وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
في قابلية الإنسان للتربية وطلب العمران
اعلم أننا إذا تأملنا في الإنسان من حيث ناطقيته وعظيم بنيته وبما أودعه الله به من سر القوى العقلية والصفات البشرية، وجدناه قابلا للتربية مائلا بالطبع للتعزز على ما عداه من جميع الحيوان، متسلطنا بصفة إدراكاته العقلية على المواليد الحيوانية والنباتية والمعدنية، محبا للتأنيس والاجتماعات البشرية ليدفع بها غوائل من عداه ويأمن على نفسه؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - كما فضل الإنسان على ما عداه من الحيوان بمزية العقل والإدراك والناطقية التي يتحصل بها على الألفة والجنسية والتأنيس والاجتماعات البشرية التي يدفع بها الغوائل الحيوانية، كذلك خص بقية الحيوانات على اختلاف أجناسها وتباين أشكالها بما لم يخص به الإنسان، فخص بعضها بالقوة والبطش كالأسد ليهابه غيره، وخص بالعدو من هو أضعف منه قوة وأصغر جثة كالغزال لينجو بقوة عدوه من كيد عدوه، ومنها ما خصه بغلظ الجلد ليدفع عنه شر الحر كالفيل وكالسنور بالفراء وكثرة الشعر ليتقي بهما شر البرد، وكالأرنب بكثرة السمع واليقظة ليأمن شر الاغتيال. وهكذا جميع الحيوانات على اختلاف أجناسها.
فالإنسان بالنسبة لغيره يحتاج في جميع ذلك لاستعمال قواه الفكرية وحواسه العقلية، كما لا يتم له ذلك إلا بقوة الاجتماعات البشرية والألفة التأنيسية التي هي معه غريزة طبيعية، وبها يمكنه إعمال جميع قواه الفكرية للاستحصال على درجات الحضارة والعمران واجتناء ثمرات التمدن والمهارة في سائر أعماله. وإلا فلولا حبه للألفة والاتحاد وتفضيله الامتزاج عن الوحدة والانفراد، لكان فريسة لغيره خائفا على الدوام في نفسه. فبتلك المزايا الشريفة التي خص بها كما ذكرنا، وبقوة الاجتماع وانضمام القوى العقلية البشرية للبحث عما اشتملت عليه الكائنات من العجائب واستقصاء أسباب التمدن والتقدم، يتحصل على نتائج السعادة الدنيوية والأخروية.
ثم إن الإنسان يختلف بعضه بالتمدن والحضارة وحب التقدم، وبعضه بالدعة والسكون وحب الكسل، والبعض لا يكاد يميز عن الحالة الوحشية إلا بالهيئة البشرية وبعض استعمال القوة العقلية. فالنوع الأول من تمكنت منه أسباب التربية البشرية والحالة الحضرية المدنية، والنوع الثاني الذي لعدم استكمال تلك التربية فيه وتمكنها منه يكون غالبا مولعا بحب الدعة مائلا للكسل، والنوع الثالث هو الذي يفضل ألفته الجنسية النوعية عن الاختلاط والامتزاج بمن جاوره من الأمم، فيكون في حالة حشمة بعيدا عن التمدن والحضارة مشهورا بالجفاء والقسوة.
فأما النوع الأول؛ فهو غني باستكمال التربية فيه وتمكنها منه عن الحث على طلب أسباب الحضارة والتقدم. وتأثير الهمة الإنسانية فيه كافية له في جميع مقاصده؛ إذ بها يتسلطن على من جاوره ويحوز كمال الشرف وباذخ المقام.
وأما الثاني - يعني: المائل للدعة التي هي في الإنسان غريزة طبيعية - فهو الذي يكون مولعا بالقوة الشهوانية التي هي في الحقيقة خدمة للجسم مذمومة أحيانا في الإنسان. وتلك القوة هي التي تجذب الإنسان عقيب تعب الأعمال الفكرية أو البدنية إلى الراحة والسكون، كما تدفعه قوة العمل عن مركز البطالة وحب النشاط والحركة والأعمال. وهاتان القوتان هما حالتان في الإنسان لا تكاد ترجح إحداهما عن الأخرى، بل هما في الإنسان على حد سواء.
فالأولى تسمى قوة الشهوة والملاذ التي تدعو الإنسان لجميع الملاذ البدنية، فتلقيه في مهاوي التأخر وحب الشهوات الحواسية، وتوصله إلى الدرجة الحيوانية. وأما الثانية فتسمى بقوة الأمل والعمل، وهي التي تبعث الإنسان على حب الأثرة والتقدم وكمال الائتناس، وبها تكون راحة الروح واستكمال فضيلة النفس والروح النورانية أو النفس التي تكون قد حازت الفضيلة التامة؛ حيث تجمع في الإنسان ضروب السلطنة العقلية وتبين له درجات الكمال الكاملة المدنية. وهاتان اللذتان المتباينتان، وإن اشترك فيهما جميع النوع البشري على اختلاف طبقاته وتباين درجاته، إلا أن لذة العمل منحة إلهية ولذة الكسل والدعة محبة شهوانية.
ومن فضل الله - سبحانه وتعالى - على عبده أن علمه وجوه المكاسب وأوقفه على دقائق الفنون والصنائع؛ حيث ذم البطالة ومدح السعي بقوله - تعالى:
نامعلوم صفحہ