس فيها، ولكي تزول الظروف لا بد أن نصدر المجلة، ولكي نصدر المجلة لا بد أن نعمل، والعمل هو الطريقة الوحيدة للمحافظة على سلامته. فلكي يحافظ على سلامته لا بد أن يخرج.
ثم التفت إلي وابتسم وكأنه يصالحني وقال: وعلى العموم أنت عندك حق في حاجة واحدة، إني لازم أعزل م البيت ده النهاردة.
وجاءت زوجته وكأنما كهربتها الكلمة، هي التي يعذبها التعزيل. ونشبت خناقة، ولم تدم طويلا، فضضتها بأخذ شوقي والخروج به.
وحين أصبحنا في الشارع، وأصبح القبض على فتحي سالم مجرد خبر يأخذ طريقه ليسكن في هدوء الذاكرة، وشوقي بجواري كالعملاق، ومحفظته البنية الغامقة تحت إبطه، دفعت سانتي أثقال ما كنت أفكر فيه وأستعيده وخطرت لي، وساءلت نفسي إن كنت أحبها حقيقة وأنا أحيا في هذا الجو الملبد المشحون الذي يصبح الحب فيه شيئا مخلا يعاب ويستنكر. ساءلت نفسي ولم أحتج للإجابة، كنت كمن يضيق أحيانا ويرفع بصره ويتساءل: أين السماء؟ والسماء كبيرة ضخمة هائلة ممتدة من أفق لا بداية له ولا نهاية إلى أفق لا نهاية له ولا بداية.
نعم، كنت وأنا ماش بجوار شوقي أحبها، وأنا أحيا تحت الأرض أراها، وفوق الأرض أراها، وأراها وأنا أريد أن أراها، وأراها وأنا لا أريد أن أراها، هي شوقي ومحفظته والمكان الذي كنا ذاهبين إليه والمجلة وفتحي سالم وخوفي وشجاعتي ، ولولا أني مدرك ومؤمن أني سأراها اليوم ما كنت قد صحوت من النوم أو ذهبت للورش أو ضحكت أو حزنت أو احتملت وجودي على ظهر الدنيا لحظة واحدة، ولجزء على ألف من الثانية.
أحاول أن أتخيل العالم بغيرها، أو أتصور نفسي حيا من غير أن أراها، فأحس كالواقف فوق ناطحة سحاب حين يلقي بنظره مرة واحدة إلى الأرض يحس وكأنما هي التي تخلو به وتسقط من أعلى في سرعة مذهلة لتستقر على بعد سحيق، وليصبح بينه وبينها هوة تورث الغثيان والدوار. ودوار وغثيان هو ما يحدث لي كلما حاولت أن أتصورني بغيرها، أو أتصور العالم بغير أن تكون فيه وأن ألقاها، بل لا أستطيع التصور أكثر من ذلك الجزء، وكما يرتد البصر عن الأرض السحيقة أرتد أنا عن التصور؛ لتعود الروح تسري في، ويعود إلى العالم الجمال الذي يحببني فيه.
وأظل في تلك الدوامة، أرى شوقي بحافظته أو يكلمني فأتذكر عملي الثوري، فإذا ما تذكرت قصوري فيه، والقصور يذكرني بسانتي، وتأنيب الضمير الذي يصاحب تصورها يذكرني بتقصيري، وتقصيري يذكرني بها.
ظللت إلى أن وصلنا إلى المجلة، وهناك وجدنا مفاجأة في انتظارنا لم نكن قد أعددنا لها أنفسنا.
نامعلوم صفحہ