وفي الإسماعيلية رأينا الأعاجيب.
البلدة كانت تعتمد في حياتها أساسا على ما تنفقه القوات البريطانية فيها، ومع هذا كان أهلها أعنف من حارب تلك القوات.
والبلدة هز الجلاء اقتصادها، ومع هذا، فأهلها أسعد المصريين بالجلاء، إن الوطنية لا تباع أو تشترى، إنها ليست شيئا يراد، إنها في دم كل منا وأعصابه، إنها أغلى من كل دمائنا وأعصابنا، إنها أقوى من لقمة العيش. هؤلاء الناس المتناثرون كسالى يغزلون من تثاؤبهم حبال ملل طويلة، ويصنعون من البطالة نكتا وتفانين، هم أنفسهم الذين كان يرتعش من ذكرهم أرسكين.
وعلى ربوة عالية، تتحدى بعلوها الإسماعيلية ومن فيها، رأيت نصبا هائلا، وسألت عما يعنيه، قالوا إنه نصب الشهداء. وقفت أقرأ ما كتب: هذه القطعة من الأرض قدمها الشعب المصري لهؤلاء الذين ماتوا دفاعا عن الشرف من قوات المملكة المتحدة.
أما هؤلاء الذين ماتوا «دفاعا عن الشرف» فهم قتلى معركة التل الكبير وقتلى الحرب العالمية الأولى والثانية.
ولا يذكر الشعب المصري أنه قدم يوما هذه الأرض ليقام عليها نصب كهذا، ولا يعلم الشعب المصري أن من ماتوا كانوا يدافعون حقيقة عن الشرف.
أما الذي يدهش حقا، فهو أنك لا تجد لا في الإسماعيلية، ولا في أي مكان نصبا واحدا يخلد ذكرى الشهداء الذين سقطوا في معركة التل الكبير ولا في غيرها، الشهداء الذين ماتوا وهم يدافعون عن الشرف والحق، وكأننا نعترف مع الإنجليز أننا حين قاومنا كنا متمردين عصاة، لا نستحق تكريما ولا تخليدا.
وكل ما يقع عليه بصرك في الإسماعيلية يذكرك بتاريخ ناصع قريب، هذا مبنى القيادة الإنجليزية في الشرق الأوسط، هذه العمارة كان يحتلها البوليس الحربي، هذا هو الميدان الذي صوبت منه الطلقات إلى جنازة الشهداء.
وهذه الشرفة قتلت منها الممرضة الأمريكية، وتلك المحافظة وهذا هو سورها المشهود خلف هذا السور الأبيض الفقير المنخفض ظل عساكر بلوكات النظام يحاربون إلى آخر رمق وآخر طلقة في تلك المسافة التي لا تتعدى الخمسين مترا استشهد أكثر من خمسين عسكريا مصريا في ريعان الشباب. هنا دارت معركة المحافظة، وعلى هذا التراب الذي لم يتغير لفظ الشهداء آخر الأنفاس، إن التراب لا يزال كما هو، أما السور فقد أعيد بناؤه لأن الدبابات البريطانية اكتسحت السور القديم حين داهمت مبنى المحافظة لتتم المجزرة، داست فوق جثث العساكر الشهداء، فالتصقت جثث ببعضها، وتفتتت جثث حتى إنهم كانوا يجدون العناء في انتزاع الجثة من الجثة، والشهيد من الشهيد.
وسمعنا في الإسماعيلية بقايا قصص البطولة، القصص التي كانت أخبارا فمضت تلف وتدور حتى أصبحت حواديت وملاحم كملحمة أدهم الشرقاوي.
نامعلوم صفحہ