الفصل الأول
ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الإسلامي
من تأمل في سريان قوة الأمة الإسلامية في مبدأ ظهور الإسلام، وامتداد عنصرها في الأقطار، وتقدم سلطتها وانتشار شريعتها في غالب الأمصار، في مدة لا تزيد عن الثلاثين إلى الثمانين سنة عن يد طائفة من العرب قليلة، قد لبت دعوة نبيها - عليه الصلاة والسلام - حين دعاها للحق، فانتضت أمامه من غمد الحزم والعزم والإيمان سيفا ما قوي على إغماده أحد، بل كافة أمم العالم أخذتها الحيرة والانذهال وتحقق لديه ما لتلك الشريعة من الأسرار الإلهية والسياسية الشرعية التي جعلت العالم ينقاد لأمر بعث الله به نبيه بالحق للناس، ألا وهو الإقرار بوحدانية الله - تعالى - واتباع سنن القوانين الإلهية المبنية على العدل. فأدى - عليه الصلاة والسلام - رسالة ربه للناس وبث في الوجود أنوار العدالة والاهتداء.
ثم قام بعد نبيهم لإتمام تلك الدعوة الخلفاء الراشدون، وسلكوا من السبل ما به قوام وانتشار هذا الدين، وأحسنوا السياسة مع الخلق ونهجوا أقوم السبل التي تؤدي بالإنسان إلى الحق، وبثوا في الوجود روح العدل والإيمان؛ فانتعشت أرواح العباد، ودانت لهم جميع البلاد.
ثم نهج من والاهم من خلفاء الدول الإسلامية منهج سلفائهم باتباع الخطط المؤدية لتقدم هذه الأمة وامتداد شريعتها في الأقطار، حتى أتاح الله لهم من الفتوحات العظيمة والتقدم ما كان أشبه بسيل طمي على آسيا فعم العرب والعجم، وتجاوز حدود تركستان إلى الهند والصين، ودخل أراضي الروم الآسيوية مشرفا على أوروبا، واتخذ له مجرى آخر فانصب نحو فلسطين ثم إلى مصر وإفريقية، واجتاز البحر إلى الأندلس حتى بلغ ممالك المغرب الأوروباوية. وهذا كله مما يتعذر على جميع الدول الأوروباوية تملكه حين ذاك، ما لم تكن عناية من الله - سبحانه وتعالى - أراد بها انتشار هذا الدين، ليكون سبب انتظام العالم وانتشالهم من ورطات التهور والجهل؛ فإنه بينما كانت أوروبا وقتئذ تخبط في ظلمات الجهل خبط عشواء، كان التمدن الإسلامي آخذا بالانتشار شيئا فشيئا في الأرض.
والأمة العربية منتضية سيف العدل لاستئصال جراثيم الجهالة من عنصر الوجود، حتى تسنى لها في أقل من قليل تمدين أكثر الأمم وإرشادهم لطرق الصواب. وكان تحت الخلافة الإسلامية حينئذاك في دمشق الشام «أعني دولة الأمويين»، ثم الأنبار، ثم انتقل إلى بغداد «أعني دولة العباسيين»، وكانت عواصم المسلمين وقتئذ تزهو بالعلماء وأرباب الفنون والصنائع، كما كانت بغداد محطا لرجال التجارات المشرقية والمغربية، تلوح في سمائها نجوم العلماء وتتباهى بتقدمها على جميع البلاد.
قال المؤرخون: كانت بغداد تشتمل على ثلاثين ألفا من القصور، وثمانية جسور رخامية على دجلة، واثني عشر ألف طاحون بجانبيه، وثمانمائة مسجد وثلاثمائة جامع وثمانمائة مدرسة، واثني عشر ألف مكتب، وثمانية عشر ألف حمام ونيف. وكانت بما أنها كرسي الخلافة مركز التجارة بين المشرق والمغرب، فكان فيها أكثر من ألف خان للقوافل وأربعمائة سوق للأقمشة. وهذا دليل على ما كان لها من سعة دائرة التجارة والخيرات.
قالوا: ولم يوجد مدينة كبغداد لا في العلوم ولا في الصنائع ونحوها في مدة أجيالها الخمسة، فلا الكوفة ولا المدينة ولا الشام قاعدة الخلافة الأموية ولا القاهرة تحت العلويين ولا سمرقند ولا دلهي ولا قرطبة ولا القسطنطينية مع عظم بنائها وشهرتها.
وفي الحقيقة كانت بغداد خصوصا وسائر الممالك الإسلامية عموما في زمن الدولة العباسية تتمايل كالعرائس بسعة دائرة المعارف والعلوم، فإن الله لما صرف الملك عن الأمويين إلى هذه الدولة الهاشمية، ثابت الهمم من غفلتها وثارت الفطن من رقدتها، وكان أول من عن منهم بالعلوم أبا جعفر المنصور، قالوا: «وكان مع براعته بالفقه، كلفا بعلم الفلسفة وخاصة في علم النجوم، ثم تلاه الرشيد، وهو باعتبار بدء الخلافة من إبراهيم الإمام سادسهم وباعتبارها من السفاح خامسهم.» وقام هذا الخليفة أيضا بخدمة العلوم والدين أتم قيام، وهو الذي أهدي بزمانه لشارلمان ملك فرانسا الساعة الدقاقة التي عدت في وقتها من فضائل العرب كما سيأتي تفصيل وصفها. ثم لما أفضت الخلافة لابنه المأمون تمم ما بدأ فيه جده المنصور، وأقبل على طلب العلوم وسام ملوك الروم صلته بما لديهم عن كتب الفلسفة، فأرسلوا له ما استحضرهم منها، وكلف لترجمتها مهرة العلماء، فترجمت له على غاية ما أمكن، وجعل يحث الناس على قراءتها ويرغبهم فيها. وكان لا يزال مجالسا للعلماء آنسا بالحكماء حتى بلغت شمس الخلافة في زمانه أقصى درجة الصعود ونال العالم الإسلامي غاية السؤدد والمجد.
وكان المأمون يحب العلماء من كل نوع ويكرمهم لاسيما علماء الأفلاك. ومن المنجمين في أيامه كان حبش الحاسب المروزي الأصل البغدادي الدار، وله ثلاثة أزياج أولها المؤلف على مذهب السند هند، والثاني الممتحن وهو أشهرها، ألفه بعد أن رجع إلى معاناة الرصد وأوجبه الامتحان في زمانه، والثالث الزيج الصغير المعروف بالشاه، وله خلافها وبلغ من العمر مائة سنة. ومنهم أحمد بن كثير الفرغاني صاحب المدخل إلى علم الأفلاك يحتوي على جوامع كتب بطليموس بأعذب لفظ وأبين عبارة. ومنهم عبد الله بن سهل بن نوبخت كبير القوم في فن النجوم، ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي، ومنهم ما شاء الله اليهودي كان في زمن المنصور وعاش إلى أيام المأمون. ومنهم يحيى بن أبي منصور رجل فاضل كبير القدر مكين المكان. ولما عزم المأمون على رصد الكواكب، تقدم إليه وإلى جماعة من العلماء فأصلحوا آلاته بشماسية بغداد وجبل قاسيون بدمشق، ومن الحكماء يوحنا البطريق الترجمان مولى المأمون، أمينا على ترجمة الكتب الحكيمة حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب.
نامعلوم صفحہ