ولم يكن لدي ما أقوله غير هذا؛ فقد شعرت أني لو حاولت التوضيح، لو حاولت التحدث عما أحسه وأشعر به، لكنت وكأني أكشف عن عواطفي لغريب أو على الأقل لمحايد.
وسكت، حتى الكلمات القليلة التي تلتها بعد هذا كانت مجرد صدى لصدمتي، ما فائدة الكلام؟ لو أردت الكلام حقيقة لخنقتها أو انتحرت وأشعلت النار في البيت، في جوفي بركان انفعال يذيب الصلب. وحين عدنا من أمام الحمام وجلسنا مرة أخرى في الحجرة جلست صامتا لا أكترث، وحتى سانتي لم تتكلم كثيرا، حاولت أن تطرق موضوعات وقالت: نسمع موسيقى. وأدرنا أسطوانة أو اثنتين وتبادلنا الابتسامات، وأخيرا جمعت سانتي أشياءها في تكاسل وارتدت الجاكيت وقالت: أنا ذاهبة، هه أنا ذاهبة.
ابتسمت وقلت وأنا مخفض رأسي: أوكي.
وبطريقة روتينية محضة قالت: أراك غدا.
قلت: طبعا طبعا.
قلت هذا وأنا أسير وراءها إلى الباب، وكانت تسير أمامي وأنا أراها من ظهرها، هذه المرة كنت أحس بضيق منها يكاد يعادل إحساسي بالحب لها حين دخلت. وكانت تمشي إلى الباب لا تتلفت ولكن مشيتها يبدو منها أنها تتوقع حدوث شيء. وفتحت الباب وأبطأت في فتحه متوقعة، واستدارت وهي تقف على العتبة وابتسمت وقالت: باي. قالتها وهي أيضا متوقعة، ثم راحت تهبط السلالم، سلمة سلمة وعلى مهل، وحين أغلقت الباب كنت أسمع أصداء أقدامها آتية من بعيد، وكل صدى كان يحمل في طياته توقعا، وكأني سأفتح الباب وأنادي عليها، ولم أفتح أي باب، تمددت على الكنبة وأمرت نفسي ألا أفكر، ولم تكن نفسي في حاجة إلى أي أمر، من تلقاء نفسها كانت لا تريد شيئا بالمرة.
ولا حتى مراجعة ما حدث.
وأغمضت عيني وأغمضتها بعنف وكأني أخاف أن تنفتحا رغما عني وتريا ...
كم من الزمن مضى وأنا على هذه الحال؟ كل ما أذكره أني سمعت - وكان هذا قد حدث مباشرة بعد خروج سانتي - أن الباب يدق، ولم أتعب نفسي بمحاولة تخمين إن كانت هي الطارقة، قمت إلى الباب وفتحته، ولم أفتح الباب مرة واحدة، ثلاث مرات فتحته. في المرة الأولى كان شوقي وقد حضر ليعرف نتيجة ما حدث في الورش في ذلك اليوم، وغمغمت له بأن كل شيء على ما يرام، وأني نفذت نصيحته ولم أمنحهم إجازات رغم أنهم كادوا يمزقونني تمزيقا، وعبثا حاول أن يعرف مني التفاصيل؛ فقد كنت باردا ضجرا لا أريد الحديث. ولم تضايق شوقي لهجتي أو طريقتي، كان واضحا أنه سعيد بالنتيجة؛ فقد تخللت حديثه كلمات كثيرة عن نفوذنا وسط العمال ووجوب تدعيمه وما حدث يعتبر بداية لتوسيع أكثر، وأشياء أخرى كثيرة لم أحفل بتبينها.
والطارق الثاني كان آخر إنسان أتوقعه أن يطرق بابي، كان سكرتير النقابة، أنيقا جدا يرتدي بدلة كحلية ورباط عنق أحمر ومنديل صدر من نفس اللون، واعتذاراته كانت أول ما واجهني حين فتحت الباب، اعتذارات أكثر سماجة من تصرفاته في الصباح؛ فقد كانت تنزلق من فوق لسانه انزلاقا دون إيمان حقيقي بها. ولم يلبث سبب زيارته أن اتضح؛ فقد بدأ يعرض علي عرضا غريبا ويبرره بقوله إنه كان نظاما متبعا مع جميع الأطباء الذين عملوا قبلي في الورش، والعرض كان أن تدفع لي النقابة ماهية شهرية (لا يطلع عليها غيري وغيره!) لكي أتساهل مع العمال وأمنحهم إجازات. وأعجب شيء أني كدت من فرط حقدي على نفسي وعليه وعلى الدنيا الخانقة المقبضة التي تركتني فيها سانتي، كدت أقبل العرض، ولكني رفضته بوقاحة وأمرته بمغادرة البيت في الحال. وظن أني أستشوي العرض فأعاده بمبلغ أكبر، بخمسة عشر جنيها في الشهر. وفكرت فجأة في قتله، ومن درج المكتب أخرجت مشرطا جراحيا كنت أستعمله لبري الأقلام. ودهش وظن أني أهزل معه، ولكنه ما إن رأى وقفتي ونظرتي والمشرط المشرع في يدي حتى خاف خوفا كاد يدفعني لطعنه، ولو كان قد بقي في الحجرة لحظة لفعلتها، ولكنه جرى ناحية الباب كالأطفال وهو يصيح: دا أنت باينك مجنون صحيح.
نامعلوم صفحہ