بيان المحجة في الرد على اللجة
الفضل بحمد الله في القرن الثاني عشر، فقام الداعي بها يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الفرائض والعمل بالواجبات، والنهي عن مُوَاقَعَة المُحَرَّمَات. وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان، ولولا ذلك ما سَبَّ هؤلاء نجدا واليمامة بمسيلمة؛ إذا عرف ذلك، فليعلم أن مسيلمة وبني حنيفة إنما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلا أو عنادا، وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله به رسله من التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر، وعصوا رسول الله ﷺ بارتكاب ما نهى عنه من الغلو والشرك، فَجَوَّزُوا أن يُدْعَى مع الله غيره؛ وقد نهى الله ورسوله عن ذلك في أكثر سور القرآن.
وَجَوَّزُوا أن يُسْتَعَان بغير الله، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك وجوَّزُوا الالتجاء إلى الغائبين والأموات والرغبة إليهم، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك أشد النهي. وجعلوا لله شريكا في ملكه وربوبيته كما جعلوا له شريكا في إلهيته، وجعلوا له شريكا في إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها. وقد قال -تعالى- مبينا لما اختص به من شمول علمه: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ ١ إلى قوله: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ﴾ ٢ الآيات.
فشو الشرك المخالف لفاتحة الكتاب وسورة الناس
وهذه الأصول كلها في الفاتحة، يبين تعالى أنه هو المختص بذلك، دون كل من سواه: ففي قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٣ اختصاص لله بالحمد لكماله في ربوبيته وإلهيته وملكه وشمول علمه وقدرته، وكماله في ذاته وصفاته. ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٤ هو ربهم وخالقهم ورازقهم ومليكهم، والمتصرف فيهم بحكمته ومشيئته ليس ذلك إلا له. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ٥ فيه تفرده بالملك كقوله: ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ ٦، وقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ
_________
١ سورة الرعد آية:٨، ٩.
٢ سورة الرعد آية: ١٤.
٣ سورة الفاتحة آية: ٢.
٤ سورة الفاتحة آية: ٢.
٥ سورة الفاتحة آية: ٤.
٦ سورة الانفطار آية: ١٩.
1 / 166
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ١
فيه قَصْرُ العبادة عليه -تعالى- بجميع أفرادها، وكذلك الاستعانة. وفي ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ٢ أيضا توحيد الربوبية.
وهذه الأصول أيضا في: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ ٣ فهو ربهم ورازقهم، والمتصرف فيهم، والمدبر لهم: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ ٤ هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" ٥.
وقوله: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ ٦ هو مَأْلُوهُهُمْ ومَعْبُودُهم، لا معبود لهم سواه، فأهل الإيمان خَصُّوهُ بالإلهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكا يَأْلَهُونَهُ بالعبادة كالدعاء والاستعانة والاستغاثة والالتجاء والرغبة والتعلق عليه، ونحو ذلك.
وفي: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ٧ براءة النبي ﷺ من الشرك والمشركين. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ ٨ إلى قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ٩ فهذا هو التوحيد العملي، وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا، وفي ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ١٠ توحيد العلم والعمل.
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ١١ يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نِدَّ، ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ في الإثبات إلا على الله ﷿؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. وقوله: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ ١٢ قال عكرمة عن ابن عباس: يعني الذي يَصْمُدُ الخلائقُ إليه في حوائجهم ومسائلهم.
(قلت): وفيه توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. وقال الأعمش عن شقيق أبي وائل: ﴿الصَّمَدُ﴾ السيد الذي قد انتهى سُؤْدُدُهُ، وقال الحسن أيضا: ﴿الصَّمَدُ﴾ الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له، وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: ﴿الصَّمَدُ﴾ المُصْمَتُ الذي لا جوف له، قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكُلُّ هذه صحيحةٌ، وهي صفات ربنا ﷿.
_________
١ سورة الفاتحة آية: ٥.
٢ سورة الفاتحة آية: ٥.
٣ سورة الناس آية: ١.
٤ سورة الناس آية: ٢.
٥ البخاري: الأذان (٨٤٤)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٩٣)، والنسائي: السهو (١٣٤١،١٣٤٢،١٣٤٣)، وأبو داود: الصلاة (١٥٠٥)، وأحمد (٤/٢٤٧،٤/٢٥٠،٤/٢٥١)، والدارمي: الصلاة (١٣٤٩) .
٦ سورة الناس آية: ٣.
٧ سورة الكافرون آية: ١.
٨ سورة الكافرون آية:١، ٢.
٩ سورة الكافرون آية: ٦.
١٠ سورة الإخلاص آية: ١.
١١ سورة الإخلاص آية: ١.
١٢ سورة الإخلاص آية: ٢.
1 / 167
نفي ما في البردة من شرك نشأ عن جهل وفساد تصور
بسم الله الرحمن الر حيم
قال شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الأجر والثواب، وأدخلهم الجنة بغير حساب ولا عذاب:
اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا﴾ ١. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي قال الله تعالى خطابا له: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ ٢. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه، من أذهب الله عنهم الرجس، وطهَّرهم تطهيرا.
أما بعد:
فإني وقفت على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، وقد سئل عن أبيات من البردة، وما فيها من الغلو والشرك العظيم المضاهي لشرك النصارى ونحوهم ممن صرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله تعالى، كما هو صريح الأبيات المذكورة في البردة، لا يخفى على مَنْ عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وبيَّن أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وأن الجنة عليه حرام.
_________
١ سورة الفرقان آية:٢، ٣.
٢ سورة الأحزاب آية:٤٥، ٤٦.
1 / 224
وذكر الشيخ ﵀ في جوابه: أن الأبيات المذكورة تضمَّنت الشرك، وصرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله، فاعترض عليه جاهل ضالٌّ فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله: حماه الله من ذلك، ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله أول المنظومة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
البيت المطابق لقول النبي ﷺ: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" ١.
(الجواب): أن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور، فلو عرف الناظم وهذا المعترض ومن سلك سبيلهما حق الله على عباده، وما اختصَّ به من ربوبيته وإلهيته، وعرفوا معنى كلام الله وكلام رسوله ﷺ لَمَا قالوا ما قالوا هم وأمثالهم ممن جهل التوحيد، كما قال تعالى في حق من هذا وصفه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ ٢.
فالجهل بما بعث الله به رسله قد عمَّ كثيرا من هذه الأمة، وظهر فيها ما أخبر به النبي ﷺ بقوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " ٣ ونحو هذا من الأحاديث.
وقوله: ويكفيه في نفي هذه الشناعة قوله أول المنظومة:
..........البيت
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
(الجواب): أن هذا يزيده شناعة ومقتا؛ لأن هذا تناقض منه بيِّن، وبرهان على أنه لا يعلم ما يقول، فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو العظيم الذي نهى الله عنه ورسوله، ولعن النبي ﷺ من فعله، أو فعل ما يوصل إليه بقوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا"٤ وقال:
_________
١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٤٥)، وأحمد (١/٢٣،١/٢٤،١/٤٧) .
٢ سورة الأنعام آية: ١١٩.
٣ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/٨٤،٣/٨٩،٣/٩٤) .
٤ البخاري: الصلاة (٤٣٦)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٣١)، والنسائي: المساجد (٧٠٣)، وأحمد (١/٢١٨،٦/٣٤،٦/٨٠،٦/١٢١،٦/٢٥٥)، والدارمي: الصلاة (١٤٠٣) .
1 / 225
"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"١، وقوله لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده"٢ وقال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ﷿". فلقد حذر أمته ﷺ وأنذرهم عن الشرك ووسائله، وما دقَّ منه وجلَّ، ودعا الناس إلى التوحيد ونهاهم عن الشرك، وجاهدهم على ذلك، حتى أزال الله به الشرك والأوثان من جميع الجزيرة وما حولها من نواحي الشام واليمن وغير ذلك.
وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها، كما هو مذكور في كتب الحديث والتفسير والسير، كما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي في الصحيح، قال: قال علي بن أبي طالب ﵁ "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ؟ أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته"٣. وقد بعثه النبي ﷺ يوم الفتح لهدم (مناة) وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم بيت العزى، وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل، وبعث المغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها، وأزال عن جزيرة العرب وما حولها جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله.
والصحابة ﵃ تعاهدوا هذا الأمر واعتنو بإزالته أعظم الاعتناء بعد وفاة رسول الله ﷺ، وقد أخبر النبي ﷺ بما يقع في أمته من الاختلاف، كما في حديث العرباض بن سارية قال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا" ٤ الحديث، فوقع ما أخبر به ﷺ، وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة كما هو معلوم عند العلماء، ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه لخرج بنا عن المقصود من الاختصار.
هدم الإسلام للشرك ثم عودته إلى المسلمين وفشوه فيهم
فانظر إلى ما وقع اليوم من البناء على القبور والمشاهد وعبادتها، فلقد عمَّت هذه البلية كثيرا من البلاد، ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس
_________
١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٤٥)، وأحمد (١/٢٣،١/٢٤،١/٤٧) .
٢ أحمد (١/٢١٤) .
٣ مسلم: الجنائز (٩٦٩)، والترمذي: الجنائز (١٠٤٩)، والنسائي: الجنائز (٢٠٣١)، وأبو داود: الجنائز (٣٢١٨)، وأحمد (١/٩٦،١/١٢٨،١/١٤٥،١/١٥٠) .
٤ الترمذي: العلم (٢٦٧٦)، وأبو داود: السنة (٤٦٠٧)، وابن ماجه: المقدمة (٤٤)، وأحمد (٤/١٢٦)، والدارمي: المقدمة (٩٥) .
1 / 226
ينسبون إلى العلم، قال سليمان التيمي: " لو أخذت بزلة كل عالم لاجتمع فيك الشرك كله". فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقوله المطابق لقول النبي: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" ١.
(أقول): لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد، لكنها في المنهي عنه لا في النهي، فالذي نهى عنه النبي ﷺ من الإطراء طابقته الأبيات من قوله:
سواك.......إلى آخرها
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
فقد تضمَّنت غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم، فإنه قصر خصائص الإلهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسوله ﷺ فصرفها لغير الله؛ فإن الدعاء مخ العبادة، واللياذ من أنواع العبادة.
أبيات البردة فيها الاستعانة والاستغاثة بغير الله
وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله، فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان. وهذه هي أنواع العبادة، ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وشكرها لمن قصرها على الله، ووعده على ذلك الإجابة والإثابة، كقوله تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٢. وقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ٣ الآية، وقوله: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ ٤ الآيات.
فهذا هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمدا ﷺ، وأمره أن يقول لهم: ﴿إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا﴾ ٥، فقصر الدعاء على ربه الذي هو توحيد الإلهية، وقال: ﴿قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدا﴾ ٦ إلى آخر الآيات، وهذا هو توحيد الربوبية، فوحَّد الله في إلهيته وربوبيته، وبيَّن للأمة ذلك كما أمر الله تعالى.
_________
١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٤٥)، وأحمد (١/٢٣،١/٢٤،١/٤٧) .
٢ سورة غافر آية: ٦٥.
٣ سورة غافر آية: ٦٠.
٤ سورة الجن آية: ١٩.
٥ سورة الجن آية: ٢٠: ٢٣.
٦ سورة الجن آية: ٢١.
1 / 227
وقال تعالى ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ ١ أمره بقصر الرغبة على ربه تعالى، وقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ ٢ ونهى عن الاستعاذة بغيره بقوله تعالى عن مؤمني الجن: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ ٣.
واحتجَّ الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وغيره على القائلين بخلق القرآن بحديث خولة بنت حكيم مرفوعا: "من نزل مَنْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات"٤ الحديث، على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقا لَمَا جاز أن يستعاذ بمخلوق؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير يظهر بالتدبر.
عبادة النصارى وتأليههم للمسيح
وأما قول المعترض: إن النصارى يقولون: إن المسيح ابن الله. نعم قاله طائفة منهم، وطائفة قالوا: هو الله، والطائفة الثالثة قالوا: هو ثالث ثلاثة، وبهذه الطرق الثلاث عبدوا المسيح ﵇، فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح، وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك كما قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ٥.
فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح والأحبار والرهبان: أما المسيح فعبادتهم له بالتألُّه وصرف خصائص الإلهية له من دون الله كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ ٦، فأخبر أن الإلهية وهي العبادة حق لله لا يشركه فيها أولو العزم ولا غيرهم، يبين ذلك قوله: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ ٧.
اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان فإنهم أطاعوهم في تحليل ما أحلوه لهم من الحرام، وتحريم ما حرموه من الحلال عليهم.
_________
١ سورة الشرح آية:٧، ٨.
٢ سورة الأنبياء آية: ٩٠.
٣ سورة الجن آية: ٦.
٤ مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (٢٧٠٨)، والترمذي: الدعوات (٣٤٣٧)، وابن ماجه: الطب (٣٥٤٧)، وأحمد (٦/٣٧٧)، والدارمي: الاستئذان (٢٦٨٠) .
٥ سورة التوبة آية: ٣١.
٦ سورة المائدة آية: ١١٦.
٧ سورة المائدة آية: ١١٧.
1 / 228
ولما قدم عدي بن حاتم على النبي ﷺ بعد فراره إلى الشام- وكان قبل مقدمه على النبي ﷺ نصرانيا- فلما قدم على النبي ﷺ مسلما، تلا عليه هذه الآية: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ١ قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم، فقال النبي ﷺ: "أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم".
ففيه بيان أن من أشرك مع الله غيره في عبادته، أو أطاع غير الله في معصيته فقد اتخذه ربا ومعبودا، وهذا بيِّن بحمد الله.
نبذ الشرك وعبادة الله وحده
فلو تأمل هذا الجاهل قول الله تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ ٢، لعلم أن الله قد أنكر على النصارى قولهم وفعلهم، وعلى كل من عبد مع الله غيره بأي نوع من أنواع العبادة، لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد، وألفوا الشرك وأحبوه وأحبوا أهله، فترامى بهم هذا الداء العضال إلى ما ترى من التخليط والضلال والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولا شفاء لهذا الداء العظيم إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية والإقبال على تدبر الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين. كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ٣، ومثل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ٤. أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب إلى أن يخلصوا العبادة لله وحده، ولا يشركوا فيها أحدا من خلقه، فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم كالمسيح ابن مريم ويعبدون أحبارهم ورهبانهم.
وتأمَّل قوله: ﴿كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ ٥، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسوله ﷺ إلى جميع من أرسل إليه كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
_________
١ سورة التوبة آية: ٣١.
٢ سورة المؤمنون آية: ٩١.
٣ سورة يونس آية: ٥٧.
٤ سورة آل عمران آية: ٦٤.
٥ سورة آل عمران آية: ٦٤.
1 / 229
اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ ١.
وقوله: ﴿وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ ٢ يعم كل شرك دقَّ أو جلَّ، كثر أو قل.
دعوة جميع الرسل إلى عبادة الله وحده
قال العماد ابن كثير في تفسيره: "هذا الخطاب مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، وقوله: ﴿سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ ٣ أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ ٤ لا وثنا ولا صنما ولا صليبا ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له".
(قلت): وهذا هو معنى لا إله إلا الله، ثم قال: "وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ٥، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٦ ". انتهى المقصود منه.
وقال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ٧ الآية. قال محمدبن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "قال أبو رافع القرظي-حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ﷺ ودعاهم إلى الإسلام-: أتريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس: أَوَذَاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال، فقال رسول الله ﷺ: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" أو كما قال ﷺ. فأنزل الله ﷿ في ذلك ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ٨ إلى قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ٩ قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ١٠ أي: ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس:
_________
١ سورة الرعد آية: ٣٦.
٢ سورة آل عمران آية: ٦٤.
٣ سورة آل عمران آية: ٦٤.
٤ سورة آل عمران آية: ٦٤.
٥ سورة الأنبياء آية: ٢٥.
٦ سورة النحل آية: ٣٦.
٧ سورة آل عمران آية: ٧٩.
٨ سورة آل عمران آية: ٧٩.
٩ سورة آل عمران آية: ٨٠.
١٠ سورة آل عمران آية: ٧٩.
1 / 230
اعبدوني من دون الله، أي: مع الله، وإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل فَلأَنْ لا يصلح لأحد من الناس بطريق الأولى والأحرى.
ولهذا قال الحسن البصري: "لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا"، يعني: أهل الكتاب، وقوله: ﴿أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ ١ أي: لا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ٢ أي: لا يفعل ذلك؛ لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: ﴿مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ٣. وقال: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ ٤. وقال في حق الملائكة: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ ٥ انتهى. وهو في غاية الوضوح.
وبيان التوحيد، وخصائص الربوبية والإلهية، ونظائر هذه الآيات كثير في القرآن، وفي السنة من الأحاديث كذلك.
إخلاص الدعاء لغير الله
فإذا كان من المستحيل عقلا وشرعا على رسول الله ﷺ هو وجميع الأنبياء والمرسلين أن يأمروا أحدا بعبادتهم، فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة أن يقبلوا قول صاحب البردة:
سواك عند حلول الحادث العمم
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة، واللياذ الذي هو من أنواع العبادة لغير الله، وتضمَّن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستغاثة والالتجاء إلى غير الله؟ وهذه هي معظم أنواع العبادة كما أشير إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ ٦ الآية. وقوله:
﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي
_________
١ سورة آل عمران آية: ٨٠.
٢ سورة آل عمران آية: ٨٠.
٣ سورة الأنبياء آية: ٢٥.
٤ سورة الزخرف آية: ٤٥.
٥ سورة الأنبياء آية: ٢٩.
٦ سورة الرعد آية: ١٤.
1 / 231
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا﴾ ١ إلى قوله: ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ ٢. وعن أنس مرفوعا: "الدعاء مخ العبادة"٣ رواه الترمذي.
تفسير قوله " ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ "
وقوله:
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
المنافي لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ ٤. وقوله: ﴿قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا﴾ ٥. وقوله: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا﴾ ٦ الآية، وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال لابنته فاطمة وأحب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا"٧.
فتأمَّل ما بين هذا وبين قول الناظم من التضاد والتباين، ثم المصادمة منه لما ذكره الله –تعالى- وذكره رسوله ﷺ كقوله: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ ٨. وتأمل ما ذكره العلماء في سبب نزول هذه الآية، وأمثال هذه الآية كثير لم يُنْسَخ حكمها ولم يُغَيَّر، ومَنْ ادَّعى ذلك فقد افترى على الله كذبا، وأضل الناس بغير علم كقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ٩.
وبهذا يعلم أن الناظم قد زلَّت قدمه، اللهم إلا أن يكون قد تاب قبل الوفاة، والله أعلم.
لا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته
وأما قوله:
...........................
فإن من جودك الدنيا وضرتها
فمن المعلوم أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه، فمقتضى ذلك: الدنيا والآخرة ليست لله بل لغيره، وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقهم وخلقها لهم، بل أدخلهموها غيره ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ
_________
١ سورة الأنعام آية: ٧١.
٢ سورة الأنعام آية: ٧٣: ٧٥.
٣ الترمذي: الدعوات (٣٣٧١) .
٤ سورة الانفطار آية: ١٧.
٥ سورة الجن آية: ٢١.
٦ سورة يونس آية: ٤٩.
٧ البخاري: الوصايا (٢٧٥٣) وتفسير القرآن (٤٧٧١)، ومسلم: الإيمان (٢٠٦)، والنسائي: الوصايا (٣٦٤٦)، والدارمي: الرقاق (٢٧٣٢) .
٨ سورة آل عمران آية: ١٢٨.
٩ سورة هود آية: ١٢٣.
1 / 232
عَمَّا يَصِفُونَ﴾ ١.
وفي الحديث الصحيح: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" ٢. وقد قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ ٣ وقوله ﵎: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ٤، وقوله: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ ٥، وقوله: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى﴾ ٦. فلا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها
وقوله:
ومن علومك علم اللوح والقلم
..................
وهذا أيضا كالذي قبله، لا يجوز أن يقال إلا في حق الله تعالى الذي أحاط علمه بكل شيء كما قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ ٧. وقال: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ ٨. وقوله: ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ ٩. وقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ ١٠. وقال تعالى: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ﴾ ١١ والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوت الحصر.
وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والإلهية التي بعث الله رسله، وأنزل كتبه لبيانها واختصاصها بالله ﷾ دون كل من سواه، وقال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ ١٢، كقوله في آية الكرسي: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ ١٣ الآية، فقد أطلع الله مَنْ شاء من أنبيائه ورسله على ما شاء من الغيب بوحيه إليهم.
فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة، وما جرى عليهم كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ ١٤، وكذلك
_________
١ سورة الصافات آية: ١٨٠.
٢ البخاري: الرقاق (٦٤٦٧) .
٣ سورة النساء آية: ١٣٤.
٤ سورة الملك آية: ١.
٥ سورة الأنعام آية: ١٢.
٦ سورة الليل آية: ١٣.
٧ سورة الأنعام آية: ٧٣.
٨ سورة يونس آية: ٦١.
٩ سورة الأنعام آية: ٥٠.
١٠ سورة الأنعام آية: ٥٩.
١١ سورة النمل آية: ٦٥.
١٢ سورة الجن آية: ٢٦.
١٣ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
١٤ سورة هود آية: ٤٩.
1 / 233
ما تضمَّنه الكتاب والسنة من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك، أطلع الله عليه رسوله، والمؤمنون عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله، وآمنوا به.
وأما إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وما كان منها وما لم يكن، فذاك إلى الله وحده لا يُضاف إلى غيره من خلقه، فمن ادَّعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله وعلى رسوله ﷺ. فما أجرأ هذا القائل على الله في سلب حقه! وما أعداه لرسوله ﷺ ولمن تولاه من المؤمنين والموحدين!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وذكر قول عمر بن الخطاب ﵁ " إنما تنقض عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام مَنْ لا يعرف الجاهلية"؛ وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقرَّه، ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه، فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويُكَفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويُبَدَّعُ بتجريد متابعة الرسول ﷺ ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، والله المستعان". انتهى.
الموافقة في الاسم لا تنفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة
(قلت): وقد رأينا ذلك –والله- عيانا من هؤلاء الجهلة الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة، أشربت قلوبهم الشرك والبدع، واستحسنوا ذلك، وأنكروا التوحيد والسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا.
وأما قول الناظم:
...........البيت
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا
فهذا من جهله، إذ من المعلوم عند كل من له أدنى مسكة من عقل أن الموافقة في الاسم لا تنفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة، فأولياء الرسول ﷺ أتباعه
1 / 234
على دينه، والعمل بسنته، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ﴾ ١ إلى قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ٢.
موت أبي طالب على الشرك
وتأمَّل قصة أبي طالب عم النبي ﷺ وقد كان يحوطه ويحميه وينصره، ويجمع القبائل على نصرته ﷺ وحمايته من أعدائه، وقد قال في حق النبي ﷺ
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب، ومات على ذلك، وقال النبي ﷺ "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنه" ٣ أنزل الله –سبحانه-: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ ٤.
لا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي – ﷺ إلا بالإيمان به وبما جاء به من توحيد الله
فلا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي ﷺ إلا بالإيمان به، وبما جاء به من توحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ومحبته واتباعه وتعظيم أمره ونهيه، والدعوة إلى ما بعث به من دين الله، والنهي عما نهى عنه من الشرك بالله والبدع، وما لا فلا.
فعكس الملحدون الأمر، وطلبوا الشفاعة التي بعث الله رسوله ﷺ بالنهي عنها وإنكارها، وقتال أهلها بالشرك، وإحلال دمائهم وأموالهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد، وعداوة من قام به، واقتفى أثر النبي ﷺ كما تقدَّم في كلام شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- من قوله: ويكفّر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد إلى آخر كلامه.
وأما قول الناظم:
_________
١ سورة الأعراف آية: ١٥٦، ١٥٧.
٢ سورة الأعراف آية: ١٥٧.
٣ البخاري: الجنائز (١٣٦٠)، ومسلم: الإيمان (٢٤)، والنسائي: الجنائز (٢٠٣٥)، وأحمد (٥/٤٣٣) .
٤ سورة التوبة آية: ١١٣.
1 / 235
.............. البيت
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين، من اتخاذهم الشفعاء ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله زلفى، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ ١. فهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين فقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ ٢.
فتأمَّل كون الله تعالى كفَّرهم بقولهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ٣ وقال في آخر هذه السورة: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ ٤ الآية.
(قلت): وقد وقع من هؤلاء من اتخاذهم شفعاء بدعائهم، وطلبهم ورغبتهم، والالتجاء إليهم، وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون، ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه، وقد أخبر تعالى أن الشفاعة ملكه لا ينالها من أشرك به غيره، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ ٥ فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه، وسجَّل عليهم بالضلال، ولهذه الآية نظائر كثيرة كقوله: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ ٦.
فبيَّن أن دعوتهم غير الله شرك بالله، وأن المدعو من غيره لا يملك شيئا، وأنه
_________
١ سورة الزمر آية:٢، ٣.
٢ سورة الزمر آية: ٣.
٣ سورة الزمر آية: ٣.
٤ سورة الزمر آية: ٤٣، ٤٤.
٥ سورة الأحقاف آية:٥، ٦.
٦ سورة فاطر آية:١٣، ١٤.
1 / 236
لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرَّأ منه، ومن صاحبه يوم القيامة.
فمن تأمَّل هذه الآيات، انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات، ومما يشبه هذه الآية -في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعا من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه، واعتماده في حصول الشفاعة عليه، كما قد تضمنه بيت الناظم- قول الله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ١.
الشفاعة الشركية والشفاعة الشرعية بقيديها
فانظر كيف حرمهم الله الشفاعة لما طلبوها من غيره، وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم بطلبها في دار العمل من غيره، وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ﴾ ٢. وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ ٣.
فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها شرك، وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له، وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ ٤ الآية، إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص، كما قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ ٥، وقال: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ ٦، وقال: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ ٧، وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ٨ إلى قوله: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ ٩.
_________
١ سورة يونس آية: ١٨.
٢ سورة البقرة آية: ٢٥٤.
٣ سورة الأنعام آية: ٥١.
٤ سورة الحج آية: ١٧.
٥ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
٦ سورة الأنبياء آية: ٢٨.
٧ سورة النجم آية: ٢٦.
٨ سورة الأعراف آية: ٥٤.
٩ سورة يونس آية: ٣.
1 / 237
وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة من شاء الله ممن مات لا يشرك بالله شيئا". وقال له أبو هريرة ﵁: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" ١. قال شيخ الإسلام في هذا الحديث: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله".
وقد كشفنا -بحمد الله- بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافتراءه على الله ورسوله، فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وإن اتخاذ الشفعاء إنما هو بدعائهم، والالتجاء إليهم، وسؤالهم أن يشفعوا للداعي، وقد نهى الله عن ذلك، وبيَّن أن الشفاعة له، فإذا كانت له وحده فلا تُطْلَب إلا ممن هي ملكه، فيقول: اللهم شفِّع نبيك في؛ لأنه تعالى هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه، وهو الإخلاص كما تقدم بيانه.
وأما قول المعترض: إن المعتزلة احتجُّوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين.
فأقول: لا ريب أن قولهم هذا بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض، تقول: إن الشفاعة تثبت لمن طلبها وسألها من الشفيع، فجعلت طلبها منه موجبا لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة -بحمد الله-، والحق أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده، ورغب إليه فيها، وأخلص له العبادة بجميع أنواعها.
وهذا هو الذي تقع له الشفاعة قبل دخول النار أو بعده إن دخلها بذنوبه، فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الإخلاص كما صرحت بذلك الأحاديث، والله أعلم.
وقد قدمنا ما دلَّ عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا
_________
١ البخاري: العلم (٩٩) والرقاق (٦٥٧٠)، وأحمد (٢/٣٧٣) .
1 / 238
وإثباتا فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق، فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعا يطلب الشفاعة منه؛ فيرغب إليه في حصولها، كما في البيت المتقدم، وهو كفر كما صرَّح به القرآن.
حديث الشفاعة العظمى
وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين، وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة، ودانوا به.
والحديث الذي أشار إليه المعترض من قوله: "أنا لها، أنا لها" ١ لا ينافي ما تقرر، وذلك أن الناس في موقف القيامة إذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب، وكلٌّ ذكر عذره، قال النبي ﷺ في هذا الحديث: "فيأتوني فَأَخِرُّ بين يدي الله ساجدا -أو كما قال- فأحمده بمحامد يفتحها علي، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تُشَفَّع، قال: فَيُحَدُّ لي حدا، فأدخلهم الجنة".
فتأمَّل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه، وقوله: "فيحد لي حدا" فيه بيان أن الله هو الذي يحد له. [سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه]
وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر، والتوسل إلى الله بدعائه كما كان الصحابة ﵃ يسألون رسول الله ﷺ في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره.
ولما توفى الله رسوله ﷺ لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة، ففرَّق أصحاب رسول الله ﷺ، - وهم أعلم الأمة وأفضلها- بين حالتي الحياة والممات. وكانوا يصلون على النبي ﷺ عند دخول المسجد والخروج منه، وفي الصلاة والخطب وعند ذكره امتثالا لقوله ﷺ: "لا تجعلوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم" ٢.
التوسل بالنبي – ﷺ بعد وفاته لا يجوز
ولما أراد عمر ﵁ أن يستسقي بالناس، أخرج معه العباس بن
_________
١ البخاري: التوحيد (٧٥١٠)، ومسلم: الإيمان (١٩٣) .
٢ أبو داود: المناسك (٢٠٤٢)، وأحمد (٢/٣٦٧) .
1 / 239
عبد المطلب ﵁ فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا؛ فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، فيدعو. فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات رسول الله ﷺ بعد وفاته، لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي ﷺ إلى عمه العباس، فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي ﷺ بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعا منهم. لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-:" وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك، فقال أبو الحسن القدوري -في شرح كتاب الكرخي- قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم؛ لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه.
وقال ابن بلدمي -في شرح المختار-: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب ١. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع لقضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له والطواف، وتقبيله
_________
١ لكن نقل الشافعي في "الأم" عن أبي يوسف: أن الحرام ما كان يطلق عند السلف إلا على ما كان بيِّنا في كتاب الله بلا تفسير، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن السلف ما كانوا يحرمون شيئا إلا بدليل قطعي". نقله عنه ابن مفلح في "الآداب الشرعية"، وذكر أن في مذهب أحمد روايتين في المسألة الثانية أن التحريم يثبت بالدليل الظني، أيضا. اهـ بالمعنى، ونحن نتبع السلف ﵃.
1 / 240
واستلامه والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم.
مراتب البدع عند القبور
قال شيخنا -قدَّس الله روحه-: "وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس". قال: "وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه، ويتمثَّل لهم الشيطان أحيانا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أن يسأل الله به". قال: وهو بدعة باتفاق المسلمين.
(والثالثة): أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من الناس يفعل ذلك. انتهى.
ففرض على كل أحد أن يعلم ما أمر الله ورسوله به، من إخلاص العبادة لله وحده، فإنه الدين الذي بعثه الله به، وأن يترك ما نهى الله عنه ورسوله ﷺ من الشرك فما دونه كما قال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ١ الآية، وأن لا يدين الله تعالى إلا بما دلَّ الدليل على أنه من دين الله، ولا يكون إمعة يطير مع كل ريح.
فإن الناس من أمة محمد ﷺ والأمم قبلها قد تنازعوا في ربهم وأسمائه وصفاته، وما يجب له على عباده، وقد قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ٢.
فيا سعادة من تجرَّد عن العصبية والهوى، والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة، فإن العلم معرفة الهدى بدليله، وما ليس كذلك فجهل وضلال.
النبي ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو
وأما قول المعترض: فانظر إلى (الشفاء) تجده حكى كفر مَنْ قال مثل هذه الكلمة
_________
١ سورة يونس آية: ١٠٦.
٢ سورة النساء آية: ٥٩.
1 / 241